العرب والتحدي الثقافي والحضاري

سمير الطرابلسي

يكتنف الحديث عن التحدي الثقافي والحضاري الذي يواجه العرب صعوبة في تعريفه تعريفا جامعا مانعاً كما يقولون. وسبب هذه الصعوبة أن الظواهر الإجتماعية بطبيعتها متغيرة متفاعلة وذات تاريخ، ومن هنا فلعله من الأسلم أن يكون رصد هذه الظاهرة في أطوارها وتطوراتها، هو المدحل لفهمها ومعرفتها وتحديد صيغة للتعامل معها.

مع بدايات القرن التاسع عشر، كانت عوامل عدة قد تضافرت، لترسم للواقع العربي صورة كئيبة.  فالقرون الطويلة التي مرت على الأمة في ظل الحكمين (المملوكي والعثماني) اللذين تميزا بعزلة الحكام عن المحكومين، أورثت الواقع العربي أنظمة اجتماعية جائرة، كما أورثته أيديولوجية قانعة بماهو فائم، إن لم نقل خانعة لما هو قائم، تعتبر أن الكلمة الفصل في كل المسائل والموضوعات قد قالها السلف الصالح، فاستمرأت الكسل العقي واكتفت بالمماحكات اللفظية في المتون والحواشي والشروح والتعليقات والتلخيصات... الخ

أضف إلى ذلك كله الآثار الإستراتيجية الضخمة التي ترتبت عن تحويل طريق التجارة الدولية إلى رأس الرجاء الصالح مع بداية القرن السادس عشر، الأمر الذي حرم العرب من أهم مواردهم الإقتصادية، أعني  به عائدات التجارة الدولية المارة في أراضيهم. 

كانت موروثات العصر المملوكي العثماني تكبل العرب بالتخلف، وتقيدهم بالجمود وتثقل حركتهم، عندما فرضت عليهم الأقدار أن يتلقوا صدمة الغزوة الإستعمارية الحديثة الممثلة للمدنية العربية الحديثة، المسلحة بكل إنجازاتها العلمية والتقنية.  كانت حملة نابليون على مصر عام 1798 طليعة هذه الغزوة، ثم توالت الحملات وهي لاتزال مستمرة إلى اليوم. 

وعلى امتداد زهاء قرنين من الزمن، بدا واضحا أن الغزوة الإستعمارية الحديثة لاتستهدف فقط إخضاع المنطقة العربية بالعنف، والسيطرة عليها بالقوة، ولاتكتفي نهب ثروات المنطقة وبناء اقتصاد هامشي فيها تابع لاقتصاديات الدول الاستعمارية، بل إنها، إضافة لذلك كله، وبغية تحصينه، سعت لتحطيم الوجود القومي العربي،سائرة نحو ذلك الهدف على خطين:

الأول، تجزئة المنطقة وتمزيقها سياسيا واقتصاديا ودينيا وعرقيا وصولا إلى التفتيت الكامل.  وفي هذا السياق يبرز الدور المميز للكيان الصهيوني الذي أنشئ، ليكون حارسا للتجزئة ومصدرا للنزعات التفتيتية. 

والثاني سحق الشخصية القومية العربية ومسخ هويتها الحضارية المتميزة، ونشر التغريب الثقافي والفكري، بحيث تكون التبعية الفكرية والثقافية هي ضمانة بقاء المنطقة في مجالات التبعية الأمنية والإقتصادية والسياسية. 

إنطلاقا من هذه الرؤية لطبيعة الظروف التي عاشها العرب عند دخولهم الأزمنة الحديثة والمعاصرة، وتستخدم فيها القوى الإستعماربة كل قدرات وإنجازات المدنية العربية. 

وحيث أن الأمم والشعوب، لاتستطيع أن تواجه مشاكلها وأزماتها، بحلول جزئية لاتلبث أن تتناقض ويتسرب إليها الخلل، إذا لم تجمعها تصورات أساسية ورؤى شاملة لما ينبغي أن تكون عليه صورة الحياة المستقبلية، ولكيفية تلبية احتياجات الإسان وتأمين مصالحه. 

فإنني أعتبر أن التحدي الثقافي والحضاري الذي يواجه العرب، يمكن في بلورة مشروع حضاري عربي تحرري وحدوي نهضوي، مؤسس على  ثوابت راسخة لا يستطيع أحد أن يغيرها بإرادة فردية أو بجرة قلم، ويشكل دليل عمل في كيفية مواجهة التحديات التي تتعرض لها الأمة على كل الصعد حاليا ومستقبلا. 

وأود في هذا المجال أن أسجل ملاحظتين:

أولا: أن المشروع الحضاري العربي المنشود، ليس مجموعة مقولات يمليها فرد على الأمة أو تفرضها فئة على بقية الفئات، وليس هو لعبة سياسة أو نزوة أهواء. 

إن هذا المشروع حتى يتبلور، يحتاج إلى حوار واسع معمق ومتصل تضطلع به أكثر عناصر الأمة استنارة وقدرة على الرؤية الصافية.  فما من أمة من الأمم أو مجتمع من المجتمعات، حقق التقدم إلابعد أن استطاع بفكر حر ومنفتح وحوار معمق ومتصل، أن يصل إلى نوع من التراضي العام الذي يبت ويحسم في القضايا الأساسية التي تتعلق بهوبته ومقومات وجوده، فحولها إلى ثابت راح على ضوئها يرسم ملامح دوره وتصوراته لما ينبغيي أن يستقر عليه مستقبله.     

ثانيا: إن الشعور بالحاجة إلى مشروع حضاري عربي، هو شعور قديم، فمنذ الصدمة التي أحدثتها حملة نابوليون على مصر وما كشفته من مواطن ضعف فينا ومواقع قوة عند غزاتنا، والقضية مطروحة وإن تعددت أشكال طرحها ومناهج بحثها.  وإذا كان صحيحا أن أعمال قطاع واسع من الكتاب والمفكرين العرب، شكلت طوال القرنين الماضين، مساهمات قيمة على صعيد بلورة المشروع الحضاري العربي، ولكن لا ينبغي أن يغرب عن بالنا، أن الساحة الفكرية والثقافية بنتاجها وصراعها، عكست إلى حد كبير الصراع الذي خاضته وتخوضه الأمة، ضد قوى السيطرة الأجنبية والتخلف. 

فالقوى الإستعمارية بموازاة جهودها العسكرية والسياسية والإقتصادية، اقتحمت الساحة الثقافية والفكرية بإرسالياتها ومستتشرقيها، وبسائر وسائل الثقافة حاملة إلى أجيال متعددة الأفكار التي أراد الإستعمار أن يزرعها بغية سحق الشخصية القومية العربية، ومسخ الهوية الحضارية المتميزة لأمتنا، ولم تكتف القوى الإستعمارية بذلك، بل عمدت إلى استخدام قوة السلطة لتنصر اأديولوجيتها، فوضعت برامج التعليم في الأقطار العربية، وأحيانا كثيرة، إضطهدت كل من شكل خطرا على مخططها التغريبي، ولقد نتج عن ذلك كله أن قطاعا لايُستهان به من النتاج الفكري والثقافي العربي، جاء متأثرا بالفكر الوافد من الغرب. 

وإذا كان من غير الجائز إغفال مساهمة بعض رموز التيار التغريبي،   في تعريف الغرب، على بعض جوانب المدنية الغربية وأفكاررها وأنماط تفكيرها، فإنه ليس من باب التجني القول، بأن المحصلة النهائية لأعمال التيار التغريبي، لم تشكل مساهمة إيجابية على صعيد بلورة المشروع العربي الحضاري. 

ومن جهة أخرى فإن الصدمة التي تعرضت لها أمتنا بعد الغزوة الإستعمارية المعاصرة، وما حملته من مخططات تذويب الشخصية القومية والهوية الحضارية المتميزة، دفعت بقطاع من الكتاب والمفكرين،إلى الإنكفاء على الذات والإنغلاق على الموروثات، ولكن - للأسف الشديد-  فإن الذات التي انغلقت عليها هذه الفئة، لم تكن الذات الحقيقية والنقية للشخصية العربية التي يجسدها التراث الحضاري العربي في مراحله الزاهرة، بمقدار ما كان انغلاقا على الذات التي شوهتها أيديولوجية العصر المملوكي العثماني وموروثاتها المتخلفة. 

وهكذا برز تيار الجمود الذي لا يتصور أوضاع المستقبل، إلا كصورة لما كانت عليه الأوضاع في الماضي، وما من شك في أن بعض رموز هذا التيار، استطاع مبكرا أن يكتشف ويكشف، عن عورات وثغرات المدنية الغربية الحديثة، ولكن المحصلة النهائية لأعمال هذا القطاع، لم تكن بالقطع مساهمة إيجابية في بلورة المشروع العربي الحضاري المنشود. 

وفي مواجهة هذين التيارين: تيار التغريب، وتيار الجمود، كان هناك تيار ثالث تعددت اجتهادات أعلامه حول المسائل التي ناقشوها، ولكن مجمل هذه الإجتهادات جمع بينها قاسم مشترك، هو الإيمان بأن المواجهة الناجعة لمشكلات التخلف ومخططات السيطرة الأجنبية ولتحديات بناء مستقبل عربي يستجيب لطموحات الإنسان العربي تستلزم شرطين:

الاأل: أن تتأسس هذه المواجهة على ثوابت الهوية العربية وسماتها الإيمانية والحضارية المميزة. 

والثاني: أن تتسلح هذه المواجهة بعقلية انفتاحية على كل منجزات العصر وتقرأها قراءة نقدية، وتتفاعل معها لتطويعها بما يتناسب مع قواعد وضوابط فكرنا وسمات حضارتنا، فلا ترفضها بدواعي الخوف والعداء لكل ما هو أجنبي،  ولاتذوب فيها تحت تأثيرات عقد النقص تجاه الآخرين.      

لقد شكل هذا التيار ولازال، الجهة المهيئة لبورة مشروع حضاري عربي نهضوي، فالمعارك الفكرية المجيدة التي خاضها العديد من أعلام هذا التيار، ضد تيار التغريب ومقولاته، دفاعا عن الإستقلالية الحضارية للأمة، وتبيانا لخصائص شخصيتها، والمعارك الفكرية التي خاضها أعلامه ضد تيار الجمود والتخلف والمقولات الزاعمة بأن هوية الأمة، وشخصيتها الحضارية يمثلها تراث عصر الإنحطاط شكلت إسهمات بالغة الثراء وخطوات أسياسة باتجاه بلورة مشروع حضاري نهضوي عربي. 

على أن استكمال الطريق، نحو الغاية المطلوبة، يقتضي في تقديرنا أن يضطلع كل المؤمنين بالطروحات الأساسية لهذا التيار، بمهمة البحث والإجتهاد، وصولا إلى حسم الثوابت الأساسية التي تشكل أساس المشروع الحضاري المستقبلي، وهي في رأيي أربعة:

أ-الايمان بالله وبجوهر رسالات السماء وتحديد دور الدين في الحياة العربية. 

لقد كانت المنطقة العربية مهد كل الرسالات السماوية التي وإن اختلفت شرائعها فإن بينها قواسم مشتركة عقائدية أهمها الإيمان بإله  واحد حي قادر هو الله سبحانه.  الإيمان بالبعث والحساب.  الحض على العمل الصالح في المسلك والمعاملات كطريق للنجاة في الآخرة. 

إن تاريخ المنطقة العربية الديني، هو تاريخ الصراع بين الإيمان بالله والوثنية، بين التوحيد والشرك.  ولقد كان من آثار الصراع الطويل الذي خاضه المؤمنون على اختلاف شرائعهم السماوية، ضد الوثنيات وتبشيرا برسالات السماء وخاصة المسيحية والإسلام، أن ترسخ الإيمان في النفوس وتعمقت وتجذّرت قيمه ومفاهيمه في الأفئدة، وصار سمة مميزة للشخصية العربية ولإنجازاتها الحضارية.  ومن هنا فإنه يستحيل بلورة مشروع حضاري عربي نهضوي بمعزل عن الدين أو بالتناقض معه.  صحيح أن عصر الإنحطاط المملوكي العثماني استحكم فيه التخلف، فساد الخلط ما بين الإيمان والتعصب، ثم جاءت الغزوة الإستعمارية لتستثمر موروثات تلك الحقبة في إطلاق مخططات التمزق الطائفي.  إلا أن آثار ذلك لا تعالج بدعوات إبعاد الدين أو الإبتعاد عنه، وإنما تعالج بجهد مركز من قبل كل المفكرين الدينيين المستنيرين، لإبراز الجوهر الحقيقي لرسالات السماء، باعتبارها عنصر توحيد بين المؤمنين وإن اختلفت شرائعهم، وحافزا لهم نحو التقدم. 

ب- العروبة رابطة انتماء حضاري موحدة

طوال قرون طويلة قبل الإسلام كان التواصل والتفاعل بين أبناء المنطقة العربية مستمرا ونشطا وإن أعاقته الغزوات الخارجية الفارسية والرومانية والبيزنطية وحالت دون بلوغه مرحلة الإنصهار القومي.  ووقائع التاريخ تكشف عن حرص أبناء المنطقة على استقلال شخصيتهم الحضارية عن شخصية غزاتهم ولعل في كفاح الكنائس الشرقية القبطية والسورية دفاعا عن لاهوتهم المشترك في مواجهة اللاهوت الرسمي للكنيسة البيزنطية، مؤشر على هذه النزعة الإستقلالية. 

وعندما خرج العرب المسلمون من جزيرتهم، حملوا معهم رسالة الإسلام ومفهوما للعروبة الحضارية صاغه الرسول العربي الكريم بقوله : ((ليست العربية لأحدكم بأب ولا أم لكنها اللسان، فمن تكلم العربية فهو عربي)).  وما من شك في أن هذا المفهوم الحضاري للعروبة، والدور الذي لعبته الفتوحات العربية الإسلامية في تحرير المنطقة وتوحيدها ورفع الإضطهاد الديني والعنصري عن أبنائها، ساهما، ليس في انتشار الإسلام فحسب، وإنما في تعريب كل أبناء المنطقة المسلمين وغير المسلمين.  فأعاد الجميع تشكيل حياتهم في ظل رابطة قومية موحدة، وساهم الجميع في بناء صرح حضاراتهم المميزة وشخصيتها.  القومية المستقلة. 

إن عصور التخلف والطروحات الإستعمارية التمزيقية، ألحقت تشويهات بالمفهوم الحضاري.  التوحيد للعروبة فصورته تارة بصورة عرقية، وطورا بصورة طائفية، والهدف هو إيجاد أرضية للمشاريع التمزيقية داخل المجتمع العربي. 

إزاء هذه المخططات التي شهدنا ونشهد في لبنان، وفي أكثر من منطقة عربية، محاولات لتمريرها، فإن توضيح المفهوم الحضاري للعروبة، يصبح مقدمة ضرورية لدحر هذه المخططات. 

إن العروبيين ليسوا مطالبين بإدانة النزعات الإنفصالة التمزيقية فحسب، وإنما هم مطالبون من خلال التأكيد على الرابطة الحضارية العربية، أن يجعلوا التمييز واضحا بين مفهومنا العربي للرابطة القومية، ومفاهيم أخرى بنت وحدتها المجتمعية على قواعد التطهير العرقي والديني. 

ج- الوحدة التكاملية باعتبار الصيغة الارقى للحياة العربية الحرة 

ما من مجتمع من المجتمعات يملك أن يتجاهل أحكام الجغرافية والتاريخ. 

إن المنطقة العربية تمثل وحدة استراتيجية واقتصادية، إضافة إلى وحدة مجتمعها القومي.. وفي الوقت نفسه، فإن التنوع القائم فيها، مابين البادية والحضر والمجتمعات الزراعية على ضفاف الأنهر الكبيرة كالنيل ودجلة والفرات والمجتمعات التجارية، فرضت على المنطقة منذ أقدم العصور إيجاد صيغ تكاملية بين أقاليمها، فقبل الإسلام شهدت المنطقة تحالفات دفاعية ضد الغزوات الخارجية وأطرا للتعاون في المجال الإقتصادي، وبعد الفتوحات الإسلامية كان التوحيد في ظل الدولة العربية الإسلامية يستند إلى صيغ مرنة تحقق التكامل بين الأقطار العربية ومجتمعاتها المتنوعة. 

إن الإيمان بأن القوة العربية الذاتية لايمكن أن تبنى على التجزئة، لابد له أن يتعمّق، ليس عن طريق الطرح العاطفي لوحدة اندماجية، وإنما بصياغة رؤية علمية لكيفية تحقيق التكامل بدءاً من أدنى مراتبه، ووصولا إلى أعلى درجاته.

د- عقلية انفتاحية ترفض العزل أو الإنكفاء على الذات

إن من حقائق الجغرافيا أن المنطقة العربية تقع في قلب العالم، وعلى أرضها وفي بحارها وأجوائها توجد أخطر ممراته الإستراتيجية وأهم طرق تجارته ومواصلاته.  ومن حقائق التاريخ أن من هذه الأرض انطلقت كل رسالات السماء إلى أصقاع المعمور. 

إن العزلة أو الإنكفاء على الذات، وهو خيار جرّبته أمم عدة في حقب تاريخية متنوعة، لاتسمح به أحكام الجغرافيا والتاريخ للمنطقة العربية.  وخاصة في عصرنا الذي تحوّل فيه العالم إلى مايُشبه البلدة الصغيرة بفعل ثورة الإتصالات والمواصالات، فالمنطقة محكومة بأن تتفاعل مع عالمها، فإما أن تعد العدة الكاملة لتفاعل حر وخلاق، لتأخذ مكانها ومكانتها بين الأمم عن طريق بناء القوة الذاتية المستقلة، والشخصية القومية الحضارية الراسخة، ثم تدير – استنادا إلى مصادر قوتها الذاتية- حوارا مع عالمها وقواه وتياراته، وإلاستكون في حالة تبعية للقوى الأخرى تعاني القهر والنهب والتخلف. 

إن حسم هذه المسائل الأربع باجتهاد فكري خلاق وحوار حر، اذ يمثل في تقديرنا المقدمة الإساسية لإطلاق مشروع نهضوي، تكمن في انتقال ثوابته وتصوراته من حالة فكرية تؤمن بها الصفوة، إلى حالة جماهيرية تسلحها بالوعي، وترشد خطواتها في صراعها الذي تخوض ضد قوى التخلف والسيطرة، وعندها عندها فقط، يصبح الإنتصار حتميا، وتصبح الإستجابة للتحدي في ذروتها. 

نص مداخلة ألقيت في ندوة

تحت عنوان"العرب و التحدي الثقافي والحضاري"