سيادة العداوة والبغضاء بسبب غياب فضيلة العفو في المجتمعات الإسلامية
سيادة العداوة والبغضاء
بسبب غياب فضيلة العفو
في المجتمعات الإسلامية
محمد شركي
شاءت إرادة الله عز وجل ـ ولله تعالى ما شاء ـ أن يخلق الإنسان من ضعف ، ومن ضعفه أنه عرضة للخطيئة ، ومن خطيئته الاعتداء على نفسه وعلى غيره ،الشيء الذي يعرضه للعقاب والقصاص وقد جعله الله عز وجل ضروريا لاستقامة الحياة مصداقا لقوله تعالى : (( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب )) . ولما كانت الخطيئة قدر الإنسان المحتوم، فإن الخالق سبحانه وتعالى تعهده بالرأفة والرحمة ، فجعل مع القصاص العفو . ولو كان القصاص هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق العدالة لهلك الناس جميعا مصداقا لقوله تعالى : (( ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك على ظهرها من دابة )) وهذا يعني أن ما يصدر عن الناس من أخطاء يكفي لهلاكهم جميعا ، ولذلك من الله عز وجل عليهم بنعمة العفو . والعفو لغة هو المحو ، ومنه العافية أي محو العلة لحصول الصحة . ومن صفات الله عز وجل المثلى العفو حيث يمحو سبحانه خطايا الخلق . وتفوق صفة العفو صفة الغفر ، ذلك أن الغفر ستر للذنوب والخطايا فقط ، بينما العفو محوها وتجاوزها . وتجتمع الصفتان معا في الخالق جل وعلا مصداقا لقوله تعالى : (( فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا)) والملاحظ في هذه الآية الكريمة أن صفة العفو سبقت صفة الغفر . وستر الذنوب لا يعني زوالها ، بينما العفو يعني محوها ، لهذا فالعفو غفر وزيادة . ومما جاء في الأثر أن رجلا ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم حال امرأة بنى بها على أساس أنها بكر فوجدها ثيبا فقال له : " إن شئت سترت ولك أجرك وإن شئت طلقت " بمعنى إن شئت غفرت وأنت مأجور وإلا انتصفت منها بالطلاق ، وقد قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم الغفر على اتخاذ قرار الطلاق لأن المقام مقام غفر لا مقام عفو ، ذلك أن النفس البشرية ضعيفة في مثل هذه الحالة لا تقوى على ما لا تطيق ، و لأن الله عز وجل لا يكلف نفسا إلا وسعها. ولقد رغب الخالق سبحانه وتعالى الخلق في التعامل فيما بينهم بفضيلة العفو وهي رحمة مهداة منه جل وعلا لتستقيم حياتهم . وإذا كان الإنسان الخطاء يرى أن خالقه سبحانه وتعالى يفغر خطايا الخلق بمن فيهم الجاحدون والعصاة ولا يعاجلهم بالانتقام في عاجلهم ، وقد يعفو عنهم في آجلهم ، فإنه لا محالة يرغب في فضيلتي العفو والغفر، خصوصا وأن الله تعالى يحب أصحاب هاتين الفضيلتين مصداقا لقوله تعالى : (( وليعفو وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم)) والصفح إنما هو العفو لأن ضرب الصفحة على الشيء إنما هو زواله ، كما أن صفة الرحمة في هذه الآية جاءت بعد الغفر وهي إنما تدل على العفو . ولما كان الإنسان يحب الغفر لنفسه ويطمع في العفو، فقد أمره الله تعالى بالاتصاف بالصفتين معا . ولقد عطف الله عز وجل العفو على فعل الخير في قوله تعالى : (( إن تبدو خيرا أو تخفوه أو تعفو عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا )) الشيء الذي يعني أن العفو فعل خير يدفع السوء . وكما يحب الله عز وجل الخير والعفو نوع من الخير، فإنه يمقت السوء مصداقا لقوله تعالى : (( لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما )) وبعد ذلك مباشرة قال عز من قائل : (( إن تبدو خيرا أو تخفوه أو تعفو عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا )) وصفة القدرة الواردة في الآية بعد صفة العفو تدل على أن العفو يكون مع اقتدار . ومعلوم أن الإساءة عندما تقع على ضعيف غير مقتدر فإنه يلتمس الانتصاف ممن أساء إليه في القصاص إلا أنه بعد اقتداره على المسيء يفكر في العفو . ومن شأن المسيء الذي يستفيد من العفو بعد الاقتدار عليه أن يحب من عفا عنه إلا أن يكون لئيما لا يقر ولا يعترف بفضل من عفا عنه . وكما جعل الله عز وجل في القصاص حياة فقد جعل أيضا في العفو حياة ، ذلك أن فضيلة العفو تشيع المحبة والمودة بين الناس ، لهذا نجد العفو يطبق أحيانا بعد القصاص حيث تسقط العقوبات أو بعضها في مناسبات خاصة دينية أو وطنية في بعض البلاد الإسلامية منا بلدنا المغرب حيث يستفيد المذنبون من عفوه من شأنه أن يؤلف قلوبهم فيقلعون عن الإساءة ليس بسبب القصاص وإنما بسبب العفو. ومع أن عدالة الله عز وجل قوامها قوله عز من قائل : (( وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله )) فالرد على الإساءة بالمثل قصاص من شأنه أن يجبر الخواطر المنكسرة ، وخير منه العفو، وقد جاء مع القصاص في هذه الآية الكريمة مع الترغيب فيه إذ سماه الله عز وجل إصلاحا يقابل الإساءة، وجعل له أجرا . وحذر الله عز وجل من عودة المسيء إلى الإساءة بعد الاستفادة من العفو فقال سبحانه وتعالى : (( عفا الله عما سلف ومن عاد فينتقم الله منه )) لأن العودة إلى الإساءة بعد الاستفادة من العفو جحود فضل ونعمة يستوجب الانتقام . وإذا كانت الإساءة تشيع العداوة والبغضاء بين الناس فإن العفو يشيع بينهم المودة والمحبة ، وبالعفو يتحول المسيء إلى إنسان صالح . ولن يتحقق استقرار المجتمعات بالقصاص وحده ،والذي قد لا يحد من الإساءة لأن الناس إذا تنكبوا الإساءة خوفا من القصاص فقط دون الاقتناع بأنها إساءة يجب أن تتجنب ربما عادوا إليها كلما سنحت لهم الفرص ووجدوا إلى ذلك سبيلا . والله عز وجل الخبير بالخلق عالج النفس البشرية المتأرجحة بين الإحسان والإساءة بفضيلة العفو التي ترجح كفة الإحسان على كفة الإساءة نشرا للمحبة والمودة فيما بين الناس . وإذا تأملنا واقع الأمة الإسلامية اليوم عربا وعجما نجد العداوة والبغضاء قد استحكمت بينهم أنظمة وشعوبا بسبب غياب فضيلة العفو ، فها هي الحروب الطاحنة تحصد الأرواح وتدمر العمران ،وتهلك الحرث والنسل لغياب أولي الألباب فينا والذين من المفروض أن يوقفوا هذه الحروب المدمرة التي سعرها أعداء الإسلام وطوابيرهم الخامسة المندسة بيننا . فمن يدعو إلى فضيلة العفو بين الإخوة في اليمن ، والعراق، وسوريا ، ومصر، وليبيا ورحى الحرب الطاحنة تطحنهم طحنا ؟ ومن يصلح بين المغاربة والجزائريين ، وقد قطعوا أرحامهم ؟ ألا يوجد حكماء بين حكامنا يشيعون فضيلة العفو فيما بينهم وبين شعوبهم ، وقد اختلت عندهم موازين القصاص ،فصارت شعوبهم لا هي تنعم بالحياة مع وجود قصاص بقسطاس ، ولا هي تنعم بها مع فضيلة العفو. أما حياة الأفراد فقد غابت عنها فضيلة العفو نهائيا ، وانتشرت الإساءة بشكل غير مسبوق بينهم ، وصار التباهي بين الناس في التفنن في أصنافها ، واختلت مساطر القصاص بسبب شهادات الزور والبهتان التي تتضمنها الشواهد الطبية الكاذبة والتي تعتمد للإمعان في الإساءة عن سبق إصرار حيث يعمد المتقاضون أمام القضاء إلى النفخ في شواهدهم الطبية للتضخيم في نسبة العجز ونسبة مدته قصد إنزال أشد العقوبات ببعضهم البعض ، والقضاء يجاريهم في تنافسهم في الإساءة وإمعانهم فيها ، ولا يشير عليهم بالعفو الذي التي تعبدنا به الخالق سبحانه وتعالى ورغبنا فيه مصداقا لقوله تعالى : (( وأن تعفو أقرب للتقوى )) فقد يلتمس الإنسان التقوى بكل الطرق والوسائل إلا طريق ووسيلة العفو، ومصداقا لقوله تعالى أيضا : (( والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين )) فقد يفكر الإنسان في كل أشكال الإحسان إلا شكل العفو فإنه لا يخطر له على بال . وقد لا يفكر الإنسان في عزة فضيلة العفو مصداقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما نقص مال من صدقة ، ولا زاد الله عبدا يعفو إلا عزا ، ومن تواضع لله رفعه " والحديث جمع بين أمور تبدو مسببة للخسارة عند من قصر فهمنه ، وهي في الحقيقة مربحة ،ذلك أن الإنفاق في سبيل الله لا ينقص من المال شيئا وقد تعهد الله عز وجل بالخلف على المنفقين ، واعتبر إنفاقهم قرضا ، ووعدهم بأداء القرض أضعافا مضاعفة ، كما أن العفو لا يجلب الذلة كما يعتقد الناس بل يجلب العز الزائد ، ذلك أن الإنسان العفو سمح بعد اقتدار ، وفي ذلك منتهى العزة . وقد يصيب المرء حقه عن طريق القصاص فلا يشفي ذلك غلته ، ولا يدرك عزا ضاع منه في حين يصيب صاحب العفو كل العز، كما أن التواضع قد يظن ضعة ، والحقيقة أنه رفعة شأن ، ذلك أن المنفق والعفو والمتواضع إنما يبتغون بأفعالهم وجه الله عز وجل ، ويلتمسون الأجر عند إله ناجز الوعد . وأخيرا شتان بين ضعيف يستقوي بالقصاص وقد لا ينال مبتغاه منه وبين مقتدر يعتز بفضيلة العفو .