نعمة الدماء
نعمة الدماء
معمر حبار
في طريقه إلى عمله زوال هذا اليوم، وتحت شمس حارقة، حمله وابنه إلى المستشفى بسيارته، وهو الذي لايعرفه، ولم يره من قبل.
وحين أخبره أنه متجه إلى المستشفى لزيارة ابنه، دعا ربه الشفاء للإبن، والتوفيق للأب.
راح الأب، يصف بمرارة مرض إبنه صاحب 15 سنة، وأنه مصاب بمرض عدم تخثر الدم. ويخشى أن يصاب إبنه بجروح أو حالات أخرى مماثلة، فيصاب حينئد بالنزيف الشديد، الذي قد يؤدي بحياته، وهو الطري اللّين، الذي لم يعرف من الحياة غير العبث واللهو.
وبعد أن أوصله إلى المستشفى، كما أراد وطلب، واصل صاحب الأسطر طريقه، وقال في نفسه ..
هناك إذن من يعاني جريان الدم بسرعة غير مضبوطة ولا معقولة، حيث لايمكن التحكم فيها، لأن صاحبها يفتقر للمادة التي توقف جريانه السريع جدا، وترده إلى طبيعته.
وحين يصاب المرء بهذا المرض، يهلك أهله، كما حدث لهذا الأب المفجوع في ولده، فقد إشتكى طول التردد على المستشفيات، وبكى لحزن الأم، ومكوثها الطويل مع الإبن في المستشفى، لخدمته ورعايته.
ويضيّع صاحبه علمه ودروسه، فقد أكّد الأب، أن ابنه ضيّع سنوات الدراسة لهذا العام، بسبب النوبات الحادة والمتكررة التي أصابته، وألزمته المستشفى طيلة العام.
وبما أن الأب، تظهر عليه جليا، مظاهر البؤس والفقر، فإن مرض الإبن، قد أرهق جيبه المثقوب، وراتبه الشهري الزهيد، إن كان له راتب.
من تمام النعمة وكمالها، أن يرى المرء رأي العين من يفتقد تلك النعمة، التي تبدو سهلة بسيطة، ليعرف أن ربه وهبه أعظم النّعم وأجلّها، لأن فقدانها ولو لوقت قصير جدا .. يرهق الكبير، ويضيّع دراسة الصغير، ويكلّف من المال مالا يستطيع، ومن الجهد مالا يطيق.
قطرة الدم التي يستصغرها الصحيح المعافى، ولا يشعر بفضلها إلا بعد أن تنتزع منه إنتزاعا، هي .. التي كتبت هذه الأسطر، وهي التي أوصلت الأب للمستشفى، وهي التي ستمكّن قارئ هذه الأسطر من القراءة، فيخط بيديه التي تسري فيها الدماء أحرفا ، ويرفعها لرب السماء، داعيا الشفاء للإبن، والصبر للأم، والثبات للأب، والتوفيق لصاحب الأسطر، وكل هذا بفضل قطرة الدم التي تسري في الجسم، دون أن يشعر بها صاحبها، أو يتفطن لها.
إن من رزق قطرة الدم، لايكفي أن يحمد المرء ربه عليها، بل عليه أن يحمد ربه طول حياته، لأنه رزق قطرة دم تسيل بشكل عادي جدا، وتتسلل بين عروقه بسلاسة ولطف. وتلك نعمة لايعرف قدرها، غير الذي عاش .. أنين الإبن، وآهات الأب، ودموع الأم.