توضيح بالإكراه عن زكريا تامر وشؤون أخرى
توضيح بالإكراه
عن زكريا تامر وشؤون أخرى
د. نضال الصالح
لم يكد حبر المناقشة العلنية لأطروحة دكتوراه عن الشخصية في قصّ زكريا تامر في كلية الآداب بجامعة دمشق يجفّ، ولم تكد صحيفة سورية تنشر تغطية إعلامية لتلك المناقشة، أقلّ ما يمكن أن توصف به هو اقتطاعها الكلام من السياق الذي ورد فيه، ثمّ جهرها بإهمال ما قيل في الأطروحة نفسها، وقصدها، لأهداف لا بدّ من أن تكشفها القادمات من الأيام، لصرف أنظار القراء والمثقفين والمعنيين بالبحث العلميّ في الجامعات السورية عن الأطروحة نفسها أيضاً. لم تكد تنشر تلك الصحيفة ما نشرته، حتى تدافع متدافعون، وتبارى متبارون لتوجيه التحيات، والصلوات، والطيبات، إلى زكريا تامر، ليس في الصحافة فحسب، بل في غير موقع من شبكة الأنترنت أيضاً، زاعمين أنّ ثمّة أذى قد لحق به على ألسنة بعض أعضاء لجنة الحكم، وإلى حد لم يعد معه من بدّ، كما بدا من ذلك، سوى تدويل "القضية"، وتشكيل محكمة "كوزموبوليتانية"، لا دولية فحسب، تتخذ قرارات عاجلة بنصب مشانق لاثنين من أعضاء اللجنة، الدكتور خليل الموسى وأنا، لنيلهما من قامة "إبداعية" باسقة.
ولأنني كنت أثق بأنّ زكريا تامر لن تنطلي عليه لعبة الاتجار باسمه، ثمّ لأنّني كنت أعرف مرجعيّات مشاركة بعضهم في تلك "الهوجة" وأسبابها ودوافعها، فقد استقبلتُ ما كُتب بكثير من الرثاء للحال التي وصل إليها بعض كتّابنا وإعلاميينا الأشاوس، وآثرت الاكتفاء بمتابعة ذلك المسلسل المكسيكي المثير للتثاؤب.
ولكن، وقد تكثّر غبار "الهوجة" التي لا يليق بها سوى التعبير العربيّ القديم "برق الخُلّب"، حتى كاد يعني ما تحته حقاً، وبعد أن تفضّل بعض مَن حضر المناقشة بقول كلمة حق مكتوبة في الصحافة، واستجابة لدعوة كثير من الأصدقاء المبدعين والمثقفين لي بضرورة توضيح ما قلت، وما أنا موقن به، أوجز القول، مكرهاً، فيما يلي:
1. أجل أنا نفيت أن يكون زكريا تامر أديباً، ولكنني نفيت ذلك في سياق مناقشة علمية للعنوان الذي اختارته الطالبة لعملها، وقلت إنّه كان عليها أن تختار واحداً من العنوانين التاليين: "الشخصية في القصة القصيرة عند زكريا تامر"، أو "الشخصية في قصّ زكريا تامر"، لا "الشخصية في أدب زكريا تامر" كما ورد لديها، منطلقاً من أنني أحكّم عملاً أكاديمياً يتطلّب الحدّ الأدنى من أصول البحث العلميّ وأدواته، التي منها مجافاة الإنشاء ووضع المفردة في موضعها الدقيق. ومن ثمّ، وفي السياق نفسه، أوضحت ما الذي أعنيه بعبارة أنّه من ضيق الأفق، في البحث العلميّ، أن نتحدث عن أدب لدى زكريا تامر، بل عن قصة قصيرة، ذلك أنّ مفردة "أدب" في البحث العلميّ تعني تعدّد اشتغالات الكاتب في غير جنس أدبيّ، كالقصة، والرواية، والمسرحية، و.. على حين أن تامر لم يمارس، في حقل الكتابة الفنية، سوى فنّ القصة القصيرة، ولذلك كان عليها أن تختار واحداً من العنوانين اللذين أشرت إليهما آنفاً، لكي لا يلتبس الأمر على غير المختص، فيتوهم بنفسه، أو نوهمه نحن، بأنّ تامر أنجز قصاً، ورواية، و.. والخطأ في عنوانٍ على ذلك النحو يشبه الخطأ في عنوان مثل: "المرأة في أدب امرئ القيس" مثلاً، أو "استلهام التاريخ في أدب سعد الله ونّوس"، بينما صواب الأول علمياً: "المرأة في شعر امرئ القيس"، وصواب الثاني: "استلهام التاريخ في مسرح سعد الله ونوس".
2. أجل أنا نفيت عن زكريا تامر أيضاً أن يكون مبدعاً لا يداخل مجمل نصوصه القصصية شيء من الوهن الفنّي، شأن أيّ مبدع، ورأيت أنّه كان على الطالبة أن تنأى بنفسها وعملها عن التصفيق المجّاني الذي أحكم بقبضته الغاشمة على كثير من أدائنا النقدي، فواجب الناقد، ولاسيما الباحث الأكاديمي، أن ينجز بحثاً علمياً يتفحص من خلاله النصوص التي يقاربها نقدياً بنفسه، لا ما استقرّ أو تواتر في كتابات الآخرين حول تلك النصوص، ولاسيّما ما تدافع في الكتابات الإعلامية التي تكتفي، في الأغلب الأعمّ منها، بتمجيد مجمل ما أنجز المكتوب عنه، وبالقول بالطهارة الفنّية المطلقة لذلك المكتوب. ولم أقل ذلك تقليلاً من شأن قصّ زكريا تامر، ولاسيما في عقدي الستينيات والسبعينيات، فزكريا تامر نفسه يقدّر بنفسه أنّ نصوصه القصصية ليست كلّها على سويّة فنّية واحدة، ولم أقرأ له، أو أسمع منه، يوماً، أنّ مجمل ما قدّمه إلى المكتبة العربية في حقل القصة القصيرة باهر فنّياً، وينادد بعضُه بعضَه الآخر في قوة البناء أو الصياغة أو التعبير.
3. أجل أنا نفيت، ثالثاً، إمكان كتابة أكثر من خمسين صفحة حول عنصر الشخصية في قصّ زكريا تامر، لأنّه ما من مجال في البحث العلميّ للإنشاء، أو المترادفات، وقلت ذلك في معرض مقاربتي لعمل الطالبة الذي بلغ نحو أربعمئة صفحة كان من الممكن اختزالها إلى نحو خمسين صفحة من دون أن يصيب العمل أيّ خلل ما، ومن أيّ درجة ما، ولاسيما أنّ الطالبة كانت وضعت كتابات تامر القصصية للأطفال إلى جانب مجموعاته القصصية المعروفة.
4. أجل أنا طرحت سؤالاً على قسم اللغة العربية عن صواب تسجيل أطروحة دكتوراه عن قصّ زكريا تامر، بل أطروحة دكتوراه عن عنصر فحسب من عناصر القصّ عند زكريا تامر، منطلقاً من بدهيتين في البحث العلميّ: الأولى تتعلّق بتعريف "الأطروحة" التي تعني مقاربة ظاهرة، أو موضوع، أو مشكلة، تتجاوز الفرديّ إلى الجماعي، أو هي "تطرح" قضية، وتحاول البحث عن إجابات للأسئلة التي تثيرها، والثانية تتعلّق بعنصر الشخصية في فنّ القصّة، الذي، على النقيض من مثيله في الفنّ الروائي، يتسم، عادة، وشأن الفنّ القصصي عامة، بالتكثيف، والاختزال، والاقتصاد، الأمر الذي ينفي عن أيّ محاولة بحثية في مجاله انتسابها إلى التعريف العلميّ للأطروحة، ولاسيما إذا اقتصرت المحاولة على تجربة قاصّ واحد وعنصر واحد.
5. أجل أنا نفيت، خامساً، أن يتمّ استقبال مجموعة زكريا تامر الأولى: "صهيل الجواد الأبيض"، فيما لو صدرت اليوم، على النحو الذي استُقبلت فيه لدى صدورها مطلع الستينيات، وقلت ذلك في معرض كلام علميّ ينطلق من البدهية النقدية القائلة إنّ النصّ الإبداعي ابن شرعيّ لشرطه التاريخي والجمالي، وللحساسية الفنية في المرحلة التي أنتجته. وإذا كان ثمّة أحد يرى نقيض ذلك، فهذا شأنه وشأن قدرته على وعي تحولات الكتابة السردية العربية عامة، واستراتيجيات القراءة، وآليات التلقّي، من جهة، وعلى وعي حركة الواقع بتجلياته المختلفة، السياسية والاجتماعية والثقافية، والعلمية أيضاً، من جهة ثانية. وأحيل، في هذا المجال، على قرار كانت الجامعات البريطانية اتخذته قبل أعوام بإلغاء عقود لها مع "كبار" الكتّاب البريطانيين لطباعة مؤلفاتهم وبيعها للطلبة بأسعار تمكّنهم من شرائها وقراءتها، بسبب اكتشافها أنّ كتب أولئك ظلّت حبيسة المستودعات لسنوات، لانصراف الطلبة عنها إلى مؤلّفات أكثر تمثيلاً، على غير مستوى، للإنجازات الجمالية للعصر الذي ينتمون إليه.
6. أجل أنا ضدّ ثقافة التوثين، وشرف كبير لي أن تُنسب لي "نظرية" في هذا المجال، لأنني أزعم أنني قرأت مجمل ما صدر من مجموعات قصصية وأعمال روائية سورية، ممّا تواترت الكتابة عنه في المؤلفات النقدية والدوريات، وممّا لم يسمع به أو باسم كاتبه أو كاتبته ما لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة. وإذا كنت رددت، في غير حوار أو ندوة أو محاضرة أو مقال، أنّه من الواجب علينا إعادة قراءة تاريخ السرد القصصي والروائي السوري وراهنه، والكتابة عنه مخلصين للإبداع وحده، فلأنني كنت أكتشف، بعد قراءة هذه المجموعة المنسية أو تلك، أو هذه الرواية المجهولة أو تلك، فداحة ذهنية الإقصاء، والتهميش، والنفي، التي مارسها، ويمارسها، كثير من نقادنا وإعلاميينا بحقّ طاقات إبداعية جديرة بالتقدير، وسيرى القارئ تفصيل ذلك كلّه وسواه في الكتاب الذي سيصدر لي في ثلاثة أجزاء بعنوان: "ذهنية التوثين: نحو تأريخ جديد للقصة والرواية ونقدهما في سورية"، والذي يتضمّن، في غير موقع منه، قرائن عدة على أنّ عدداً غير قليل ممّن يحلو لسواي النظر إليهم بوصفهم رموزاً لم يكتب على امتداد نحو أربعة عقود من الزمن، أو أكثر، سوى نص واحد، وأنّ مجمل ما كتب لم يكن سوى تنويعات على ذلك النصّ، وأنّ عدداً غير قليل منهم أيضاً لن يجد صحيفة أو مجلة تستقبل مادة له، أو تغامر في نشرها، أو أن يجد ناشراً لمجموعة قصصية أو عمل روائي له، إذا كانت تلك المادة أو المجموعة أو الرواية موقّعة باسم آخر غير اسمه. وإذا كانت "نظريتي" تلك قد أغضبت، أو ستغضب، عبدة الأوثان، فأؤكّد، باطمئنان كبير، أنّ "الإرهاب الثقافي" الذي يمارسه، وقد يمارسه، أولئك، أو أولياء نعمتهم، لن يهزّ شعرة فيّ.
7. أجل، فيما أنجزت من دراسات ومؤلفات، خصصتُ غير كاتب بغير دراسة، ولكنّني لم أقل بأنّ أيّاً ممّن كتبت عن نتاجه إنه "يتيمة الدهر وفريدة العصر"، كما لم ألحق به أيّ صفة خارج نصّية. والقول بنقيض ذلك ليس جهلاً فادحاً بما أنجزتُ فحسب، بل، أيضاً، إمعاناً في الجهر بالجفاف المعرفيّ الذي يعانيه ممّن كتب مدّعياً أنني نفسي أسهمت في الإعلاء من شأن هذا الكاتب أو ذاك، ذلك أنّ تردّد اشتغال الناقد، أيّ ناقد، على غير نصّ لكاتب بعينه لا يعني ما توهمه أولئك، فالمعوّل عليه دائماً ليس حجم ما يكتب الناقد عن هذا الكاتب أو ذاك، بل مدى إخلاصه للنصّ.. النصّ وحده.
8. سأفترض أنّ ما جاء في الصحيفة / الجذر هو ما قلته حقاً، ثمّ سأفترض أيضاً أنّ ما تلا ذلك من "هوجة" خالص لوجه الدفاع عن زكريا تامر أو أدبه، وسأفترض، ثالثاً، أنني نقضت، وسأنقض، ما كنت كتبت حول نتاجه، أو حول نتاج سواه. سأفترض ذلك كلّه لأؤكّد أولاً أنّه ما من نصّ أدبيّ، في البحث العلميّ، له أو لكاتبه حصانة من أيّ شكل كان، ومن أيّ درجة كانت، مهما أمعنت شهرته في ترميد عيون كثرة من القرّاء والكتّاب، وثانياً أنّه ما من حقّ أحد أن يصادر على غيره رأياً له، أو موقفاً، حتى لو رأى نقيضه، إلا إذا كان يرى بعين واحدة، أو نصف عين، أو لا يريد أن يرى أبداً، وثالثاً أنّ من مهمات الناقد، بل من أولى مهماته على نحو أدقّ، إنتاج أسئلة جديدة، بل طرح أسئلة على المستقر والسائد والثابت في النقد، ثمّ سحقاً.. سحقاً.. سحقاً ثلاثاً للنقد المكوَّن، وللعقل المستقيل، ورحم الله النّفري الذي قال: "العلم المستقرّ كالجهل المستقرّ".
وبعد، فأدعو الأعزاء الذين تابعوا تلك "الهوجة" إلى قراءة الكتاب الموسوعي الكبير الذي سيصدر عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت بعنوان: "حصيلة الثقافة العربية في القرن العشرين" في الشهور القليلة القادمة، والذي تشرّفت بكتابة فصله الخاص بالقصة القصيرة في سورية خلال قرن، وسيرون أنّ كثيراً ممّا كُتب، ونُشر، وقيل، محض...، و...، و....، و....
والله من وراء القصد.