آراء أدونيس حول الوجود
آراء أدونيس حول الوجود
يحيى القيسي
كاتب أردني يقيم في أبو ظبي
لا شكّ في أن أدونيس يمثل حالة خاصة في الثقافة العربية اليوم إبداعا ونقدا وبحثا، وهو يعدّ علما من أعلامها، و يقف في صدارة المشهد، وإذا تحدث الرجل في الأدب والحداثة والنقد وحال الثقافة فإنه خير من يستطيع سبر أغوارها وتوصيفها بكل عمق، ولكنه إذا ما قرر أن يذهب إلى جهات أخرى في الفكر الديني ورؤيته الخاصة بالوجود فإنه يقدم لنا آراء يطيح بعضها بعضاً، وتكاد تبدو عاطفية مشوشة ولا تستند إلى ركن مكين، وقد شاهدت لقاءه التلفزيوني في برنامج ' عيشوا معنا ' الذي بثته فضائية إل بي سي اللبنانية مؤخرا، وكان من الواضح على أدونيس الحيرة ما بين الدين واللادين ، وما بين الإيمان والإلحاد، وهو فيما يحاول الدخول إلى مناطق تفصيلية في الفكر الإسلامي لينقدها من الداخل فإنه في الوقت نفسه ينقض الأمر برمته، إذ يحاول أن يبدو مفكرا إسلاميا حداثيا متنورا، لكنه يقول لنا بعد قليل بأنه لا يؤمن بالإسلام أبدا ولا بالبعث والجنة والنار.
ليس المجال هنا يتعلق برصد آراء الرجل كلها، وبيان تناقضاته الصارخة، وعدم طمأنينته لشيء حول نظرته في الوجود رغم دخوله السبعين من العمر، فهذا أمر يتعلق بإرادته الحرة في الاختيار، ولكن لنتأمل معا بعض ما قاله في ذلك اللقاء
' لا يوجد حوار بين الأديان... لأنّ الإسلام ينفي المسيحية نفيا تاما' وفي هذا القول القاطع المانع مغالطة كبرى ونفي لآيات كثيرة في القرآن تشير إلى أن الإسلام مصدّق لما قبله من الديانات، وأن الإسلام الحقيقي وليس فقط ' التاريخي' هو دين الله الواحد جاء به جميع الأنبياء، وتمكن هنا الإشارة إلى الكثير من الأدلة الساطعة الموجودة في النص القرآني، ويقول أدونيس في الحوار نفسه 'لا أؤمن بالبعث والجنة والنار، وهي ليست حقيقية إنما رموز تعليمية ..' ويتابع ' لا أعتقد أن هناك وجودا للإنسان بعد الموت' وبالطبع فإنّ هذه الآراء تتعلق برؤية الرجل للحياة وما بعدها، ولا تعليق عليها، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر..، فالحرية الدينية مصونة في الإسلام، ولا إكراه في الدين، ولكنّي أتناولها هنا من منظور أن الرجل كما أشرت اولا لا يمتلك اليقين في الإيمان بشيء بعد كل هذه السنوات، وأن من ينقض مثل هذه البنى الأساسية في الإيمان ليس له أن يطرح آراء فقهية ويناقش مسائل تفصيلية في الإسلام اللهم إلا من جانب تاريخي فقط، وليس من جانب الصواب والخطأ ومعرفة الحقيقة.
ولا يكتفي أدونيس بمثل هذه الآراء التي تناقض بعضها بعضا، وتدل على قراءة منقوصة لما جاء به القرآن، بل يقول أيضا بأنه أنهى كتابة السيرة النبوية ويعتمد في كتابته ' على المخيلة ، نوع من الحرية التعبيرية وتحويل الواقع......كتاب جميل عن السيرة النبوية أحلم ذات يوم بنشره'.
والسؤال هنا متى كانت كتابة سيرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وبارك مسألة خاضعة للمخيلة وتحويل الواقع، وهل يمكن فهم شخصية النبي العظيمة والحديث عنها بنوع من التجرد بعيدا عن الإيمان بما جاء به من تعاليم..؟
أدونيس تحدث في حواره عن مجلة شعر والحداثة وتجربته الحزبية والعسكرية أيضا ولم ينس الاعتراف بالحب الواقع به بعد السبعين لفتاة قد تكون في العشرين كما فهمنا، ولكن كل هذه الامور تكون مفهومة ومقبولة ويجيد أدونيس إقناعنا بها لعمق تجاربه الإبداعية والبحثية والحياتية، ولكن أن يطلق مجموعة من الآراء التي لا رابط بينها والتي تعكس قمة التخبط والحيرة فيما يتعلق بالدين والمذاهب فذلك أمر يجعلنا نعيد النظر في آرائه التي وردت في كتبه، ونفكر جديا في عدم الأخذ بمنهجه الفكري برمته.
يقول المفكرون الغربيون بأن على الإنسان أن يجيب على الأسئلة الأربعة الكبرى قبل رحيله' من نحن؟ من أين أتينا؟ إلى أين نذهب؟ وما هو دورنا في هذه الحياة؟
ومن الواضح أن من يمثل قمة المفكرين العرب اليوم مثل أدونيس يريد قبل رحيله أن يكتب لنا كتابا عن حياته العسكرية..! هل في ذلك أي فائدة فكرية عميقة ومساهمة حضارية أكيدة في تقدم الفكر العربي ؟ أشك في ذلك ولكن من حق الرجل أن يفعل ما يشاء فيما تبقى له من العمر، لكن لا أن يقدم لنا آفكاراً مشوشة لا رابط بينها مرة في الدفاع عن الخليفة عمر وتخطئة عثمان ومرة عن أن لا شيء هناك بعد الموت ينتظر الناس، وأخرى تتضمن أحكاما مجانية عن نفي الإسلام بالكامل للمسيحية، أما رغبته التي يريد أن يلبيها فهي زيارة السعودية بشرط أن يزورها كلها من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب..!
أعتقد أن على أدونيس في شتائه الأكيد أن يعيد النظر في الآراء التي وردت خبط عشواء في مقابلته الأخيرة مع إل بي سي، وأن ينتبه كمفكر عربي معروف إلى أن يدقق في مقولاته فهي في النهاية محسوبة عليه ، فلم نعد نتقبل أي شيء يلقى علينا جزافا بحجة أن صاحبه شخصية لها تاريخها ومنجزها وموقعها الثقافي أو السياسي.
ثم إذا كان حال كبار المثقفين العرب مثل حال أدونيس فكيف يكون الأمر مع أتباعهم ومريديهم ؟ ألا يمكن أن تنتقل عدوى التخبط الفكري وعدم وضوح الرؤية الوجودية إليهم؟ وماذا إذن عن القراء العاديين والذين يرون في هؤلاء الشخصيات رموزا يقلدونها ويقتنعون بكل ما تنطق به..!
إن حال الأمة العربية من حال مفكريها ومثقفيها، وربما ما وصلنا إليه من الهوان اليوم وسوء الواقع بسبب أولئك الكتاب الكبار والمثقفين المشهورين الذين انتقلت إلينا تلك الحالة الضبابية منهم وأصبحنا كالظمآن الذي يبحث عن الماء فلا يجد غير السراب..!