قصتي مع تراث باكثير (4)
قصتي مع تراث باكثير (4)
علي أحمد باكثير |
الدكتور محمد أبو بكر حميد |
*الخاطر الحزين:
المثير لبواعث الأسى والأسف أن يكون الوطن الذي أنجب باكثير آخر من يحتفل به، فقد حال سقوط حكام عدن في براثن الشيوعية دون دخول كتب باكثير إلى وطنه ما يقرب من عشرين عاماً، والخاطر الحزين الذي رحل به باكثير معه،أن وطنه كان سائراً على درب الماركسية في حين كان باكثير نفسه يجابه الشيوعية والشيوعيين من موقعه في القاهرة، وجند قلمه الإسلامي الحر في مواجهة هذا الخطر الداهم، ولعل أبرز وسائل هذه المواجهة روايته الرائعة " الثائر الأحمر " الذي اختار لها عنواناً فرعياً يحدد اتجاهها الفكري وهو " قصة الصراع بين الرأسمالية والشيوعية والعدالة الإسلامية ". وقد أدى هذا الالتزام الإسلامي في أعمال باكثير الأدبية إلى انقضاض اتجاهات اليسار عليه في مصر في فترة الستينيات التي سقطت فيها وسائل الإعلام في أيديهم فحاصروا الرجل وخنقوه وحاولوا كسر قلمه في يده بمحاولة تعطيل نشر أعماله وتأليب النقاد عليه والصمت في الكتابة عنه، واستمر هذا الحصار حوله والتعتيم عليه حتى توفاه الله في 10 نوفمبر 1969م، وكان قبلها قد أذاع صرخته الشهيرة " لأن أكون راعي غنم في حضرموت خير لي من هذا الصمت المميت في القاهرة " ولم يهدأ له خاطر حتى عاد إلى وطنه سنة 1968م، وكان اليمن الجنوبي قد نال استقلاله 1967م، وبمجرد وصوله إلى عدن وملاحظته للإعلام هناك والاتجاه السياسي حتى تقلبت عليه المواجع وأحس أن هذا الوطن يسير في اتجاه مخالف وما كاد يمضي شهراً في وطنه حضرموت حتى عاد للقاهرة يقول:
" لقد ذبحوني في كل مكان " .
وأعلن أنه يخشى على هذا الوطن الإسلامي الحبيب أن يسقط في براثن الشيوعية وبالفعل تحقق ما توقعه باكثير وحدث الانقلاب الماركسي في عدن في يونيو 1969م واستولى الجناح اليساري على السلطة قبيل وفاة باكثير بأشهر ومات باكثير وفي نفسه حسرة على الوطن الذي انتظر عودته فلما عاد وجده يضيع.
عودة " دار السلام "
ومن هنا نجد أن باكثير قد حورب داخل وطنه كما حورب خارجه لا ذنب له إلا أنه أخلص حياته لخدمة الفكر الإسلامي المستنير والقضايا العربية الكبيرة، وفي الأخير تنبهت الجهات الرسمية في عدن ضرورة الاحتفال بباكثير وربما عرفوا أن موسكو تحتفل بذكرى الإمام البخاري لأنها تعتبره من مواليد ما يسمى بالاتحاد السوفيتي رغم أنها تقف منه على النقيض..
والمهم أن الأستاذ عمر الجاوي رئيس اتحاد الأدباء والكتاب اليمينيين كان وراء هذه الدعوة، وبالفعل استجابت الجهات الرسمية في عدن لهذا النداء وتم ترميم " دار السلام " وهو الاسم الذي سمى به علي أحمد باكثير منزله في سيئون، تم الترميم على نفقة الدولة.. التي أطلقت عليه اسم " دار علي أحمد باكثير" ليكون متحفاً ومكتبة وداراً للأدباء وتم الافتتاح في مهرجان ثقافي كبير عقد في الفترة من 21 إلى 23 ديسمبر 1985م ودعي إليه لفيف من الأدباء العرب أبرزهم الدكتور عبده بدوي وافتتح المهرجان عن الجهات الرسمية المهندس حيدر أبو بكر العطاس رئيس مجلس الوزراء في الحكومة الماركسية ولعل خير ما قيل في المهرجان من الجهات المحلية هو ما قاله الأستاذ عمر الجاوي في كلمته:
" ملعون ذلك الذي لا يقول الصدق.. وملعون ذلك الذي يريد أن يضع باكثير من حضرموت، وباكثير عربي للأمة ومسلم لكل المسلمين ".
وأدان الأستاذ الجاوي صراحة اتجاه الإعلام لمنع انتشار إنتاج باكثير فقال:
" نحن نعلم مقدماً أن إنتاج باكثير ليس منتشراً في وطنه، وربما تحفظت بعض الجهات على عدم انتشار إنتاجه.. إن باكثير فنان كتب من وجهة نظره، واستحق أن يخلد لأنه صاحب وجهة نظر ".
وقد كانت هذه الكلمة كلمة حق وإنصاف قالها رجل يؤمن بحرية الكلمة في عدن التي كانت تعتبر من يخالفها في الرأي عدواً لها، قال الأستاذ الجاوي وهو يعلم أن اسم باكثير كان لا يزال من ضمن الكتاب الإسلاميين الممنوعة كتبهم من دخول البلاد رسمياً، وقتئذ، كما أخبرني بنفسه، وهذا موقف يحمد للأستاذ الجاوي لأنه هو نفسه يحمل فكراً يختلف عن فكر باكثير!! وعلى أية حال فقد منحت الدولة اسم باكثير " وسام الآداب والفنون " رقم 198 لعام 1985م بناء على اقتراح قدمه مجلس الوزراء وأقرته هيئة رئاسة مجلس الشعب الأعلى باليمن الجنوبي.
توصيات لم تنفذ
وأوصى المهرجان بتوصيات رائعة لم ينفذ منها أي شيء إذ جاءت مذبحة 13 يناير 1985م بين رفاق السلاح لتقضي على كل شيء وتقتل مشاريع الابتسامات على الشفاه، ولو يعاد النظر اليوم في هذه التوصيات ويتم تحقيقها فإن باكثير سيعود مجدداً إلى وطنه خاصة إذا نفذت المقترحات التالية التي أقرها المؤتمر:
· يوصي المشاركون بوضع تقليد راسخ لإحياء ذكراه اليوبيلية.
· يوصي المشاركون بنشر إنتاج باكثير على نطاق المسرح والشعر الفصيح والعامي ورواياته كأعمال كاملة ويتبنى اتحاد الأدباء عملية الطبع والنشر.
· يُعمم إنتاجه الأدبي على أجهزة التعليم في المدارس والجامعات.
·يوصي المشاركون بالبحث عن كل ميراثه في مصر وأندونيسيا وحضرموت حتى تشكل محصولاً للبدء في تأسيس المتحف وللنشر والتصوير والإذاعة والتلفزيون ومادة أكاديمية للجامعات.
·يوصي المشاركون بتبني قضية الدفاع عن الحقوق الشاملة مادياً ومعنوياً للأديب الكبير ومحلياً وعربياً ودولياً.
·
يوصي المشاركون بالاهتمام برعاية أسرة باكثير وذويه ودعم كل الذين يتبنون مسألة البحث عن ميراثه الأدبي.وللأسف لم يتحقق من هذه التوصيات جميعاً إلا واحدة فقط وهي تحويل مسكنه الشخصي في سيئون بحضرموت إلى مزار ومقر للأدباء ومتحف غير مكتمل.