أسطورة انهيار الدولة... الحقائق والأكاذيب
عبد الرحمن يوسف القرضاوي
يقولون لك : الدولة معرضة للانهيار، ونحن نفعل كل ما نفعله حفاظا عليها، وإذا عارَضْتَهم فأنت ملعون، كاره لهذا الشعب، تريد له أن يعيش دون دولة، وتريد أن يصبح مصير مصر كالعراق وسوريا والصومال وأفغانستان !
هكذا يقولون لك، والحق أن ما يقولونه حق يراد به باطل.
الدولة شعب، وأرض، وسلطة.
ليست شعبا فقط، فهناك الأكراد على سبيل المثال، أمة لها تاريخها، ولغتها، وثقافتها، ولكن لا توجد دولة كردية.
الدولة ليست الأرض فقط، فأرض الأكراد تاريخيا معروفة، ولكنها مفرقة بين عدة دول، إيران والعراق وسوريا وتركيا.
وليست سلطة فقط، لأن السلطة دون إقليم، ودون بشر، لا يمكن أن تتحقق.
وظيفة الدولة في جوهرها تنظيم حياة الناس، وحفظ حقوقهم، وتحقيق سعادتهم.
وبالتالي الدولة وسيلة، وليست غاية !
إذن لو أصبحت دولة ما عقبة في سبيل تقدم شعبها ترى الساسة يفكرون في كيفية حل هذه المشكلة، وهذا ما يؤدي إلى اتحاد عدة دول في كيان جديد، أو تقسيم دولة كبيرة لعدة كيانات.
على سبيل المثال كانت الدولة المصرية تمتد من حدود مصر البحرية على البحر المتوسط إلى آخر نقطة في دولة جنوب السودان حاليا، أي أنها تضم وفق خريطة اليوم ثلاث دول، هي مصر، والسودان، وجنوب السودان.
وفي النهاية انفصل السودان، وبعد ذلك بفترة طويلة انفصلت دولة جنوب السودان.
(ملحوظة : لم يتهم أحد عبدالناصر بالخيانة حين انفصل السودان).
الكيانات الكبرى في جوهرها مجموعة من الدول تتحد، هذا ما حدث عشرات المرات على مدار التاريخ البشري، في إمبراطورية الفرس، ومع البيزنطيين، وفي الخلافات الإسلامية الأموية والعباسية والعثمانية وغيرها.
كل ذلك لم يلغ خصوصيات الدول التي كانت جزء من هذه الكيانات الكبيرة.
هذا ما حدث مع عبدالناصر حين اتحدت مصر مع سوريا، وسقطت كلمة (مصر) من على الخريطة، ولم يعد لها وجود، فأصبح اسم الكيان (الجمهورية العربية المتحدة)، وأصبحت مصر (الإقليم الجنوبي)، والحقيقة أن لفظ مصر اختفى من على الخريطة، ولكن معنى مصر قد تضاعف مرات ومرات، لقد اختفى لفظ مصر ولكن مصر نفسها أصبحت أكبر، ولهذا بدأت المؤامرات لإفشال هذه الوحدة، وهو ما حدث بسهولة بسبب فساد حكم الانقلابات العسكرية في البلدين (أعني مصر وسوريا).
كيف تنهار الدول؟
ابن خلدون يقول : "الظلم مُؤْذِنٌ بخراب العمران" !
أي أن الظلم هو سبب انهيار الدول، ولكن في عهد الانقلابات العسكرية يحاول المستبد أن يقنع الناس أن تطلعهم للحرية، ومحاولتهم لنيل حقوقهم هو ما يؤدي إلى انهيار الدولة.
يقول ابن خلدون : "إن التجارة من السلطان مضرة بالرعايا ومفسدة للجباية".
أي أن عمل رجال الدولة (أو مؤسساتها الكبرى) في مجال التجارة، ومنافسة الناس في أرزاقهم من قبل أصحاب النفوذ (أفرادا وجماعات) هو ما يؤدي إلى انهيار الاقتصاد، وهو ما يؤدي في النهاية إلى انهيار الدولة.
ولكن العسكري يصر على أن عمل مؤسسات هامة مثل الجيش، وعمل أصحاب النفوذ من لواءات سابقين وغيرهم في (البيزنيس) أمر حميد، وأن ذلك يساعد على تقدم البلد !
يقول ابن خلدون : "إن الأوطان الكثيرة العصائب، قلّ أن تستحكم فيها دولة".
أي أنه ينبه إلى أن كثرة العصبيات ينذر بزوال الدولة، وبالتالي دولة مثل مصر، سكانها 90% منهم (على الأقل) مسلمون سنة، والبقية غالبيتهم العظمى مسيحيون أرثوذوكس، لا يتهددها شبح الحرب الأهلية بحال من الأحوال !
ولكن في عهد الانقلابات العسكرية لا بد من زرع الفتن، فيتم صناعة طوائف جديد، (إخوان)، ويقسم الشعب، (إحنا شعب وانتو شعب) !
ثم يحدثك من يرتكب كل هذه الموبقات الوطنية عن انهيار الدولة، وعن حرصه على وحدتها، بينما الدولة لن تنهار إلا بسبب حكمه.
أعود إلى حديثي الذي أريد أن أتحدث فيه :
في مصر إعلام حقير يقول للمواطن بكل الطرق "الدولة ستنهار"، ولكنه لا يقول له ما هي الدولة، ولا يحدثه عن دور الدولة، ولا الغاية من وجود الدولة.
كما أنه لا يقول له كيف تنهار الدول، ولا لماذا تنهار، ولا يحدثه بأي حال من الأحوال عن كيفية تجنب انهيار الدول.
جميع العقود أساسها في الشرع والقانون (التراضي)، والعقد الاجتماعي الذي يؤسس لقيام الدول والجماعات هو أولى هذه العقود بتحقق شرط الرضى بين أطرافه.
حين تخطف مجموعة من البلطجية دولة ما، وتحولها لإقطاعية خاصة، وتصبح مصالح هذه الفئة هي مقياس ومعيار اتخاذ القرارات مهما تعارض ذلك مع مصالح غالبية الشعب، حين تُقصي هذه الفئة بقية أفراد الشعب، يضعف الانتماء، وتصبح الدولة معرضة للانهيار.
إن فقدان الثقة في مؤسسات الدولة، ووضع الجيش في مواجهة مع أي فئة من الشعب (حتى لو كانت خارجة عن القانون)، يضع الدولة كلها في مهب الريح، ويعتبر مخاطرة بوجود الدولة المصرية، وقد يجعل فرص التراجع مستحيلة، وفرص المصالحة متعذرة.
نهاية هذا الطريق الذي نحن فيه أننا سنعترف وسنضطر إلى تفكيك كافة مؤسسات الدولة المصرية لأنها لم تعد مؤهلة لاكتساب ثقة الناس.
مع الوقت سنكتشف أن شرط الرضى لم يعد متوفرا، وأننا أمام كيان يراه ملايين الناس كيانا غاصبا لحقوقهم لكي يعطيها لفئة من الناس تراكم الثروات والمكاسب دون حق.
خدعوك فقالوا "الدولة معرضة للانهيار"، والحقيقة أن ظلمهم وطغيانهم هو ما يعرض الدولة المصرية للانهيار.
عاشت مصر للمصريين وبالمصريين ...