في مسألة التكفير
محمد عبد الكريم النعيمي - المدينة المنورة
القضية التي يجب أن تناقش في هذه المسألة ليست في التكفير بحد ذاته.. وإنما في ما يتبع التكفير من استحلال الدم والعِرض والمال.. وفوق هذا من قمع حرية الفكر التي كفلها القرآن الكريم: «لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ».. «فَمَنْ شَاءَ فَليُؤمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَليَكْفُرْ».. وتوعد الله من كفر به بعقوبة الآخرة لا الدنيا، لذلك قال تعالى في تتمة الآية الأخيرة: «إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا».
ورغم أن الإسلام وصف طوائف بعينها في القرآن بالكفر.. إلا أنه أمر بمعايشتها، بل والبِرِّ بها وإنصافها، ما لم يُمارِس بعضُ أفرادِها قمعاً للدِّين والمتديّنين، أو يبغي على أرض أو يُخرج أهلها منها..
قال تعالى: «لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِليهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ». (الممتحنة 8-9).
والبِرُّ في الإسلام هو أعلى درجات التعامل الكريم، لأنه ذات الوصف الذي استخدمه الإسلام في الأمر بالتعامل مع الوالدين.
وفي قتال الباغي يستوي المؤمن والكافر، لأن علة القتال هي الظلم وليس الكفر..
قال تعالى: «وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأخْرَى فَقَاتِلُوا التي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ». (الحجرات 9).
ــأدلة قرآنية وحديثية في الحرية الاعتقادية المطلقة، والحرية السلوكية المقيَّدة، لأن الأولى لا تضرُّ إلا صاحبَها، وحسابها أخروي، والثانية يتعدى ضررُها وتغدو آفة في المجتمع، ما يؤذن بانحطاطه وتحلله وترهّله ودماره في النهاية، لأن عقوبتها دنيوية مُعَجَّلة.
حرية الفكر والاعتقاد:
قال الله تعالى: «وَقُلِ الحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَليُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَليَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا». (الكهف 29).
وقال أيضاً: «لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ». (البقرة 256).
وقال سبحانه: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ». (يونس 99).
وقال: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ». (هود 118).
حرية السلوك:
قال الله تعالى: «وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ». (هود 117).
وقال عَزَّ مِن قائل: «وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً». (الإسراء 16).
(والفِسْق مصطلح يرتبط بالسلوكيات المُشِينة والمُستَهْجَنةِ في الفِطرة قبل الدِّين، كقتل النفس بغير حق والكذب والقذفِ والزنا والشذوذ ومُعاقرةِ المُسْكِر والغدر والخيانة والسرقة والغشّ والرِّبا، بخلاف الكفر الذي يرتبط بالاعتقاد، وإن قاد أحدُهما إلى الآخر أحياناً).
وفي الحديث عن النُّعْمَانِ بنِ بَشِيرٍ رضي الله عنهما، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَال: «مَثَلُ القائِمِ على حُدودِ اللَّهِ وَالوَاقِعِ فيها كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَها وَبَعْضُهُمْ أَسفَلَها، فكانَ الذينَ في أَسْفَلِها إِذَا استَقَوْا مِنَ الماءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُم، فقالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنا في نَصِيبِنا خَرْقاً، وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنا. فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعاً، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعاً».