كلمة حق في الحداثة الغربية
د. جيلالي بوبكر
الحداثة توجّه في الحياة ونمط عيش وأسلوب طبع الممارسة الفكرية والفعل التطبيقي المادي في كل القطاعات التي ترتبط بالإنسان الفرد والمجتمع، هذا الأسلوب بدأ في التشكّل في الغرب الأوربي فلسفة ووعيا وممارسة منذ راح الإنسان يستهدف تغيير وضعه الفكري والثقافي والاجتماعي، والانتقال به مما هو ظلامي استبدادي فقير ثقافيا وسياسيا واقتصاديا بفعل سلطان السماء على الأرض بيد الكنيسة وتمسكها بمقاليد الحكم وزمام أمور الناس جميعا، الأمر الذي دفع كل صاحب فكر واع وحر صوب التمرد، فتعددت دعوات الإصلاح والتغيير وعظمت مع اشتداد الصراع بين قوى القديم المظلم وقوى الحديث المشرق، الحديث المشرق الذي حمل معه بشائر قوّته وتفوقه وتألقه في مجموع القيّم والمبادئ التي تأسس عليها أسلوب الحداثة كنمط جديد في الحياة والعيش، القيّم والمبادئ التي بان تفوقها في ثمارها وكشفت بجلاء عورات القديم الفكري والديني والسياسي والاجتماعي عامة.
انبثقت قيّم ومبادئ الحداثة من المعارك التي حمي وطيسها وطال عمرها قرونا من الزمن بين سلطة اللاهوت الكنسي المسيحي وسلطة العقل الواعي الحر، وانتهت أخيرا بانتصار العقل والحرية على سلطة الهوى باسم الدين، فلمعت وشعّت في سماء الغرب الأوربي قيّم قلبت أوضاعه بصفة جذرية ثم تألقت في سماء الدنيا برمتها، فانطلقت حياة إنسانية جديدة لا تؤمن إلاّ بقيمة الإنسان وبمصالحه وبمتطلباته الدنيوية لا غير، وبدور العقل والمنطق كحكم وحيد على الفكر والسلوك، وبضرورة الحرية والديمقراطية في الفكر والسلوك وفي الإبداع والإنتاج، وبواجب إبعاد الديني والأخلاقي عن تدبير شؤون الحياة خاصة أمور الحكم والسياسة، وبسلطان العلم والتكنولوجيا باعتبارهما منهج التحديث وطريق التقدم والازدهار، هذه القيّم هي التي أسست للحداثة والتحديث ومازالت تطبع حياتنا المعاصرة بطابعها.
لكن النظر إلى مفهوم الحداثة الغربية وقيّمها سلبا في كلّها أمر فيه مبالغة ومجانبة للحقيقة، فالحداثة الغربية بقيّمها ودلالاتها ليست بنت عصرنا، فهي بدأت في التشكّل منذ القرن الثاني عشر ميلادي بفعل جهود العلماء والفلاسفة والمفكرين، وجاءت الحداثة كرد فعل لأوضاع مزرية تراكمت واشتدّت فكريا ودينيا وسياسيا وأخلاقيا واجتماعيا واقتصاديا.
الحداثة قلبت هذه الأوضاع رأسا على عقب، فبدل استبداد وطغيان الكنيسة جاء طلب الحرية الفردية والاجتماعية تعبيرا وممارسة، وبدل الله وابن الله وظل الله وممثل الله في الأرض من منظور الكنيسة وفي المعتقدات المسيحية عامة وما تتميز به من تقديس جاء طلب فصل الدين عن نظام الحكم وإبعاد الأخلاق عن السياسة، وبدل الاعتبار اللاهوتي الكنيسي المسيحي الراسخ جاء طلب رد الاعتبار لمصالح الإنسان وحاجاته الدنيوية على الأرض، وتحرير عقله وإطلاق مواهبه وإبداعاته.
وصاحبت التوجه الحداثي في الفكر الديني مجموعة من القيّم الخلقية السمحة، مثل احترام الإنسان للإنسان كإنسان وحفظ مصالحه الدنيوية، وتمجيد العقل والحرية والديمقراطية، وكف تدخل الكنيسة وهواها في الشأن العام السياسي وغيره، وتدعيم الروح العلمي والنقدي، وتشجيع الإبداع والتجديد في مختلف ميادين بحث النظرية والتطبيقية، واحترام العمل وتقديسه، واحترام الوقت وتثمينه واستثماره، واحترام العلم والمال وطلبهما، قيّم ومبادئ أسست لنهضة ولثورة ولحضارة، انحرف بها أصحابها فيما بعد لتتجه صوب الاهتمام بالمادة ومطالب البدن والحياة اليومية على حساب مطالب الإنسان الروحية والأخلاقية والدينية وما بعد الموت.
لو أسس الغرب انطلاقه وبنا انتقاله على عدم التجانس الفكري والديني والاجتماعي وركز على ما هو مادي ما بلغ ما بلغه من تطور وازدهار في جميع مناحي الحياة، ولازال الغرب حتى الآن يحافظ على قيّم الحداثة وأخلاقها، مثل تقدير العمل والإنتاج واحترام الوقت والقانون وتقديس العلم وغيره، ووجود جهات في الغرب ذات توجه عدائي للعرب وللمسلمين تنكر على الغير الحداثة والتحديث تمارس احتكار الحداثة والتحديث، ولا تميز بين الأديان، وتنعت الإسلام بالإرهاب وأصحابه بالتخلف، لا يعني أبدا أن الحداثة في كلها جائرة سوداء ينبغي التصدي لها ومحاربتها، ما أحوجنا إلى مناهج ورؤى ثاقبة بعيدة عن التزمت، لا تقول "لا" بل تطرح المشكلات وتتناولها بجدّ واجتهاد ومثابرة وبموضوعية وبعلمية وبنقد بناء وتصدر أحكاما نسبية لها وعليها.