من واقعنا المرير

إلى آفاق المستقبل المشرق

ياوز آجار /تركيا

[email protected]

تنتشر الرسالات في قلوب الناس من خلال أصحابها، وسلوكاتهم وأعمالهم ومؤسساتهم الاجتماعية التي تفترص لها أن تنبثق منها، وأن تكون مرآة عاكسة صادقة لها.

إذا أردنا الإفلاح في إيصال أية رسالة إلى الناس، دون أن تتعرّض لأيّ انكسار، وعلى نحو يتلائم وأسسَها الأصلية، لا بد أن تكون هذه الرسالة منسجمة مع فطرة الإنسان وخصائصه الاجتماعية، وأن تكون شخصية المبلّغ عنها، والممثّل لها كاملة متَّزنة لا اختلال فيها، وأن يكون واثقاً من نفسه ومقتنعاً برسالته، مبطناً إياها في ضميره إلى درجة تصير جانباً مهماً من طبيعته، صادقاً في أقواله وأفعاله؛ إلى جانب ضرورة وجود عصبة مختارة نشأت على يديه، وتربّت في ظلال العقيدة التي يعتنقها، وتغذّت من مواردها الصافية، وطبّقت مبادئها في حياتها الشخصية والأسرية والاجتماعية بحيث تكون قادرة على تقديم أسوة حسنة لجميع الأجيال المقبلة ليتمكّنوا من معايشتها في واقع الحياة على وجه الدوام.

وعلى هذا، فمهما كانت الرسالة التي نحملها في قلوبنا سامية وبارعة في حدّ ذاتها، فلأنها تبلغ الناس عن طريق أحوالنا وتحرّكاتنا وسلوكاتنا، قد لا تحافظ على أصليتها ونقائها في أكثر الأحيان، مما يفتح المجال للمعادين لنا لينتهزوا هذه الثغرة، فيجعلوا منها مطية للوصول إلى أهدافهم من تشويه رسالتنا وتمويهها في عيون الناس، وذلك بإراءتهم المناقضة بين أعمالنا وأقوالنا، وضعفنا في تطبيقها وتمثيلها، وبإظهار الفجوة الغائرة بين واقعنا المرير الذي تتمزّق منها صدورنا والمأمول المنشود الذي تسدّدت إليه أرواحنا، وبين مؤسساتنا الخاوية من المعنى والمضمون وفكرتنا الفنية المعمارية التي تأخذ بمجامع القلوب. فهم سيفعلون كلّ ذلك، ولن يتوانوا في هذا السبيل من استخدام كل وسائل الاتصال المرئية والمسموعة الحديثة التي يسيطرون عليها. ولا غرو في ذلك؛ لأنهم لا يريدون للناس أن يواجهوا رسالتنا كما هي، وإنما يريدون أن يحكموا عليها بأوضاعنا السيئة، جاعلين منها حجاباً غليظاً يحول بينها وبينهم.

إذن؛ فمهمتنا الأساسية تتلخّص في أن نكون مرآة عاكسة صادقة تشعّ منها مبادئ رسالتنا التي تحوي في طياتها القدرة على إشراق جميع الناس والعصور والأماكن، ولن يتحقّق ذلك إلا بإنقاذ رسالتنا من أن تكون سجينة في أذهاننا كمجرّد فكرة أو نظرية، محوّلين إياها إلى واقع عملي حيّ بأحوالنا وتصرّفاتنا النموذجية، ومجسّدين إياها في مؤسسات وآثار معمارية تتجلى فيها رموز محاسن حياتنا الإيمانية والثقافية.

ويجب علينا أن نكون على وعي تام من أنه ألقي على عاتقنا وظيفة ثقيلة وقدسية في الوقت ذاته... وظيفة تبليغ الإسلام لكافة الناس، وتمثيله في نواحي الحياة كلها. وذلك لنتمكّن من إشراك/إدخال الآخرين في جوّ من الاطمئنان والسعادة الداخليين النابعين من أغوار أرواحنا، ومن الوقار والنور المنبثقين من أعماق قلوبنا، مروراً بممراتها النورانية، وانعكاساً إلى سيمائنا الوضّاءة، ومن الأفق الرحب لتصوّرنا الفني والمعماري الذي يقوم على فكرة "التجريد"، على خلاف فكرة "التجسيم أو التشخيص"، وألوان الجمال الآخذ بالألباب، وأشكال الفنون العريقة المرسومة على عماراتنا ومنشآتنا.

"يتميّز الإسلام عن غيره من النظريات والفلسفات البشرية القديمة والحديثة على حد سواء، بشموله لمختلف أبعاد حياة الإنسان الدينية والدنيوية، العقلية والقلبية، العاطفية والفكرية، وعنايته الكاملة بجميع جوانب النفس البشرية التي اختلفت وتباينت الطروحات الفكرية والفلسفية في شأنها؛ إذ إن معظم أنواع النظريات والفلسفات التي عرفتها البشرية خلال العصور الماضية لم تستطع - ولن تستطيع - أن تُحقّق التكامل المطلوب، والتوازن المنشود بين مختلف الجوانب والقوى التي فطر الله الإنسان عليها وزوده بها؛ حيث كانت كلّ نظريةٍ وفلسفة منها تُعنى بجانب واحد من جوانب الشخصية الإنسانية على حساب الآخر، أو تهتمّ  بإحـداها  مقابل إهمال غيرها.

وإذا سلّطنا الأضواء على الإسلام نكشف أنه جاء بخـلاف ذلك كله؛ وذلك لأنه تفرّد بشموله لميادين حياة الإنسان كلها، وعنايته بجميع جوانب النفس البشرية المتمثّلة في الأبعاد الرئيسة الثلاثة (الروح والعقل والجسم) دونما إهمال أو مبالغة في حق أحد منها على حساب الآخر. ولا تتّصف عنايته بمجرد الشمول لهذه الجوانب الثلاثة؛ فهو مع شمولها يسعى إلى تحقيق التوازن المطلوب بينها دونما إفراط أو تفريط. فللروح حظها، وللجسم حقه، وللعقل نصيبه. وليس هذا فحسب؛ بل إن الارتباط والتداخل بين هذه الجوانب الثلاثة يبرز بصورة لا يمكن معها فصل جانب منها عن الآخر. فتكون المحصلة النهائية لذلك كله بناء وإعداد شخصية الإنسان المسلم بناءً كاملاً متكاملاً".  

ونظراً لما سبق، فإن الإسلام كما لا يهمل الجانب الشخصي للإنسان، كذلك لا يهمل أن له جانباً اجتماعياً يأبى إلا أن يعيش في مجتمع معيّن يتأثّر بما يسود فيه سلباً أو إيجاباً. فالمجتمعات المحرومة من نعمة العيش في ظلال الهداية الإلهية، والعمل على حسب منهج الحركة النبوية، والانطلاق تحت قيادة المثقّفين والمرشدين الحقيقيين.. هؤلاء المحرومين، فلأنهم لا يمتلكون نظاماً فكرياً أصيلاً خاصاً بهم، ملائماً لشخصيتهم، وهويتهم، وطبيعتهم، مضطرّون للذبذبة يمنة ويسرة كورقة أمام الرياح بين التوجيهات الضالّة المضلّلة التي تتغيّر يومياً حسب الرغبات الوقتية والمتع العابرة الآنية لمستعمري العقائد والأفكار كمصاصي الدماء. 

إن القرآن الكريم يقف على طبيعة المجتمعات هذه بإصرار، وينبّه إليها الأنظار، ويوضّحها بمختلف الآيات، وعلى وجه الخصوص بقصص الأنبياء. فالقرآن الكريم يبيّن لنا أن أكثر الناس وإن كانت لهم عقول، ولكنهم لا يعقلون بها، وإن كانت لهم قلوب، إلا أنهم لا يفقهون بها، كما لا يشكرون على النعم الإلهية، المادية والمعنوية التي وهبها الله تعالى بِها إياهم، ويتيهون/يعمهون في حمأة الجهالة العمياء، والتقليد الذميم، والتبعية للآخرين، فهم محرومون من قابلية التفكير العميق، والتدبّر الشامل، والمقارنة الصحيحة بين الأمور. ومن أجل ذلك، فهم يقبلون كل الأفكار المضلّلة التي تقدّمها أئمة الكفر، مقنّعة إياها بأقنعة مزيّنة حسناء، دون أن يزنوها بأي ميزان، ودون أن يدركوا مضمونها وحقيقتها، وكأنهم مشلولو الروح، ومسلوبو الإرادة، ومجرّدون عن العقل.

نعم، إن القرآن الكريم يوجّه استفهاماً توبيخياً أو إنكارياًّ في مقام الذمّ للذين لا يهتدون إلى الطريق الصحيح، على الرغم من الآيات المقروءة في كتابه، ومن الآيات المنظورة المتناثرة في أرجاء كونه، ومن الآيات المبصرات في أنفسهم، ومن العبر الهادفة الموجّهة في القرون الخالية، ويقول لهم: (فأنى يُؤفكون) (الزخرف: 87)

وإذا دقّقنا النظر في صياغة الجملة فسنرى أنها جاءت على صيغة المجهول، وهذا مقصود؛ وذلك لتدلّ على أن أكثر الناس ليسوا فاعلين يفكّرون ويقرّرون ويتصرّفون من عند أنفسهم، واستناداً إلى إرادتهم الذاتية، وإنما هم منفعلون قابلون لما يأتي من تأثيرات خارجية، وضغوط اجتماعية.

ونرى هذه الطبيعة أو الظاهرة للمجتمعات جلياً في قصة السامري مع قوم موسى عليه السلام، حيث اتّخذ القوم البقرة إلهاً دون تفكير وتدبّر، بتوجيه/تضليل من السامري، وعلى الرغم من وجود هارون عليه السلام بينهم. فلذلك، عاقبهم الله بعقوبة تحويلهم إلى قردة خاسئين، القردة التي تتميّز بسمتها البارزة، ألا وهي: التقليد والمحاكاة دون وعي وشعور.

كما نرى تلك الطبيعة في رفض الأقوام لدعوة الأنبياء لهم إلى تحكيم ما أنزل الله، متحجّجين ومتذرّعين بقولهم: (بل نتبع على ما ألفينا عليه آبائنا) (البقرة:170)، بغضّ النظر عن كونهم على حقّ أم باطل.   

يمكن لنا الآن أن نستنتج مما سبق أعلاه نتيجة عامة، وهي: أن للعوام - الذين هم يمثّلون أكثرية الناس - طبيعةً أو نفسية تتسم بالنظرة السطحية المتعجّلة إلى الأفكار والأحداث، والانخداع/الانجذاب بالمظهر الخارجي البراق لكلّ شيء، وعدم التدقيق والتحقيق في الأمور، فكأنما سالت عقولهم إلى عيونهم، يفكّرون ويقيّمون بعيونهم بدلاً من عقولهم.

 إذن، فعلى الدعاة المسلمين – وعلى كلّ مسلم - أن يضعوا طبيعة الناس هذه نصب أعينهم، ويخاطبوهم بحسب مستويات ومدارك عقولهم – أي عيونهم – في تبليغ الإسلام ودعوة الناس إليه، متأسّين في ذلك بقول عائشة رضي الله عنها: " أمَرنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن نُنْزل الناسَ منازلهم" (رواه مسلم تعليقا في مقدمة صحيحه).

نعم، كما ينبغي استخدام الأدوات التمثيلية والتشبيهية في شرح الحقائق المجردة والقضايا/المسائل النظرية وتفهيمها، لتكتسي نوعاً ما من الأزياء المادية فتكسب الوضوح والبداهة، ثم تتجسّد في عيون الناس - الذين يعوزهم العمق الفكري – حتى يدركوها بسهولة. فكذلك ينبغي إظهار/إبراز حقائق الإسلام السامية للناس مدعّماً إياها بألسنة الأحوال على صعيد تكامل الإيمان والعمل، ومزاوجة العقل مع القلب، ومعانقة الفكر مع العاطفة، دون أن يبقى هناك أي فراغ اعتقادي وفكري. وإلا فالإيمان المحجوز في القلوب، والفكر الذي لم تتم ترجمته إلى واقع عملي، والرسالة التي لم تطبّق مبادئها في بيئة اجتماعية، كما أنه لا يمكن أن يتجاوز مجرّد دعوى تدّعى، ومحض نظرية تعتلك في الأفواه، فهو محكوم عليه أيضاً بأن ينمحي من قلوب الناس ويزول بمرور الزمان.  

إن الإسلام يرى كلّ إنسان أخاً في الدين أو نظيراً في الإنسانية، وينطلق من منطلق استراتجية كسب الإنسان ودعوته إلى الإسلام، كما يرى جهاداً حقيقياً كلَّ النشاطات لأبطال الدعوة الإسلامية من أجل نشر الإلهلمات العذبة عذوبةَ الكوثر، الصافية صفاءَ الزمزم لقلوبهم المستنيرة بالنور الخالد إلى الأرواح الظامئة إلى الحقيقة، دون أن يعرّضوها لأيّ انكسار بأعمالهم المناقضة لأقوالهم، وتصرّفاتهم الخاوية من الروح والإخلاص، وكذلك الجهود المادية والمعنوية التي يبذلونها في سبيل قلع الموانع والعوائق التي تحول دون مواجهة الناس مع الإسلام.

لماّ ألقى الله تعالى على عاتق حبيبه محمد - صلى الله عليه وسلّم - وظيفة تبليغ الرسالة الإسلامية إلى الناس كافة، هبّ من مكانه ولم يفتر عن الدعوة حتى التحق بالرفيق الأعلى. فحقّق نجاحاً كبيراً، وأحدث تحوّلاً عظيماً في الحياة العقيدية والفكرية، والأوضاع الاجتماعية والسياسية والدولية بحيث غيّر مجرى التاريخ، وأدّى إلى أفول الأفكار النخرة المتعفّنة وسقوط بعض الدول الهرمة، وذلك في مدّة قصيرة جداً كثلاثة وعشرين عاماً، وعلى الرغم من ندرة الوسائل والإمكانات، وقحط الرجال وكثرة الأعداء... وما بلغ النبيّ - صلى الله عليه وسلّم - إلى تلك النتيجة العظمى إلاّ من خلال انفتاحين كبيرين:

1-              الانفتاح الداخلي

2-              الانفتاح الخارجي

ونعني بـ (الانفتاح الداخلي) قيام الجماعة المسلمة تحت قيادة رسولنا الحبيب - صلى الله عليه وسلّم - وفي ظلال الهداية الرباّنية بتسليط الأضواء على أنفسهم، والإبحار نحو أعماق أرواحهم، ثمّ نقلهم مبادئ الإسلام الرائعة التي أبطنوها في أنفسهم وأرواحهم إلى أعمالهم.

أما (الانفتاح الخارجي) فنعني به قيام الجماعة المسلمة بتبليغ الإسلام لغير المسلمين.

إن المعجزة الكبرى لله تعالى، على صعيد الكتاب هو: القرآن الكريم، وعلى صعيد الرسالة هو: محمّد - صلى الله عليه وسلّم -. وهناك معجزة أخرى لا تقلّ عنهما – وإن لا ترقى إلى درجتهما – وهي معجزة النبيّ - صلى الله عليه وسلّم - وأثره المنقطع النظير، ألا وهو النسل الذهبي الذين تربّوا على يديه: الصحابة.

إنه صلى الله عليه وسلّم مع أصحابه الكرام، جعلوا من أنفسهم صرحاً نورانياً يشعّ منه الإسلام، فالذين لم يفقدوا فطرتهم وعقلهم السليمين اكتشفوا هذا النور الماثل أمام عيونهم، وأبحروا بأشرعة من أرواحهم نحو أفكار بكر في ظلّ الإسلام لم تصل إليها قريحة البشرية، وعوالم جديدة لم تطأ عليها أقدامها بعدُ، عالم لم يكن لترى عيونهم، وتسمع أذنهم، ويخطر على قلوبهم من قبل.

كان الهدف الأسمى للنبي - صلى الله عليه وسلّم - هو كشف النقاب عن جوهر الإنسان الأصلي وتفعيله/تحريكه، فكانت جميع جهوده منصبّة على ذلك. ولهذا لم يعلن حرباً على الناس، وإنما على المعتقدات الباطلة والأفكار الخاطئة التي يتبنّونها، ولم يصوّب السهام صوب أجسامهم، بل الصفات والميول السيّئة الشريرة التي سيطرت عليهم، بقصد توجيهها إلى الخير، ولم يجعل من دعوته المقدسة ذريعة للوصول إلى أيّ مطمع دنيوي... بمقتضى قول الله تعالى: (وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلى على رب العالمين) (سورة الشعراء: 109). فالذين خلت نفوسهم من أحكام مسبقة سارعوا إلى قبول هذه الدعوة الصافية من الشوائب، ولم يتردّدوا في الدخول إلى حظيرتها، قائلين بلسان الحال: (اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون) (يس:21). وليس قليلاً عدد الذين اعتنقوا الإسلام بمجرّد رؤية وجه النبي المشرق، فهذا عبد الله بن سلام، العالم اليهودي لما رأى النبي صدّقه ودخل في حظيرة الإيمان، قائلاً: "هذا الوجه ليس بوجه كاذب". 

دارت حياة النبي - صلى الله عليه وسلّم - على محورين أساسيين:

المحور الأول: "العبودية" لله تعالى على أحسن وجه كعبدٍ.

والمحور الثاني: "الدعوة" إليه على بصيرة كرسولٍ.

فهو قام بدعوة مشركي مكة إلى الإسلام من جانب، وأنشأ جيلاً كاملاً مجهّزاً بكلّ ما يحتاجه الإنسان والمجتمع من جانب آخر. فكما أخرج - صلى الله عليه وسلّم - من أنفس سفلية فحمية أرواحاً سامية الماسية كالصحابة، وحوّل العصر الفرعوني الجاهلي إلى عصر السعادة، كذلك بدّل لون الأرض بالصبغة الإلهية، فتحوّل الزمان والمكان مع ما فيهما إلى وردة حديقة تذهل من ألوانها ونسماتها العقول.

ما انتشرت الدعوة الإسلامية من الأفراد إلى العوائل، ومن مكة أمّ القرى وقلب الأرض إلى المدن الأخرى، ومن المدينة المنوّرة صدر/حِضن الأرض  إلى أقطار العالم كلّها، وسيطرت على نصف الكرة الأرضية وخمس البشرية إلا بفضل معايشة المسلمين دينهم على أحسن وأكمل وجه، وحسن خلقهم، وعقليتهم العلمية الفذّة، وفكرتهم الفنية الساحرة التي تجسّمت في المساجد والمدارس وعمارات الأوقاف - التي هي كانت خير ترجمة للنظام التعليمي والتربيوي لديهم - وفي المنشآت والأسواق التجارية وغير التجارية والمؤسسات الاجتماعية - التي هي كانت مرآة ينعكس إليها النظام الإداري والحقوقي والسياسي والاقتصادي لهم -.

وأما إذا رجعنا إلى عصرنا الحالي، فنواجه واقعنا المرير من أن الإسلام يئنّ ويتألّم بين ضعف ووهن أوليائه/أصدقائه الذين يدّعون انتمائهم إليه، وبين بهتان وظلم أعدائه الألدّاء؛ حيث يستخدمون كلّ وسائل الاتصال المسموعة والمرئية لتشويه سمعة الإسلام في عيون الناس من أنه دين إرهابي وما إلى ذلك من الافتراءات الأخرى. أما الحشود المحرومة من القيادة الرائدة فتتلوّى ألماً بين أيدي هذين الظالمين. ويبدوا أن هذه الظاهرة الأليمة ستستمرّ إلى أن يأتي الأبطال الحقيقيّون للدعوة الإسلامية. 

أما في العقود الأخيرة فقد ظهرت هناك مؤشّرات إيجابية في الدول العربية والإسلامية تبشّر بالخير. وليس هذا قول فاضٍ لا يستند إلى دليل، فإن الشارع العربي قد سمع وقرأ الكثير من التطوّرات الإيجابية على حساب الإسلام في تركيا على الصعيدين الرسمي والمدني. وفي الآونة الأخيرة على وجه الخصوص، كتب كثير من الكتاب العرب عن نشاطات العلامة والداعية الكبير محمد فتح الله كولن وحركته. – كتب عنه وحركته - على سبيل المثال لا الحصر – منال لطفي، ونشرت مقالته في جريدة الشرق الأوسط – وإن كانت مقالته تنطوي على بعض الأخطاء -. وكان يصف محمداً فتحَ الله كولن بأنه أبو الإسلام الاجتماعي في تركيا، على حدّ تعبيره. وذلك لأن هذه الحركة ترجمت مبادئ الإسلام إلى نواحي الحياة كلّها من خلال المدارس والجامعات النموذجية والنجاحات والجوائز التي أحرزوها في المسابقات العلمية العالمية، ووسائل الاتصال المرئية والمسموعة، والبنوك الاقتصادية، والمؤسسات الاجتماعية، والجمعيات الخيرية التي فتحتها الحركة داخل تركيا وخارجها.

وليس هذا فحسب، بل هناك أمور أخرى تدلّ على صحة ما قلنا أعلاه؛ وذلك لأن بعض المنابر الفكرية في تركيا قامت بتنظيم مؤتمرات دولية في الدول الغربية والإسلامية، داعية إلى المشاركة كثيراً من المثقّفين البارزين الأتراك والعرب والغربيين، ليناقشوا المشاكل الراهنة وقضايا الساعة التي تواجهها المجتمعات البشرية في شتى أنحاء العالم، والمعضلات المحتملة التي قد تحدث في مسبقبلها القريب أوالبعيد، وسبل الحلول الناجعة. وآخر هذه المؤتمرات نُظّمت في إسطنبول، بالاتفاق مع جامعة القاهرة المصرية، وأخرى مع مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية. 

فهذه المقالات والدراسات والمؤتمرات إن دلّت على شيء فإنها تدلّ على أن العالم الإسلامي قد بدأ يتخلّص ويتحرّر من قبضة الاستهلاك (الاستهلاك الفكري والثقافي والصناعي)، ويتطلّع إلى قمم الإنتاج والإبداع (الإبداع الفكري والثقافي والصناعي). كما أن المقالات والدراسات عن الحركات الإسلامية التي ظهرت خارج الدول العربية تنطوي على أهمية كبرى للحركات الإسلامية التي نشأت في الدول العربية لتبادل الخبرات والتجارب. رغم أن الأتراك قد استفادوا من علماء العرب بكثير، وذلك من خلال الكتب المترجمة غير المعدودة إلى لغتهم – وجدير بالذكر أن هناك مجلة عربية علمية ثقافية فصلية تصدرها هذه الحركة وتتوزّع على جميع بلدان العالم -، ولكن لا يمكن قول نفس الشيء لإخوتنا العرب، فاستفادتهم من الأتراك انحصرت في بعض الروايات والأشعار المنقولة إلى العربية من قبل أشخاص مغرضين... وفي هذا السياق، فهناك مهمة كبيرة ملقاة على عاتق الملمين والمتقنين باللغتين التركية والعربية.

وعلى ضوء ما سبق، فإنه يمكن القول من الآن بأن المسلمين سيتخلّصون كلياًّ من أن يكونوا "يداً آخذة" ليصيروا "يداً معطية" في جميع المجالات، والعالم العربي والإسلامي سيجمعان شملهما وقواهما من جديد، بتبادل أفكارهما وتجاربهما، ثمّ سيظهر الإسلام ويطلع على أفق الإنسانية من جديد في مستقبل قريب على صورة حضارة رائعة بإذن الله تعالى.