سنة التدافع وعواما النصر (6)
عمر حيمري
كما أن المشهد نفسه ، يتكرر مع جند الله من المؤمنين بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ انتصر ببدر على جيش قريش بقيادة أبي جهل على كثرة خيله ورجله وعدته واستعانته بالأحباش ، لما أيدهم الله بنصره [ ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون ] ( سورة آل عمران آية 123 ) . إن الفرق كان هائلا في العدد والعدة بشهادة القرآن الكريم ، ومع ذلك تم النصر لجند الله وهذا النصر في حد ذاته عبرة لمن يتعظ بالعبر ، لكونه مخالفا للتوقعات البشرية المبنية على استقراء وتتبع قوانين ونواميس الحياة المعتاد عليها في الحروب . وهو أيضا آية من آيات الله التي تفيد ، أنه كلما تدخلت الإرادة الإلهية في أمر ما ، إلا وأحدثت خللا في النواميس التي تسير عليها الطبيعية وأبطلتها وجعلت الأمور كلها تتم وفق إرادة الله المطلقة ، لا وفق قوانين الحياة ونواميسها ، وهو ما تبينه الآية الكريمة : [ قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار ] ( سورة أل عمران آية 13 ) . وقد يعترض معترض على هذا التوجه في الفهم ، فيقول : ولما انهزم المسلون في معركة احد ؟ فيكون جوابه ، صحيح أن المسلمين لم يكتب لهم النصر يوم أحد ، بل اجتمع لهم في هذه المعركة ، النصر والهزيمة معا ، وذلك بسبب مخالفتهم لتعليمات ووصية الرسول صلى الله عليه وسلم وعدم تنفيذ أوامره ، كنبي وكقائد للحرب ، وهذا يحدث في أي حرب في الماضي أو الحاضر ، عندما يتمرد على القائد ولا تنفذ أوامره ولا تطبق تعاليمه وخططه التي رسمها لمواجهة العدو ، ينكسر الجيش وينهزم . فسوء تقدير بعض الصحابة لأهمية الامتثال لأوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واجتهاد بعض الرماة الذي لم يكن في محله لمخالفته لأوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصريحة ، وإن كان صادرا عن حسن النية لضنهم أن المعركة حسم أمرها لصالح المسلمين ، فكان هذا ، السبب في تراجع جيش المسلمين وكان الله قادرا على نصرهم ولكنه أراد أن تكون هذه الهزيمة الجزئية درسا قاسيا للمقاتلين المسلمين ، استوعبوا وفهموا وتعلموا من خلاله مبدأ " السمع والطاعة " لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولإمام الأمة وأولي الأمر من بعده إذا نصحوا لله ورسوله وللأمة . كما أراد سبحانه أن يعرف الصحابة رضوان الله عليه ، أن المعصية والخلاف والتنازع في الأمر من نواميس الحياة ، التي يكون عاقبتها الضعف والفشل والهزيمة، لقوله تعالى :[ ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المومنين ] ( سورة آل عمران آية 152 ). ولقد عاتب الحق سبحانه وتعالى المسلمين على تخليهم عن منهج " السمع والطاعة في أوج الحرب وحملهم مسؤولية عدم اكتمال النصر ، بل عاقبهم ، وأذاقهم من شر الهزيمة لعدم أخذهم بتعليمات الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولتنازعهم ومعصيتهم ، وهو ما نفهمه من قوله تعالى : [ أو لما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير ] ( سورة آل عمران آية 165 ) . إلا أن الله عوض النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن هزيمة أحد الجزئية ، بنصر مؤزر في غزوة الأحزاب إذ تولى سبحانه وتعالى عنهم محاربة الأحزاب . إذ أرسل عليهم ريحا وجنودا لا ترى فهزمهم وحده ونصر عبده ، ورد الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى المؤمنين القتال : [ ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المومنين القتال وكان الله قويا عزيزا ] ( سورة الأحزاب آية 25 ) . كما عذب الله من ساعد الأحزاب وظاهروهم وتعاونوا وتآمروا معهم من بني قريظة وبني قينقاع وبني النضير، بأن قذف في قلوبهم الرعب والخوف والهوان فاستسلموا لقدرهم كالنعاج وذلك عاقبة الخائنين . يقول سبحانه وتعالى في حق هؤلاء وأمثالهم [ وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتاسرون فريقا وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطؤوها وكان الله على كل شيء قدير ] ( سورة الأحزاب آية 26 – 27 ) .و فتح الله سبحانه وتعالى عليهم مكة فتحا مبينا إمعانا في إذلال مشركي قريش وهزيمتهم في عقر دارهم ، ثم إتمام نعمة تعويض المسلمين عن هزيمة أحد بعد النصر في الخندق وما تلاه من نصر على يهود يثرب [ إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما وينصرك الله نصرا عزيزا ] ( سورة الفتح آية 1-2-3 ) . إلا أن المسلمين خسروا جزئيا حرب موقعة حنين لعجبهم بكثرتهم وبأنفسهم ولقولهم " لن نغلب اليوم من قلة " وكأنهم نسوا أو تناسوا أن النصر كان دائما من عند الله ولا يكون إلا من الله وبإذنه ، ولم تشفع لهم حتى قيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما أصابتهم مصيبة العجب والافتخار والكبرياء ، ولما علقوا النصر على قوتهم وكثرة عددهم وإن كانوا في الوقع ، كما يروي التاريخ أقل عددا من جند العدو بحوالي ضعفين ، ولكن قلوبهم تكبرت واستشعرت القوة بذاتها ، وغفلت عن كثرة الاستغاثة والتذرع إلى الله والتعلق به والتوكل عليه ، كمساند أساسي في عملية تحقيق النصر وكفاعل حقيقي له . ولولا أن ثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعشرة من أصحابه في وجه أزيد من ثلاثين ألفا من جيش هوازم لكانت الهزيمة حاسمة ونهائية . ولكن الله سلم ، وفي نفس الوقت أراد أن يبين مرة أخرى لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين في كل عصر ، أن القلة المؤمنة التي ثبتت مع قائدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حققت بإذن الله ما لم تحققه إثنى عشر ألفا من المسلمين ، الذين فروا في أول اللقاء من المعركة وتركوا الرسول ونفرا قليلا من أصحابه يقاتل ويستغيث من الله فكان النصر مع القلة وكانت الهزيمة مع الكثرة وهذه سنة الله ماضية في عباده إلى أن يبعثوا . ثم جاء التقريع من الله سبحانه وتعالى للذين أصيبوا بمرض العجب والكبرياء والتفاخر بالذات في خطاب له . [ لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغني عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المومنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء والله غفور رحيم ] ( سورة التوبة آية 25 – 26 -27 ) ولقد أكد الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم أكثر من مرة أن الكثرة لا تكون سببا أبد في النصر، ولا تغني عن أصحابها الضالين الظالمين العصاة شيئا . وما النصر إلا من عند الله للفئة التي تؤمن بالله وتتقيه ولا تعصيه لقوله تعالى [ إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين ] ( سورة الأنفال آية 19 ) . لقد علمنا الله سبحانه وتعالى من خلال غزوة أحد وحنين أن الطاعة مفتاح النصر ، والمعصية سبب الهزيمة . إذ كان النصر في أحد أولا لما توفر شرط الطاعة والتقوى . ثم تلته الهزيمة لما حلت المعصية محل الطاعة . والعكس مع غزوة حنين إذ كانت الهزيمة أولا بسبب المعصية ، ثم جاء النصر بسبب الطاعة . إذن هناك علاقة جدلية وطيدة بين التقوى وخشية الله سبحانه وتعالى وطاعته لأوامره ونواهيه وبين النصر من جهة . وبين الهزيمة والمعصية والتجرؤ على الله سبحانه وعلى محارمه من جهة أخرى . إذن النصر مقترن في كل زمان ومكان بالطاعة والتقوى . والهزيمة مقترنة في كل زمان ومكان بالمعصية وترك أمر الله وإتيان ما نهى عنه . كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى سعد بن أبي وقاص يقول : " إنما يغلب المسلمون عدوهم بتقواهم لله ومعصية عدوهم له ، فإذا استوينا نحن وهم في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة "