ماجد واللغة الفارسية
ماجد واللغة الفارسية
سعيد مقدم (أبو شروق) / الأهواز
هذا ماجد، على ضفاف نهر كارون؛ سوف يبلغ الست سنوات بعد أربعة أشهر، ويدخل المدرسة بعد ستة أشهر؛ علمته الحروف والأعداد وبعض كلمات القرآن، لكنه سوف يتلقى دروسه باللغة الفارسية.
ولحد الآن لا يعرف من الفارسية حتى جملة واحدة؛ ذلك لأننا في البيت نتكلم بلغتنا الحبيبة (لغة الضاد).
اقترحتْ أم شروق أن أكلمه أنا بهذه اللغة حتى يتعلمها قبل أن يدخل إلى المدرسة، مهمة صعبة، أليس كذلك؟
رطنت معه بالأمس، نظر إليّ نظرة متعجب ثم ضحك بصوت عال! المسكين لم يفهم من كلامي شيئًا.
رفضتُ المسؤولية وحولتها إلى أمه التي بدأت تتراطن معه بجمل بسيطة.
اليوم عندما رجعت من المدرسة، بحثت عن قناة الجزيرة ثم العربية ثم اسكاي نيوز فلم أجدها!
وشكى ماجد أن لا خبر من جزيرة الأطفال ولا من براعم ولا mbc3 ولا نون ولا اسبس تون!
القناة الوحيدة التي عليه أن يتابع برامجها هي قناة (پویا) الإيرانية. وهي قناة تبث للأطفال وباللغة الفارسية.
بهذه الطريقة يضطر ماجد أن يتعلم لغة المدرسة؛ هذا ما قالته أمه.
وموضوع اللغة الفارسية في بلادنا لهو موضوع مهم علينا أن نأخذه مأخذا جادًا وأن مشكلة ماجد
هي مشكلة الكثيرین من عائلات مجتمعنا العربي ويجب التعامل معها بدقة وحساسية.
هناك من ألقى مهمة تعليم الطفل اللغة الفارسية قبل دخوله المدرسة على عاتق المعلمین وترك طفله
(أطرش في الزفة) في سنينه الأولى من الدراسة لا يعرف من كلام المدرس – الذي قد يكون فارسيًا
لا يجيد العربية أصلًا – كلمة واحدة، ولا يستوعب الدروس بتاتًا.
وقد يترك هذا الطفل المدرسة أو يتهرب منها كما يحصل لكثير من أطفالنا في المرحلة الإبتدائية،
وهذا ما لا نبتغيه.
وقد نجد من ركزوا على اللغة الفارسية وأمهلوا اللغة العربية – هذه اللغة التي نعشقها جميعًا ونعتز
بها اعتزازنا بأعظم الأشياء- نعم أمهلوها وتكلموا مع أطفالهم بالفارسية من الصغر، حجتهم الواهية
هي استيعاب الطفل الدروس التي سوف يتلقاها بهذه اللغة؛ وبهذا الأسلوب الخاطئ قتلوا لغة الأم
على ألسنة أطفالهم. فهؤلاء هم الذين (أرادوا أن یكحلوها فأعموها)، ومن أين نلتمس الدواء لنرجع
البصر المفقود بعد أن يفوت الأوان؟!
وهنالك بعض العوائل التي جرفها التيار دون أن تعلم، وهي التي بدأت بتعليم أطفالها اللغة الفارسية قبل
دخولهم إلى المدرسة، ثم تسربت هذه اللغة -التي كانوا يتكلمون بها مع الفرس فحسب- في بيوتهم ومن
ثم فقدت الأسرة السيطرة على اللغة الدخيلة وراح الأبناء يتراطنون إلى أن نسوا لغتهم الأم.
ففي مثل هذه العوائل، حتى الكبار سوف يعانون العجز والقصور في التعامل بلغتهم العربية حديثا وأداء.
عندئذ تجد في العائلة وبعد فوات الأوان الشيخ وعجوزته وكأنهما غريبان في مجمع العائلة وهما لا
يفهمان ما يتراطن به جمع الأسرة.
وهكذا تندثر لغة الضاد في هذه العائلة، ومثلها في مجتمعنا الأهوازي كثير.
وذلك لعمري هو الضياع الذي ما بعده ضياع.
والمصيبة الكبرى تحدث عندما يولد أبناء جدد في هذه العائلة التي تركت لغتها العربية وراحت
تتراطن بالفارسية، فهؤلاء سوف لا يجدون من يتكلم معهم بلغة آبائهم وأجدادهم؛ وتلك مصيبة
لا يستهان بنتائجها.
وبالنسبة إلى ماجد، ثمة من يعتقد أنه سوف يتلقى صدمات نفسية نتيجة افتقاده قنواته المفضلة التي
كانت تخاطبه بلغة أمه.
ومنهم من يعتقد أن نترك الأمور تمشي على طبيعتها، وأن ماجدا سوف يتعلم اللغة الفارسية بعد أن
يدخل المدرسة كما تعلمها الكثيرون من أبنائنا بعد دخولهم إلى المدارس وكانوا لا يعرفون الرطين بتاتا.
صحيح أنهم واجهوا مشاكل في بداية الأمر، لكنهم تعلموها رويدا رويدا حتى وصلوا إلى الجامعات
وحصلوا على شهادات عليا كالليسانس والماجستير.
وثمة من يعتقد أن أطفالنا سوف يتعلمون اللغة الفارسية شاؤوا أم أبوا، وعلينا – بدل أن نبعدهم
من لغتهم الأم مبكرا – أن نثري مخزونهم اللغوي لهذه اللغة الحبيبة قبل أن تسرقهم منا المدارس
فتعجم لغتهم حتى يمسوا ضعيفي النطق بلغتهم الأم.
وقد أرسلت بعض العوائل أطفالها إلى الروضات -التي لا تكلمهم بغير الفارسية- كي يتهيؤوا للدخول
إلى المدارس وهم ينطقون لغة التعلم بسهولة.
والحقيقة أن لي تجربة مرة جدًا من الروضة،
كنت قد علمت ابنتي شروق أناشيد عربية فصحى قبل سنتها الخامسة، وبدعم من قنوات الأطفال
العربية أوشكتْ أن تتعلم الفصحى كلامًا وكتابة لولا الخطأ الكبير الذي ارتكبته وهو تسجيلها في
روضة الأطفال. فحدث ما لم يكن بد من حدوثه،
روضة الأطفال تلك، (وجميعها تشبه بعضها) حرقت ما تعبت لتحقيقه من يابس وأخضر.
نست شروق جميع الأناشيد العربية،
حفظت مكانها أراجيف وأباطيل،
اتجهت نحو الفارسية وهجرت العربية تمامًا.
وكلما حاولت أن أتدارك الخسارة التي خسرتها فلم أستطع؛
وصار كلام معلمتها أهم من كلامي وكلام أمها.
فلم أنس الخسارة التي تكبدناها تلك السنة، من مال ولسان وثقافة.
ومنذ تلك السنة وأنا مستيقن بأن التعليم في بلادنا إنما يميت لغتنا الحبيبة.
حقيقة مفزعة لا ينبغي أن نمر عليها مرور الكرام.
والحل الأمثل في رأيي المتواضع– إذا ما أردنا أن نحمي لغتنا من الفناء وننقذها من الموت الذي
بات يهددها صباحا مساء من كل صوب – هو أن نعلم الأطفال قبل دخولهم المدرسة بخمسة أشهر
لا أكثر بعض الجمل الفارسية البسيطة، ثم نرافقهم رحلة دراستهم خاصة في المرحلة الإبتدائية؛ دون
أن نسمح للغة غير لغة الضاد أن تدخل بيوتنا.
وما من شك أنهم سوف يتقنون الدروس بكل سهولة دون أن نخسر لغتنا التي إن خسرناها وانبطحنا
أمام اللغة الفارسية استسلاما، خسرنا هويتنا، أمجادنا، تراثنا، حضارتنا، وجودنا، ديننا، …