ذكرياتي مع دعوة الإخوان المسلمين في المنزلة-6-7

ذكرياتي مع دعوة الإخوان المسلمين في المنزلة

( الحلقة السادسة)

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

في المجال الرياضي والاجتماعي

وما ذكرناه سابقًا يمثل الرحلات والمعسكرات التي قمنا بها - نحن إخوان المنزلة - دون مشاركة إخوان من الشعب الأخرى.

وابتداءً أقول: كان هناك رحلات "تبادل الزيارات"، والرحلة لا تستغرق أكثر من يومين غالبًا، ويكون للرحلة برنامج، أهم ما فيه حفلات السمر.

وما زلت أذكر حفل السمر الذي أقمناه مساءً لإخوان بورسعيد في ساحة المدرسة الخديوية بالمنزلة، (وهي المدرسة الابتدائية التي يملكها الأستاذ عبد الرحمن جبر رئيس منطقة الإخوان بالمنزلة)، وما زالت ترن في أذني أغنية الجوال البورسعيدي رجاء مكاوي، ومطلعها:

 يا رب بارك في الإخوان         يا رب بارك في الإخوان

 وانصر مرشدنا          قائد دعوتنا

 يا رب بارك يا رب بارك          في الإخوان بارك يا ربي

وكان هذا المطلع هو اللازمة التي يرددها بعده الكورس.. وكان "رجاء" نديَّ الصوت، جميل النبرات.

كما قمنا - نحن إخوان المنزلة - بأكثر من زيارة إلى شعب بورسعيد (وكان في بورسعيد عدة شُعب).

وكان لأهل المنزلة نشاط تجاري مع بورسعيد، وكانوا يطلقون عليها آنذاك "البُلْط" وأعتقد أن الكلمة تسهيل لكلمة "بورت" Port ، أي ميناء، وأشهر أنواع السمك "البلطي" نسبة إلى "البُلْط". ومن المحلات التجارية لبعض أهل المنزلة في بورسعيد "دكان بيع الأواني النحاسية للأخ المنزولاي: حلمي حمود، ومحل من هذا النوع يملكه الحاج إبراهيم القراني (أو القيرواني)، ولوكاندة "مسعد عنين"، وهو من العزيزة - إحدى قرى مركز المنزلة – هذا، غير مئات من العمال في الميناء، والخدمات العامة.

ولا يفوتني أن أذكر في هذا السياق أن الإنجليز كان لهم وجودهم العسكري، وثقلهم المدني في بورسعيد؛ ولذلك شاءوا أن تقسم المدينة إلى حيين رئيسين: حي العرب، وحي الإفرنج.

وكان الحي الأول نموذجًا سيئًا للقذارة والإهمال، وخصوصًا المنطقة الواقعة مباشرة على بحيرة المنزلة.

واسمها منطقة "المناخ"، حيث راجت تربية الخنازير وتجارتها. وكنا نصل إلى بورسعيد "باللنش" أي السفينة البخارية، وقبل الوصول إلى الشاطئ بقرابة ميلين يحس الراكب برائحة منتنة شديدة، هي رائحة الخنازير ومخلفاتها.

هذا عن حي العرب. أما حي الإفرنج، أو الحي الإفرنجي، فيسكنه آلاف من الأجانب، وخصوصًا اليونانيين، وكان العامة يسمونهم ب "الجريج"، وربما كانت تحريفًا لكلمة "GREEK".

وقد رأيت الوضع نفسه في مدينة الإسماعيلية: حي العرب، وحي الإفرنج، وللأسف امتدت هذه التسمية إلى المحلات، والدكاكين، ومراكز البيع، فمحل البقالة المنظم النظيف تطلق عليه "بقالة إفرنجي"، حتى لو كان في حي العرب، أو في المدن والقرى الأخرى. مع أن "الفرنجة" أيام الحروب الصليبية - كما يقول "ديورانت" وغيره من عدول كتاب الغرب - لم يعرفوا أمور النظافة ونظام الحمامات، واستعمال الماء إلا من المسلمين، وكان بعض القسس يغوصون بأجسامهم في مياه المجاري، والمراحيض تقربًا إلى إلههم.

وفي واحدة من مواعظ أحد القسس نرى إدانته وحملته الشديدة على المسيحيين؛ لأنهم أصبحوا "يقلدون الكفار" - أي المسلمين - باستعمال الماء".

قد يكون - فيما ذكرته نوع من الاستطراد - ولكني أرى أن المسلم يجب أن يعرف هذه الحقائق؛ حتى يزداد إيمانًا بعظمة دينه، الذي جعل الماء أصل المخلوقات ) أَوَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ( (الأنبياء: 30)، وجعل النظافة من الإيمان.

الرحلات والمعسكرات المشتركة:

وأقصد بها ما لم يستقل به إخوان المنزلة، بل كانوا يشاركون فيه إخوانًا من الشعب الأخرى، وأذكر من هذه الرحلات الرحلة التي قادها وأشرف عليها الداعية الإسلامي الشيخ: سيد نادرين، وهو من "البجلات" مركز دكرنس دقهلية.. والرحلة كانت إلى بورسعيد، واشترك فيها إخوان من المنزلة، ومنية النصر، والدراكسة، وقرى أخرى.

معسكر جمصة:

وهو معسكر صيفي، اشترك فيه إخوان من شعب المدن والقرى بالدقهلية، وجمصة قرية على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، وكانت تبعد عن الشاطئ قرابة كيلو متر. فأقام الإخوان معسكرهم على الشاطئ مباشرة، وهو مكون من خيام وعشش من البوص. ولم يكن على الشاطئ أي مبنى من المباني التي نراها الآن. وهذا يعني أن الإخوان بمعسكرهم هذا يعدون روادًا في غزو هذا الشاطئ. وألخص في النقاط الآتية واقع هذا المعسكر، وأبعاده ووقائعه:

1)    كان قائد هذا المعسكر والمشرف عليه هو الأستاذ صلاح الشربيني - أستاذ المواد العلمية بالمعهد الديني بالمنصورة - وهو داعية متمكن، ذو أسلوب هادئ مقنع، يجمع بين قوة العارضة، وصدق العاطفة، (ولنا حديث مفصل عن الأخ صلاح في إحدى الحلقات القادمة إن شاء الله)، وأشهد أن الأخ صلاح كان يدير المعسكر بدقة باركها الله.

2)    كان المعسكر على أفواج، كل فوج من ستين أخًا، وأذكر أن المدة التي كان يقضيها الفوج عشرة أيام، يستغرقها برنامج تربوي وروحي، ورياضي، ومعرفي. ولكن الأخ صلاح كلفنا ذات يوم بالصوم - لا عن الطعام والشراب - ولكن عن الكلام. فعلى كل أخ ألا يتكلم من الفجر إلى المغرب إلا بلغة الإشارات. ومن ينس وينطق كلمة، أو جملة، فَعَلَيه أن يدفع لصندوق المعسكر قرشًا عن كل كلمة.

ولا شك أن في ذلك تدريبًا على الصبر، والتحكم في الإرادة. والحقيقة أنني لا أدري إن كان لهذا النوع من الصوم أصل شرعي، أم لا، وإن جاء في القرآن الكريم: ) قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ( (آل عمران: 41). وذلك أنه حينما بشر زكريا بأن الله سيرزقه بغلام سأل الله أن يجعل له علامة على أن زوجته حامل، فأخبره الله سبحانه وتعالى أن علامة ذلك إذا قضي عليه أن يكون محبوس اللسان، فلا يعبر إلا بالإشارة، وهو حكم إلهي يعجز أي إنسان عن مخالفته.

ونحمد الله أن الأخ صلاح لم يفرض غرامة على الضحك.. لأن كثيرًا من الإشارات التي يعبر بها كانت غالبًا ما تثير الضحك.

مثال ذلك، في التعبير عن حضور "الأخ سيد أبو حلاوة" بالإشارة إلى الأمام بكف مضمومة الأصابع، وذلك يعني الحضور إلى المعسكر. ثم يضم سبابة الكف اليمني إلى سبابة الكف اليسرى، وذلك يعني "الأخ"، أما السيد فيعبر عنها برفع اليد إلى أعلى؛ "لأن السيادة علو وارتقاء". و"أبو" يعبر عنها ببرم الشاربين، وأخيرًا يعبر عن كلمة "حلاوة" بوضع أطراف أصابع الكف اليمنى مضمومة على الشفتين وتقبيلها، يتلو ذلك المضغ على "الفاضي"، فهذا يعني "حلاوة"، والإشارات مجتمعة تعني تعبيرًا عن جملة "حضر الأخ السيد أبو حلاوة".

ولا شك أن فك أو فهم هذه الرموز الإشارية يحتاج إلى عبقرية من نوع خاص. وربما كان الصم البكم أقدر على فهم هذه الإشارات من الأسوياء.

ولعل أمتع ساعة وأصفاها تلك التي نؤدي فيها صلاة الفجر جماعة على شاطئ البحر مباشرة، حيث يفتح الإمام قلوبنا بعبير القرآن في ركعتي الفجر، ويسري إلى هدير البحر، فكأني بكل كلمة قرآنية قد تحولت إلى منارة، فإذا بالبحر على مدّ البصر ثوب محلى بقطع براقة من الماس، ويتحول هديره إلى ترتيلة ملائكية شفيفة، فنعيش - نحن المصلين - في عالم علوي تعجز الكلمات عن وصفه؛ مما يذكرني ببيت أبي تمام:

فتح الفتوح تعالى أن يحيط به     نظم من الشعر أو نثر من الخطبِ

وازداد إيماني ويقيني بقوله تعالى: ) أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً( (الإسراء: 78).

أي أقم الصلاة: صلاة الظهر لزوال الشمس عن كبد السماء، وميلها عن وسط السماء إلى جهة الغرب، وكذلك صلاة العصر، ثم أقم صلاة المغرب والعشاء عند مجيء ظلمة الليل، ثم أقم صلاة الفجر (الصبح)، فإن صلاة الفجر وما فيها من قرآنٍ تشهدها ملائكة الليل، وملائكة النهار.

ومما كلفنا به الأخ صلاح كذلك أن يكتب كل واحد منا يومياته.. أي يكتب كل يوم صفحة تتسع لتسجيل وقائع المعسكر، وخواطره، ومدى انتفاعه ببرامجه. يكتب ذلك بلا قيود، ودون أن يطلع عليه أحد، ولكن إذا سجل مآخذًا أو مقترحات فليطرحها للمناقشة.

ثم كانت المأساة:

بعد صلاة الظهر، وقبل العصر بقرابة ساعة نزلنا إلى البحر بجوار الشاطئ، فلم يكن فينا من يتقن السباحة إتقانًا يسمح له أن يبتعد كثيرًا عن الشاطئ، ثم توجهنا جميعًا إلى المعسكر لأداء صلاة العصر، وتناول الغداء. وبعد الصلاة.. جلسنا كالعادة في مجموعات؛ لتناول الغداء.. وسأل أحد الإخوة بصوت مسموع.. يا أخ صلاح: أين الأخ عبد السلام فرحات؟ هل كلفته بالنزول إلى القرية لشراء شيء؟

- أبدًا..

ووجه السؤال إلى جميع الإخوة، فأجابوا بالنفي.

وأشهد أن الأخ عبد السلام كان معنا في البحر بمايوه أزرق، وأخذ يتقاذف الكرة كالآخرين، ثم انشغل كل منا بنفسه، وهو يغادر الماء - وأخذنا ننادي على امتداد الشاطئ - عبد السلام.. يا عبد السلام. ولا مجيب.

أمر الأخ صلاح بفحص حقيبة ملابسه، فوجِدتْ كل الملابس الداخلية والخارجية كما هي، ما عدا "المايوه"، وتبادلنا نظرات صامتة منكسرة، فليس من المعقول أن يترك عبد السلام المعسكر مختارًا، وهو بالمايوه، ومع ذلك، أمرنا الأخ صلاح أن ننتشر بحثًا عنه، ونزل أغلبنا إلى القرية بحثًا عنه دون جدوى.

وعدنا إلى المعسكر، ونحن في ذهول.. ثم فوجئنا بأحد الصيادين يقول: فيه واحد شاب.. يظهر كان غرقان ألقى البحر جثته على الشاطئ.. على بعد خمسة كيلو من هنا.. أعتقد أنه واحد منكم. وكانت صدمة عاتية.

- شكله إيه..؟ لابس إيه؟

- أبيضاني ... ولابس مايوه أزرق، الحقوا الجثة.. خدوها قبل الليل؛ لأن المنطقة فيها كلاب متوحشة.

وأمرنا الأخ صلاح بأن يغادر كل منا المعسكر إلى بلده.. بأقصى سرعة.. وأبقى معه خمسة من معاونيه - حتى تنحصر المسؤولية في هذا العدد القليل.

وعدنا إلى بلادنا يعتصرنا الحزن، ترى ماذا حدث بعد ذلك؟

بعد يومين علمنا أن الأب قابل الفجيعة بجلد وصبر، وقال: أحتسب ابني شهيدًا عند الله.. وإنا بقضائه وقدره لمؤمنون.

ودفن عبد السلام في جنازة مهيبة ضمت الآلاف من أهل المنصورة - رحمه الله - وعلمت من أحد الإخوة الخمسة الذي وقفوا مع الأخ صلاح.. أن آخر يومية كتبها عبد السلام كانت في الحديث إلى البحر ومناجاته. ومما كتبه:

- أيها البحر.. عظيم كريم أنت.. فمنك نأخذ اللآلئ.. ومنك نأكل اللحم الطري، وفيك قال تعالى: ) وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً( (سورة الإسراء: 70).

ولكنك أيها البحر جبار عنيف.. فإذا ما غضبت ابتلعت من السفن والناس ما تشاء، وتحولت أمواجك إلى موت زؤام ) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ( (سورة النور: 40).

وكأنما كنت يا عبد السلام تنظر إلى الغيب القريب من ستر رقيق.. يرحمك الله.

 وللحديث بقية

ذكرياتي مع دعوة الإخوان المسلمين في المنزلة

( الحلقة السابعة)

المنزلـة في غمـار الجاهليـة والـدم

في منتصف الأربعينيات تقريبًا - ولم أكن قد تجاوزت العاشرة من عمري - رأيت في شارع المحطة مظاهرة من بضع مئات من أهل المنزلة، كانوا يحملون نعشًا رمزيًّا، ويصرخون في هتاف متهكم: (أبو كرش جماص عايز ينزل الوزارة .. أبو كرش جماص عايز ينزل الوزارة). "عبد العال يا عبد العال.. أنت العال.. أنت العال.."

لم أفهم شيئًا مما سمعت ومما شاهدت، وبعد ذلك أدركت أن عباس عصفور المحامي (وهو من المطرية دقهلية) رشح نفسه لمجلس النواب ضد عبد العال شلباية، وهو من أعيان المنزلة. و "الجماص" هو القواقع البيضاء الصغيرة المتخلفة من "أم الخلول"، وبعض حيوانات البحيرة الصغيرة. وأبو كرش "جماص" أي الذي ملأ بطنه بأكل "الجماص"، وذلك - كما قلت - من باب السخرية، كما أن أهل المطرية يسخرون من أهل المنزلة بوصفهم بأنهم "بتوع الكسبة والليمون"، وهي استعمالات لا تجري إلا على ألسنة العوام. وطبعًا لابد أن تكون هناك مظاهرات مضادة قامت في المطرية.

وكنا نتمنى ألا تخرج المظاهرة عن حدود اللياقة والخلق، ولكنها الحماسة والتعصب الإقليمي، وتبقى الدلالة المستساغة لهذه المظاهرة هي وحدة صف المتظاهرين، بصرف النظر عن الأحياء التي ينتسبون إليها في المنزلة.

ثـم ظهـر الانقسـام والتعصـب المنكــود:

إذ أصبحت المنزلة قسمين أو حيين كبيرين (ويطلق على الحي اسم حارة). فالحارة الأولى هي حارة المعصرة، والثانية هي حارة الطوابرة أو النجارين، وسميت حارة المعصرة بهذا الاسم؛ لوجود معصرة ضخمة لاستخراج زيت السمسم، وبعد عصره يبقى الكسب الذي يشتريه رقاق الحال، كإدام مع الخبز، وكان أهل المطرية يسخرون من أهل المنزلة "بتوع الكسبة والليمون"؛ لأن الكسب أساسًا طعام للحيوانات.

أما الثانية، فربما رجع ذلك إلى أهم عائلة.. وهي عائلة طوبار ذات التاريخ المجيد في التصدي للفرنسيين، ويرجع أيضًا إلى الحرفة الغالبة على سكانها، وهي النجارة، وبالنظر إلى الانتخابات نرى أن حارة المعصرة كانت صاحبة الحظ الأوفى في النواب، ويتمثل ذلك في آل شلباية، الذين تقدموا لمجلس النواب بالشخصيات الآتية (بالترتيب التاريخي):

1)      عبد العال شلباية.

2)      أحمد عبد العال شلباية.

3)      السعيد شلباية.

4)      عرفات شلباية.

5)      أحمد محمد شلباية (نائب المنزلة الحالي عن الحزب الوطني).

أما حارة النجارين، أو الطوابرة، فلم يرشح منها إلا واحد هو أبو السعود المرسي السودة سنة 1944م، في مواجهة أحمد عبد العال شلباية، الذي وفق وانتخب نائبًا.

وبدأ الصدام الدامي المر بين الحارتين.. واستخدم الفريقان كل أنواع الأسلحة، ابتداءً من الحجارة، وانتهاء بالبنادق والمدافع الرشاشة، وسقط عدد من القتلى، أذكر منهم: عثمان القيعي (قفاص)، وشخصًا من عائلة عرابي (نجار)، وثالثًا من عائلة عبد الحي (تاجر طيور متجول). عدا عدد كبير من الجرحى.. زيادة على نهب البيوت، والمحلات، وسادت الفوضى، وقامت حملة من ثلاثة آلاف من رجال الأمن، على رأسهم الضابط الجبار "عباس عسكر"، وعجز هذا "الفيلق" عن القضاء على الفوضى، وانسحب عباس عسكر الجبار بفيالقه بعد إخفاقهم الذريع، ليحل محلهم كتائب الهجانة التي يراها أغلب أهل المنزلة لأول مرة.. لقد زرعت الرعب في قلوب الناس، فلزموا بيوتهم من المغرب؛ لأن الهجانة لا يتكلمون إلا بالكرابيج السودانية.

وأذكر في هذا السياق واقعة طريفة، وهي أن "حسن دُغْمش السقَّاء" كان يحمل قربة ماء على ظهره لتوصيلها إلى أحد البيوت، فأوقفوه، وصرخوا في وجهه: "أنت سارق خروفة؟" وظلوا يعملون فيه كرابيجهم إلى أن سقط مغشيًا عليه، بين الموت والحياة.

وبعد الهدوء النسبي غادر الهجانة المنزلة، ولكن ظلت "عصبية" الحارة كما هي (معصرة.. وطوابرة)، مع ملاحظة أن هذا التقسيم معتمد على موقع السكن، وليس وراءه عقيدة، أو مذهبية.

وأصبح "شَـكَـل" الحارتين يؤرخ به: فيقال: حدث ذلك قبل "شَكَل" الحارتين، أو بعد شَكَل الحارتين بسنة (والشَكَََل كلمة عامية تعني الصدام الدامي).

كل ذلك يحدث والإخوان على الحياد، لا يميلون لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، كما أن الإخوان كان منهم المعصراوي (ساكن حارة المعصرة)، ومنهم الطوابراوي (ساكن حارة طوابرة)، وكلهم بحمد الله ألف الله بين قلوبهم، وجعلهم بنعمته إخوانًا.

كما أن شعبة الإخوان انتقلت من حي إلى حي، بشكل طبيعي بلا حساسية، فعقيدة الإسلام أقوى من كل تعصب إقليمي.

الإخـوان والعصبيـة الإقليميــة:

استطاع الإخوان باستعمال وسائل مباشرة وغير مباشرة، أن يخففوا - إلى أقصى حد - من هذه العصبية، حتى إننا نستطيع أن نقول: إنها اختفت تمامًا في وقتنا الحاضر. ومن هذه الوسائل:

1)  حرص الإخوان على أن يكونوا قدوة حسنة للناس في المحبة والتآلف والتعاون، مع إيمانهم لا بإقليمية النسب، بل بإسلامية الرابطة، على حد قول الشاعر:

أبي الإسلام لا أب لي سواه           إذا افتخروا بقيس أو تميمِ

2)  كما كان الإخوان أحرص الناس على مصلحة أهل المنزلة، وحمايتهم من كل سوء، كما رأينا فيما أدوه من خدمات عندما هاجم وباء الكوليرا مدن مصر وقراها. وأهل المنزلة لا ينسون موقفهم من الهجمة التنصيرية الصليبية البشعة.

3)  وعاش إخوان المنزلة مثالاً طيبًا للتسامح، ومقابلة إساءات الآخرين بصدور رحبة، ولا أنسى موقفًا لهم يدل على هذه السمة، كان في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي، وخلاصته أن الإخوان ساروا في عرض للجوالة، وقد كانوا يومها من بضع مئات، فلما وصل الجوالة إلى ساحة "سوق السلاموني" - في حارة المعصرة - ظهر قرابة ثلاثين شابًا، يحملون العصي والنبابيت، وأخذوا يقذفون الجوالة بالطماطم، والبيض الفاسد، فأمر الأستاذ "محمد قاسم صقر" العرض بالوقوف مكانه (وكان هؤلاء ينتسبون لحزب الوفد الذي كان ضد الإخوان على طول الخط)، وانضم الأستاذ قاسم إلى المظاهرة التي كانت بقيادة "منصور حمزة فراج" - أحد فتوات حارة المعصرة - وأخذ يهتف معهم "عدو الوفد عدو الدين.. عدو الوفد عدو الدين". وبذلك "حرق ورقتهم"، وصمتوا، وانسحبوا، وقد كست حمرة الخجل وجوههم، ثم انضم عشرات منهم بعد ذلك إلى الإخوان، وأصبحوا من خيرة الأعضاء العاملين.

4)  ودأب دعاة الإخوان وخطباؤهم في المساجد والندوات والمحاضرات على توجيه الناس إلى التسامح، والأخوة، والتعاون، والبعد عن العصبية الجاهلية. إلى أن انتزعوا من قلوب الناس هذا التعصب الإقليمي "للمعصرة والطوابرة".

واتسعت قاعدة الإخوان في المنزلة، وانتشرت دعوة الإخوان بين الطلاب والمثقفين بخاصة، وأصبح للإخوان شعبية تصغر أمامها شعبية أي حزب آخر.

وبعد أن كانت الهتافات "أبو كرش جماص عايز ينزل الوزارة"، و"شلباية بيه، والسودة بيه"، حل البديل الحميد الذي كانت مصر تهتف به: "الله أكبر ولله الحمد". "الإسلام هو الحل، شرع الله عز وجل . الإسلام هو الحل، ما في غيره ينفع حل".

وقد سعدت؛ حينما رأيت أطفالاً صغارًا لم يتجاوزوا الثامنة من عمرهم، وقد رفع كثير منهم قطعًا صغيرة من الأغصان، وهم يهتفون بعفوية وحماسة: "الإسلام هو الحل"، "الإسلام هو الحل".

إنه الجيل الجديد، يصنعه الله على عينه؛ ليتلقى الراية، ويكمل المسيرة.. مسيرة الحق، والنصر، والنور.

وللحديث بقية