أصل الأنواع
ومنهج داروين العلمي..!!
صالح خريسات
حين قرأت كتاب داروين "أصل الأنواع",أدركت أن العالم قوامه منهج العقل,وأنه ليس هناك شيء يتطلبه العلم,قدر ما يتطلب من الحرية,وهو في الحقيقة,لا يتطلب إلا بعد أنواع الحرية عن الضرر,ألا وهي حرية الاستخدام العلني للعقل في كل الأمور.
فعند بداية عصر التطور,وظهور البوادر الأولى للمنهج العلمي,برزت العلاقة الطردية,بين العلم والحرية,واكتشف الفكر الإنساني,أن التقدم في أحدهما,يؤدي إلى تقدم الآخر.
فلم تكن الكشوف العلمية,التي توصل إليها داروين,وكوبر نيكوس, وكلير, ونيوتن,تعني مجرد عصر جديد في تاريخ العلم,وإنما تحمل في طياتها,تحرير الإنسان أيضا من الجهل والخرافات.
فهذا الرجل العظيم,العالم "داروين",ضرب بكل المشتغلين بالعلم والمفكرين,أعلى المثل على الصبر,وبعد النظر,والتريث في الوصول إلى النتائج,قبل التثبت من جميع مقدماتها,واحتمالاتها.إذ ظلت هذه النظرية,تحوم في تفكيره خمس عشرة سنة,لم ينفق منها,ساعة من ساعات عمله,إلا باحثا وراء ما يؤيدها من حقائق, ولم يأل جهدا,في أن يراسل أي عالم,يتوقع أن يجد عنده ما يفيد بحثه.
لقد أحدث هذا الكتاب,من الثورة الفكرية,ما أحدث,وفضلا عن تلك الثورة التي أحدثها,كان له أثر آخر,هو أنه طبع التفكير العلمي,بطابع ثابت عميق الأثر, فاكتسب في ذلك صفة الأثر الدائم,في تحويل تيار الفكر,والبحوث العلمية معا.
وليس في هذا الكتاب شيء يشق على الفهم,ولكنه يحتاج إلى التأمل الكثير.فداروين بعيد كل البعد عن التعبير المسرحي,وقد امتاز أسلوبه بالليونة والهدوء,اللذين يخفيان من ورائهما,صعوبة الموضوع وتعقده.وهذا الأسلوب هو أشبه بشيء بلين الرمال ,التي إذا أغرتك ليونتها,فأنها لا تلبث أن تبتلعك.
وداروين عالم متواضع معتدل,يكتب في حذر شديد,كأنه يخشى أن يؤمن القارئ بكل ما يقوله,فهو يقدم لك الآراء التي يطرحها,لكي تناقشها,وتنقدها ,وتفندها إذا شئت ,ويكون لك من الشاكرين.بمعنى أنه يقدم الأفكار,وهو يضعها في موضع الاختبار.
وكان كل شيء ما فتئ هادئا في الحياة العلمية,حتى نشر داروين كتابه هذا,فارتج له عالم الفكر رجة عنيفة,إذ لم يكتف هذا الكتاب بالإشارة المبهمة لمذهب التطور,وبأن الإنسان قد تطور على نحو ما ,من أجناس أوطأ منه, ولكنه شرح الفكرة شرحا مفصلا,تؤيده الأمثلة تأييدا قويا,وأطنب في الطريقة التي تم بها التطور, بواسطة الانتخاب الطبيعي, وبقاء الأجناس القوية في تنازع البقاء.
ولا عبرة في أن داروين ارتكب أخطاء كثيرة في التفاصيل, فإن الأخطاء أحيانا, قد تكون مثيرة مثل الإصابات ,لأنها تفتح كوة على ناحية لم تكن مفتوحة من قبل,فإذا كان الناظر إليها أخطأ الرؤية,فإن فضله لا يزال عظيما,لأنه فتح الكوات.
وهذا ما نراه في داروين,فقد نبهنا في خطئه عن تنازع البقاء,وكل هذه الأخطاء,كانت كوات جعلتنا نفكر ونبحث,لأنها فتحت لنا آفاقا جديدة,انتقلنا بها من الميدان البيولوجي,إلى ميادين الاجتماع,والدين,والاقتصاد,والفكر الحر, بعيدا عن هالة القداسة,التي أحاطت بالكثيرين على مر العصور.
ولا يمكن لأحد أن يصف نفسه بأنه مثقف,إذا كان يجهل داروين,ولو كان يكرهه,لأن التطور الذي بلغه العالم,كان بفضل منهج داروين العلمي.ولقد صرح أحد المفكرين,بأن من لم يقرأ أصل الأنواع,فلا أصل له !!
فقيمة داروين في فهم الحياة,والتطورات الاجتماعية,والأخلاقية,كبيرة جدا, ولكن له قيمة أخرى في تطور العلم,إذ جعل الناس ينظرون إلى الدنيا,وإلى الأحياء,في استعراض علمي,وتحليل منطقي,يقوم على العقل.
وليس في شك,في أن داروين غير الكثيرين من العلماء والمفكرين,فلم يعد هناك من يهتم من العلماء,بالزخارف,والتزاويق المألوفة,عند الكتاب, بل صاروا أنفر منها, ويؤثرون عليها,أسلوب المنطق الصارم,والحذر,والاعتدال,الذي أراده داروين وقصد إليه .وهذا برأيي,هو أسلوب التعقل,وهو ما يفيدنا في عصر,تعقدت الحياة فيه, وتعقد العلم, حتى أصبحنا لا نستطيع أن نسلك طريقنا إلى الحقيقة,بسبب ما يحيط بنا من أغلاط,وأوهام,وأساطير,وغيبيات.
وإنه لفرق جد عظيم,بين من قرأ داروين,وبين آخر يجهله.فالذي قرأ داروين, يجد في الحياة,والفكر الحر,من المعنى والمغزى,ما لا يجده الثاني,الذي يحسب الحوادث التافهة,والخطيرة,وظروف التطور العلمي,كلها أشياء تجري جزافا,فيسقط من حيث لا يدري,في وحل الأوهام,والآراء التقليدية الساذجة,ويظن أنه يحسن صنعا.
فما من أحد يستطيع أن ينكر داروين.فقبل نشر أصل الأنواع,كانت أوروبا نفسها,تعيش حالة من الانفصام العجيب,بين العلم من جهة,ومنهجه من جهة أخرى.فكان من الجائز,أن نرى الرجل الواحد,نابغا في العلم,أو في الأدب والفن,ثم تراه في الوقت نفسه,مؤمنا بالخرافة,كأي إنسان آخر غير متعلم.
لقد حدث في انجلترا,أبان القرن السابع عشر,أن تفشى الطاغون, وأكلت النار في الحريق الكبير,شطرا واسعا في مدينة لندن,فاجتمع مجلس النواب,لينظر في سر هذا الغضب,الذي أنزله الله تعالى بهم ؟! ثم لم يطل بهم البحث,حتى وقفوا على ما ظنوه,علة الغضب الإلهي, ألا وهي - فيما توهموا – مؤلفات فيلسوفهم آنذاك,"تومس هوبز" فقضوا بجرمها علنا,ولما لم يحدث بعد ذلك طاعون,ولا شبت حرائق,أيقنوا بأن زوال العلة,قد أعقبه زوال المعلول!!
فانظر إلى هذا التخريف,يصدر من صفوة ممتازة في شعبها,ومتى كان ذلك ؟كان في عصر لم يكن بعيدا,عن عصر نيوتن العظيم.
وهكذا,كان العلم من ناحية,ومنهج العلم,في ناحية أخرى,حتى جاء داروين, وأعلن ولادة نظرية التطور,فمسح كل ما علق بأذهان الناس,من أوهام الأساطير, والخرافات, وأدخل الجانب العلمي,في تربية النشئ,فتغير وجه أوروبا .