قوة الإرادة وإخلاص النوايا
جمعة أمين عبد العزيز
نائب المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين
ما أحوجنا في هذه الأيام إلى تكاتف وتوحيد جهود كل القوى الوطنية من أحزاب وجماعات وتنظيمات متعددة.
وإن قضيتنا الآن هي العمل الجاد لتحقيق وحدة القوى الوطنية فلتفتح الأبواب على مصراعيها لينضم كل مخلص لتقوى هذه الرابطة التي تعمل على المحافظة على هويتنا وديننا، فلنجتمع على كلمة سواء ونترك الخلافات التي يعمق فيها ويبرز فيها أعداء الدولة المدنية، فلتتصافح الأيادي ولتلتصق الأكتاف ونجتمع فيما اتفقنا جميعا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه، علما بأن المتفق عليه عظيم وكثير وكبير والمختلف فيه يمكن الاجتهاد فيه للوصول إلى توافق وتقارب.
وأما الأمر المهم بعد ذلك هو قوة الإرادة وإخلاص النوايا، ويعلم الله أني رأيت بعيني هذه الإرادة القوية في النساء قبل الرجال، صحيح ما أحوجنا في هذه الأيام إلى جيل نرى ملامحه واضحة في هذه الأيام أنه جيل يرسخ الإيمان في قلبه رسوخ الجبال الراسيات، كما رسخ في قلوب رجال الجيل الأول، صفوة هذه الأمة وخيارها، وخير قرونها بل هم خير رجال البشرية خلا الأنبياء المرسلين.
إننا في حاجة إلى تغيير حالنا كما حالهم، حين طووا صحائف ماضيهم وأصبحوا وكأنما خلقوا من جديد وصاروا ولا همّ لهم إلى مرضاة الله ورسوله، وإلى التطلع إلى لقاء الله في الدار الآخرة، والفوز بجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين العاملين.
نحن في حاجة إلى إيمان عميق وهمة عالية، نبذل في سبيل هذا الإيمان المُهَجَ والأموال كما بذلوا، ونتحمل الشدائد والمحن وننتصر لله ولرسوله ولنكون أوفياء للإسلام، وحملة رايته وحماته نبلغ تعاليمه، ونرغب فيه، ونخالط الناس ونصبر على أذاهم، حتى نقترب من هذا الجيل ونتأسى به، كما قال بن مسعود رضوان الله عليه: (من كان منكم متأسيا فليتأسى بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فإنهم كانوا أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما وأقلها تكلفا، وأقومها هديا، وأحسنها حالا قوما اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم) ... وعنه أيضا رضي الله عنه قال: (أنتم أكثر صياما، وأكثر صلاة، وأكثر اجتهادا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وهم كانوا خير منكم!! قالوا: لِمَ يا أبا عبد الرحمن؟ قال: هم كانوا أزهد في الدنيا وأرغب في الآخرة).
جيل تحّمل في سبيل هذه الدعوة الشدائد، وتحلى بالإصرار عليها، فهذا أبو بكر الصديق - كما تروي عائشة - رضي الله عنها تقول: لما اجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - وكانوا ثمانية وثلاثين رجلا - ألحّ أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهور، فقال: (يا أبا بكر إنه قليل) فلم يزل أبو بكر يلح حتى ظهر صلى الله عليه وسلم، وتفرق المسلمون في نواحي المسجد كل رجل في عشيرته، وقام أبو بكر في الناس خطيبا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فكان أول خطيب دعا إلى الله وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وثار المشركون على أبي بكر وضرب ضربا شديدا، ودنا منه الفاسق عقبة بن ربيعة، فجعل يضربه بنعلين مخصوفين ويحرِّفهما لوجهه، ونزا على بطن أبي بكر حتى ما يعرف وجهه من أنفه.
وجاء بنو تميم يتعادون فأجلت المشركين عن أبي بكر وحملت بنو تميم أبا بكر في ثوب حتى أدخلوه منزله ولا يشكون في موته، ثم رجعت بنو تميم فدخلوا المسجد وقالوا: والله لئن مات أبو بكر لنقتلن عتبة بن ربيعة، فرجعوا إلى أبي بكر فجعل أبو قحافة وبنو تميم يكلمون أبا بكر حتى أجاب، فتكلم آخر النهار فقال: ما فعل رسول الله؟ فمسو منه بألسنتهم وعذلوه، ثم قاموا وقالوا لأمه أم الخير: انظري أن تطعميه شيئا أو تسقيه إياه، فلما خلت به ألحت عليه، وجعل يقول: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: والله ما لي علم بصاحبك. فقال اذهبي إلى أم جميل بن الخطاب فاسأليها عنه، فخرجت حتى جاءت أم جميل فقالت: إن أبا بكر يسألك عن محمد بن عبد الله، فقالت: ما أعرف أبا بكر ولا محمد بن عبد الله، وإن كنت تريدين أن أذهب معك إلى ابنك؟ قالت: نعم، فمضت معها حتى وجدت أبا بكر صريعا دنفا، فدنت أم جميل وأعلنت بالصياح وقالت: والله إن قوما نالوا هذا منك لأهل فسق وكفر، وإني لأرجو أن ينتقم الله منهم، قال: فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت هذه أمك تسمع. قال: فلا شيء عليك منها. قالت: سالم صالح. قال: أين هو؟ قالت في دار الأرقم. قال: فإن لله علي ألا أذوق طعاما ولا أشرب شرابا إلا آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمهلتاه حتى إذا هدأت الرجل، وسكن الناس، خرجنا به يتكئ علينا حتى أدخلناه على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قالك فأكب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبله، وأكب عليه المسلمون، ورق له رسول الله صلى الله عليه وسلم رقة شديدة، فقال أبو بكر: بأبي أنت وأمي يا رسول الله، ليس بي بأس إلا ما نال الفاسق من وجهي، وهذه أمي برّة بولدها، وأنت مبارك فادعها إلى الله فأسلمت، وأقاموا مع الرسول صلى الله عليه وسلم في الدار شهرا، وهم تسعة وثلاثون رجلا، وقد كان حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه أسلم يوم ضرب أبو بكر رضي الله عنه.
وقد تحمل عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وبلال وعبيدة وطلحة بن عبيد الله، وعمار وياسر وسمية وجميع الصحابة من الشدة ما تحمله أبو بكر الصديق - رضي الله عنهم أجمعين - فما استكانوا، وصبروا وصابروا حتى حقق الله على أيدي الجميع نصر هذا الدين.
إنه جيل فذ عملاق، فذ في صفاته وسماته، وعملاق في جهاده وإنجازاته، فذ في إيجابيته وهمته، أدوا الأمانة، وبلغوا الرسالة ومضوا إلى ربهم خالصين من هذا الالتزام الثقيل، وهم لم يبلغوها باللسان فحسب، بل بلغوها قدوة متمثلة في العمل، وجهادا مضنيا بالليل والنهار لإزالة العقبات والعوائق. سواء كانت هذه العقبات شبهات تحاك أو ضلالات تزين، أو كانت قوى طاغية تصد الناس عن الدعوة، وتفتنهم في الدين.
والرسالة هي الرسالة والناس هم الناس، وهناك ضلالات وأهواء وشبهات وشهوات، وهناك قوى طاعنة تقوم دون الناس ودون الدعوة، وتفتنهم كذلك عن دينهم بالتضليل وبالقوة، ولابد من بلاغ بالبيان وبالعمل يحتاج إلى همة رجال يقولون: انتهى عهد الراحة، فيبذلون الجهد والعمل المتواصل لتبليغ هذه الدعوة وتوضيحها بإقناع وبيان ثم يواصلون الطريق تربية وتكوينا وتنفيذا، وهذه تبعة تقصم الظهر، وترعد الفرائص، وتهز المفاصل.