صفحات مطوية من تاريخ المسرح المصري2
صفحات مطوية من تاريخ المسرح المصري
(2)
علي أحمد باكثير |
الدكتور محمد أبو بكر حميد |
حاصد الجوائز وصاحب الريادات
كان علي أحمد باكثير على شهرته الكبيرة ولمعان اسمه في العالم العربي والإسلامي من طليعة الأدباء -وهم قلة - الذين قادهم تواضعهم إلى الامتناع عن الحديث عن أنفسهم. فقد عاش باكثير حياته الأدبية التي تزيد على أربعين عاماً ـ معظمها في مصر ـ زاهداً في الأضواء لا يتصدر المجالس التي تؤخذ فيها الصور ولا يشغل الناس بحياته اليومية وقضاياه الخاصة ولا يثير حول نفسه الزوابع والإشاعات، ولا تكاد تجد له صوراً كثيرة في الصحف والمجلات رغم تكرار اسمه، فمنذ وفد إلى مصر سنة 1934 إلى أن مات فيها سنة 1969، والناس لا تعرف عنه إلا أنه ولد في أندونيسيا سنة 1910 وعاد إلى حضرموت موطن الآباء والأجداد، وهو في التاسعة من عمره، وبقي بها حتى غادرها سنة 1932 في أعقاب وفاة زوجته الشابة التي أحبها حباً عظيماً فمكث في عدن فترة، ثم وصل الحجاز وغادرها سنة 1934 إلى مصر.
وظل يكرر هذه الكلمات القليلة في إجاباته عن كل الأسئلة الشخصية التي وجهتها إليه الصحف والمجلات والإذاعات !
وقد شهد له أصدقاؤه والذين عاشوا معه عن قرب أنه ظل محافظاً طوال حياته على طبيعته البسيطة الوديعة التي جاء بها من أقصى جزيرة العرب ولم يسمح لأضواء الشهرة وبهرجة المهرجانات والندوات أن تفسدها. وبالتالي لم يعرف أصحاب السهرات طريقهم إلى بيته بعد نجاح عروضه المسرحية أو بعد حصوله على جوائز عدة، وهي مناسبات كان يلهث وراءها غيره ليقيم لها المآدب حتى الفجر ليرى في الصباح الأخبار والتحقيقات والصور تملأ الصحف. وحتى عندما لا يجد باكثير مفراً من الحديث الصحافي أو المقابلة للإذاعة والتلفزيون ـ ولعل الحديث الذي سجله مع تلفزيون الكويت في أبريل (نيسان) سنة 1969 يشهد بذلك ـ ترى أنه لم يعرف نفخ الأوداج عند التربع على الكراسي أمام الأضواء ولم يعرف التشدق بالأمجاد بالكلمات المطاطية التي لا معنى لها أو التحذلق والتظاهر والادعاء بل هو كما يقول الذين عرفوه: على غزارة علمه يشعرك دائماً أنك أعلم منه. فهو يتكلم أقل منك ويستمع لكلامك في صبر عجيب حتى النهاية دون أن يقاطعك، وإذا خاف على نفسه مقاطعتك وضع غليونه في فمه، كما يقول يحيى حقي إذ " كان برهان طبعه تدخينه الغليون فهو يعينه على إطباق الفم، على الصبر، والعكوف على النفس والاستغراق في عالمه الخاص... كان يحب السكون لا اللهوجة، والتؤدة لا التسرع، والصوت الخفيض لا الجهير، تواضعه الجم يخفي أنفة شديدة وعزة نفس مصونة من الانحناء ومن الدنايا.. إن كان بين معارفي رجل طيب فقد كان هو، هو مبرأ من اللؤوم والخسة والصغائر وتدبير المقالب من وراء الظهور، لا يتلوث لسانه بغيبة إنسان، وكانت عينه باب قلبه المفتوح تسلك منها نظراتك إليه بلا مواربة أو خداع. ما رأيت أحداً مثله يعرف كيف يصدقك القول دون أن يجرحك وكان يلتزم الصدق دائماً، طيبة لم يزلزلها أو يكربها أن يحسبها بعض الأذكياء مشتبهة بالسذاجة لا عن ترفع منها بل لأنها قانعة بذاتها ".
كان هذا أصدق وصف قرأته لأديب عن أديب مثله، كتبه يحيى حقي في كتابه " عطر الأحباب "، وهو لا يرجو من باكثير منفعة عاجلة أو آجلة فقد كان يحيى حقي رئيساً لباكثير في العمل في وزارة الثقافة لمدة عشر سنوات وهي كلمة لم يكتب يحيى حق مثلها في حق أي أديب من معاصريه.
خصال مفتقدة
والحقيقة أن يحيى حقي وغيره من أدباء العصر وجدوا في باكثير خصالاً افتقدوها في معظم معاصريهم، وهي الزهد في الأضواء والترفع عما يتكالب عليه الناس والالتزام بمبدأ واحد لا يتغير بإقبال الدنيا أو إدبارها ولا يؤثر فيه اتجاه الريح. وهذا ما جعل أبناء جيل باكثير يجمعون تقريباً على أنه كان أقلهم كلاماً وأكثرهم إنتاجاً قياساً إلى سني عمره، وهو أهم ما قيل عنه بعد وفاته.
ومع ذلك فقد حقق باكثير وجوداً متميزاً في كل إبداع. وبعيداً عن العروض المسرحية والسينمائية لأعماله فإن القيمة الحقيقية لإنتاج باكثير تتمثل في مجموعة " الريادات " التي سبق بها، وفي " الفكر" الذي عبر عنه في قوالب فنية جديدة. ففي الشعر سيبقى علي أحمد باكثير رائد الشعر الحر، وفي الرواية سيبقى هو صاحب الطرح الفني الذي يستشرف المستقبل من خلال الماضي، فهو رائد الرواية التاريخية الإسلامية بلا منازع ولو لم يكتب إلا روايتي " وا إسلاماه " التي صور فيها لوحة رائعة من صور الجهاد والانبعاث في حياة أمتنا، و " الثائر الأحمر" التي حذر فيها من المد الشيوعي الذي تحقق في عالمنا العربي في ما بعد وصور فيها قصة الصراع بين الشيوعية والرأسمالية والعدالة الإسلامية من خلال تجربة الحركة القرمطية المعروفة في التاريخ الإسلامي وشخصية حمدان قرمط الشهيرة، لو لم يكتب باكثير إلا هاتين الروايتين لكفتاه التصدر في سجل الرواية العربية التاريخية فنياً وفكرياً. وفي الوقت نفسه نجد باكثير يقف عملاقاً في مجال التأليف المسرحي الذي خصص له جل إنتاجه. فهو الثاني بعد توفيق الحكيم من حيث غزارة الإنتاج لكنه يبقى الأول من حيث تصدر القضايا التي ترتبط بهموم الأمة وتشغل الناس. فباكثير بإجماع النقاد من محبيه ومبغضيه رائد الكوميديا السياسية الهادفة في المسرح العربي، وهو القلم الذي ارتبط مسرحه بالقضايا الوطنية والقومية و الإسلامية قبل أن يتاجر بها المتاجرون، وقبل أن تقرع لها الطبول وتقوم لأجلها الثورات ويلتف حولها المطربون والمطبلون والمزمرون والمفكرون الذين لا يعرفون الأداء إلا في الظل، وفي الأمان وتحت الأضواء، وفي أحضان الغرف المكيفة الهواء.
أما باكثير فقد كتب أعماله العظيمة تحت وهج الشمس وفي قلب الخطر وتحت تهديد الاستعمار.. وقد جعلت منه أعماله الثائرة في الأربعينات العدو الأول ـ دون كل أدباء جيله ـ للاستعمار والصهيونية قبل أن يخرج الاستعمار من الأوطان العربية وقبل أن تقيم الصهيونية دولتها في فلسطين.
قضايا الأمة أولاً
وكان وراء هذا التفرد وهذه الريادة والسبق الذي حققه باكثير في بداية حياته الأدبية ـ كما جاء في شهادة محمود تيمور:
" إن باكثير قد رسم لنفسه هدفه الأدبي قبل أن يرتفع صوت عن الأهداف، وهدفه الأكبر في ما يكتب الدفاع عن قضايا أمته " (كتاب " طلائع المسرح العربي").
وهذا صحيح لأنه في الوقت الذي كان فيه باكثير مشغولاً إبان الأربعينات بمقارعة الاستعمار والصهيونية في مسرحياته الكبيرة مثل " شيلوك الجديد" وعشرات المسرحيات القصيرة مثل " دم الشهداء "، " في سبيل إسرائيل "، " أكبر من العرش "، " ذكرى من الشرق الأقصى "،"دولة تتسول "، " ليلة 15 مايو"، " في بلاد العم سام "، " الجولة الثانية "، " الهلال الخصيب "، " معجزة إسرائيل "، و "دم الشهداء "، وغيرها من المسرحيات التي نشرت في الفترة ما بين 1945 ـ 1948 وهي فترة مخاض وولادة دولة إسرائيل، في هذه الفترة التي كان فيها باكثير يخوض قمة كفاحه بمراس لا يلين كان الكثير من أدباء جيله لم تتضح لهم الرؤية بعد، ولم تحدد لهم أهداف، وقد صرح بهذا نجيب محفوظ في حديث مع الناقد فؤاد دوارة في كتاب " عشرة أدباء يتحدثون " قال فيه :
" عندما أعود بذاكرتي إلى هذه السنوات (الأربعينات) أجد أن علي أحمد باكثير وعبد الحميد السحار لم يداخلهما شك في قيمة إنتاجهما ووجوب الاستمرار فيه، فقد كانا ممتلئين بالتفاؤل أما " الآخرون " وأنا فكنا نعاني أزمة نفسية غريبة جداً طابعها التشاؤم الشديد "!
وهذا كله يؤكد أن " وضوح الرؤية " عند باكثير دون أكثر أدباء جيله كان وراء مأساته في سنواته الأخيرة، وقد ناقش هذا بوضوح وصراحة بعد وفاة باكثير فاروق خورشيد في مقال بعنوان " باكثير المفترى عليه " في جريدة الأخبار 10/11/1969، يشهد فيها على عصر باكثير بقوله:
" لست أعتقد أن هناك كثيرين من أدباء عصر باكثير قد اتضحت الرؤية لديهم مثل اتضاحها بالنسبة له.. ولست أعتقد أيضاً أن كثيرين من أدباء جيله قد حظوا بهذا السلام الفكري النابع من الإيمان الواضح بأشياء محددة مثلما حظي هو، وربما كان هذا الوضوح في " الفكر"، وذلك الوضوح في الموقف هو الذي سبب الموقف السلبي لكثيرين من النقاد الواعين الذين عاصروه في الاهتمام بما يكتب وما يبدع، ربما كان تطلع هؤلاء النقاد الدائم إلى مظاهر القلق والحيرة، والضياع من الإنتاج الأدبي لمعاصريهم ومعاصريه، واحتفالهم بكل ما يعكس هذه المظاهر التي يعانونها ويلمسونها، هو السبب في هذا الانصراف المؤلم عن متابعة إنتاج باكثير بالنقد والدراسة والتحليل ".
ورغم إهمال النقد المتعمد لأعماله في الستينات الذي كان ثمرة من ثمرات الحصار اليساري الذي ضربه حوله الذين يختلفون معه في الفكر، فإن باكثير فرض نفسه بأعماله على عدة جوائز لم تطلها أيديهم بعد.
ففي سنة 1960 نال جائزة المجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم الاجتماعية عن مسرحية " دار ابن لقمان " التي صور فيها جهاد مدينة المنصورة ضد غزو لويس التاسع الذي أسره رجال المقاومة الشعبية هناك.
وفي سنة 1961 اختيرت قصته " وا إسلاماه " للإنتاج السينمائي باللغتين العربية والإنجليزية أخرجها الإيطالي ماريتون وأنتجها رمسيس نجيب.
وفي سنة 1962 حصل على جائزة الدولة التشجيعية عن مسرحية "هاروت وماروت".
وفي سنة 1963 منحه الرئيس جمال عبد الناصر وسام عيد العلوم والفنون من الدرجة الأولى، كما حصل على وسام عيد العلم ووسام الشعر في السنة نفسها.
وفي سنة 1964 حصل على أول منحة تفرغ ينالها أديب مصري كتب فيها مطولته الدرامية الإسلامية " ملحمة عمر" من تسعة عشر جزءاً فكانت خير ما ختم به حياته الأدبية العريضة.
وبعد وفاته بقليل سنة 1970 تم إنتاج عمله الشعري أوبريت " شادية الإسلام " أخت الرسول صلى الله عليه وسلم بالرضاعة، فيلماً سينمائياً.
هو والحكيم
ترك علي أحمد باكثير ـ رحمه الله ـ رصيداً ضخماً من المسرحيات التي لا يتفوق عليه فيها من حيث الكم إلا توفيق الحكيم. فله أكثر من سبعين مسرحية إذا احتسبنا كل جزء من " ملحمة عمر" عملاً درامياً مستقلاً، أما إذا احتسبنا " ملحمة عمر" بأجزائها الثمانية عشر عملاً درامياً واحداً، فإن مسرحياته تربو على الخمسين، وإذا أضفنا إلى هذا الرصيد العدد الكبير من المسرحيات القصيرة ذات الفصل الواحد والتي تقرب من مائة وخمسين عملاً أكثرها منشور زاد تراث باكثير المسرحي عدة مجلدات.
وقد غلب الطابع السياسي والفكري على معظم أعمال باكثير المسرحية منذ البداية، وخاصة في مصر، فقد كانت المرحلة التاريخية التي كان يمر بها العالم العربي والإسلامي منذ أواخر الثلاثينات إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية وقيام دولة إسرائيل في فلسطين، قد أملت على باكثير موضوعات مسرحياته التي كانت في الوقت نفسه استجابة لطبيعته الشخصية ولفكره وقناعاته. لذلك ظلت مسرحياته، حتى البعيدة منها عن تناول الأحداث السياسي، على صلة فكرية بما يحدث في العالمين العربي والإسلامي.
وهكذا ظل باكثير في سنوات الغليان التي شهدتها مصر والعالم العربي في مرحلة ما قبل الثورة المصرية يمثل الواجهة الوطنية للمسرح المصري.
وكان الكاتب المسرحي الوحيد الذي شارك من خلال الكوميديا السياسية على وجه الخصوص في كل القضايا الوطنية والقومية والإسلامية ولم يزاحمه في هذا الجانب النضالي أي كاتب آخر. فقد كان توفيق الحكيم في تلك الفترة بعيداً بقلمه عما يحدث على الساحة السياسية لأمته، إذ كان غارقاً في تأملاته الفكرية المجردة يكتب " تحت المصباح الأخضر" و " من البرج العاجي " ويسجل السيرة الذاتية في " زهرة العمر"، والتجارب العاطفية في " الرباط المقدس " وأغلبها أعمال غير مسرحية. أما المسرحيات التي كتبها فكانت بعيدة عن الواقع السياسي ولم تتعامل معه حتى بالرمز، إلا في ما ندر.
وهذا لا يعيب الحكيم ولا يقلل من شأنه فقد كان بطبيعته ميالاً للفكر الخالص والتأمل المجرد للدرجة التي ظن فيها أنه يكتب مسرحياته " للقراءة " لا " للعرض " الأمر الذي أطلق على بعض نتاجه " المسرح الذهني".
وهكذا نجد أن طبيعة باكثير وتكوينه وفكره وشخصيته تجعله يختلف تماماً عن الحكيم، الأمر الذي يجعله يسير عكس الحكيم فيهتم بالقضايا السياسية ويقدمها على القضايا الاجتماعية.
وقد فسر باكثير اتجاهه السياسي في محاضرات ألقاها في معهد الدراسات العربية العالمية في القاهرة سنة 1958 وصدرت فيما بعد في كتابه "فن المسرحية من خلال تجاربي الشخصية " يقول فيها (ص 41):
" كنت دائماً أشد شعوراً بالأخطار الخارجية التي تهدد الأمة العربية في حاضرها ومستقبلها مني بالأدوار الداخلية التي تفت عضدها... أي أن الناحية السياسية كانت تستأثر بالجزء الأكبر من اهتمامي دون الناحية الاجتماعية لأن هذه الأخيرة يمكن إصلاحها على المدى الطويل بعد أن تضمن خلاصنا من السيطرة الاستعمارية ونجاتنا من المؤامرات الدولية".