رسالة المسلم في حياته
جمعة أمين عبد العزيز
نائب المرشد العام للإخوان المسلمين
من الأمور المسلّم بها أنه لا بد للمسلم من باعث قوي، ألا وهو الاعتقاد الجازم بأن رضا الله سبحانه وتعالى وبراءتنا أمامه يوم العرض عليه يوجبان على كل مسلم العمل المتكاتف الموحد لأداء التكاليف الشرعية عامة، ولإعلاء كلمة الله تبارك وتعالى خاصة، وفق الفهم السليم والصحيح للإسلام، ونه ينبني على هذا الباعث أن تكون كافة الممارسات نابعة من المنطلق التعبدي لله رب العالمين.
وبهذا الفهم فإنه يصبح لنا في هذا الوجود رسالة نسعى جميعًا إلى تحقيقها، وذلك بالعمل على أن تكون كلمة الله هي العليا، وذلك بأن تسود قيم وأحكام الإسلام وشرائعه في ربوع العالم، بدعوة أساسها الحكمة والوعظة الحسنة، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، وذلك بالنهوض بالأمة الإسلامية لتتبوأ مكانتها التي خلقنا من أجلها التي عبّر عنها ربعي بن عامر، حين قال: (إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن جور الحكّام إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة). وبذلك نقوم بواجب الشهادة على العالمين (لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) (البقرة: 143)، ولا يتحقق ذلك إلا بالتعاون والوحدة بين الشعوب المسلمة للقيام بالتكاليف والواجبات الشرعية.
ومن أهم النجاحات: معرفة طبيعة المرحلة، وطبيعة المعركة، والنظر في الإمكانات المتاحة، والاستفادة منها، وترتيب أولوياتها، فضلًا عن معرفة الفرص المتاحة التي يجب الاستفادة منها لإزالة المعوقات التي تصد عن وضع مشروع إسلامي حضاري إستراتيجي شامل لكل متطلبات الأمة ورؤية كاملة لهمومها ومشاكلها وأسس تقدمها وقوتها، وليكون الإسلام مشروعًا قوميًّا للأمة لا مشروع جماعة فحسب، وطرحه على الأمة كحل أصيل وبديل ومتميز عن المشروعات الأخرى التي أثبتت فشلها.
ويضبط سيرنا لذلك أولويات من أهمها:
1) وضوح الرؤية وضوحًا لا لبس فيه ولا غموض.
2) تفهم الأفراد والقيادات بمستوياتها المختلفة الأهداف الكبيرة التي نسعى إلى تحقيقها.
3) الارتقاء والاهتمام بالعمل المؤسسي، وغير ذلك من الأمور الهامة.
إن أمتنا الإسلامية التي تدين بالإسلام عقيدة وشريعة، وتسعى جاهدة نحو التطبيق الكامل له شعيرة وشريعة كمنهاج حياة، وتمثل الدولة النموذج للفكر الإسلامي الصحيح حسب ما نعتقده ونؤمن به ونسعى إلى تحقيقه تدرجا دون إكراه أو عنف، عاملين بإخلاص إلى تلافي الصعاب والحرب التييشنها أعداء المشروع الإسلامي لإفشاله أو تعويقه وتشويهه وما هم ببالغيه بإذن الله.
لقد أقيمت الدولة في الإسلام بجهد بشري عبر عملية طويلة متدرجة تم خلالها صياغة مجتمع متكامل -كيان أمة - انطلاقًا من عقيدة التوحيد، فالأمة الإسلامية هي جموع الشعوب الإسلامية التي تدين بالإسلام، ولما كان جوهر وظائف الدولة الإسلامية هو رعاية القيم الأساسية الإسلامية، ويعتبر تحقيق وممارسة تلك الوظائف بمثابة إنجاز، وفي الوقت نفسه تحقيق للمقاصد الشرعية، وبديهي أن المقاصد الشرعية مشتقة من القيم الأساسية، وهي: حفظ الدين في المقام الأول، ولذلك كان بداية العمل يبدأ مع النفس والقلب ليستوي نظامه ويقوم على عقد الإيمان وعقد الأخوة.
إنّ النفس الإنسانية، كما تحمل نوازع الخير، فإنها تحمل نوازع الشر، فالصراع يبدأ من داخل النفس، فإذا حُسم هذا الصراع لصالح الحق والخير والعدل تحقق الأمن والأمان على الأرض (الَّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يَلْبِسُوا إيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وهُم مُّهْتَدُونَ) (الأنعام)، وإلا تحقق الخسران الذي يبدأ بخسارة النفس (قُلْ إنَّ الخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ) (الزمر).
من أجل ذلك كانت رسالة الرسل والأنبياء من قبل مخاطبة الفطرة السليمة، والعقول الرشيدة، بالحجة والبرهان، مخاطبة هادئة حتى يعرفوا ربهم ويثوبوا إلى رشدهم ليعودوا إلى دار السلام، ولا يتحقق ذلك إلا بالإقناع والعلم والنظر والتأمل، والتفكير والتدبر، لأنه لا توجد سلطة تجبر الناس على الإيمان(أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (يونس).
وإنما هو سلطان العقل، وقوة الحجة والبرهان، خاصة وهي دعوة تأمر بالخير وتنهى عن الشر، وتحل الطيبات وتحرم الخبائث، وتضع عن الناس إصرهم والأغلال التي كانت عليهم، جاء بكل ذلك داعٍ يدعو إلى الله، هو رسولنا صلى الله عليه وسلم الحريص على الناس كافة (يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ ويَنْهَاهُمْ عَنِ المُنكَرِ ويُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ ويُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ ويَضَعُ عَنْهُمْ إصْرَهُمْ والأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وعَزَّرُوهُ ونَصَرُوهُ واتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ) (الأعراف).
ونهج الدعوة إلى الحق بالحكمة والموعظة الحسنة دون إكراه أو إلزام، ليس نهج رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم فحسب، بل هو نهج إخوة له من قبل سبقوه وواصل هو المسير على الدرب نفسه حتى أتم الله به النعمة، وأسس النظام على التقوى (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ ورِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ) (التوبة).
ففي خطاب نوح عليه السلام إلى قومه (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ) (هود)، وفي خطاب إبراهيم عليه السلام لأبيه (يَا أَبَتِ إنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ العِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا) (مريم)، وفي خطاب يوسف (يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الوَاحِدُ القَهَّارُ) (يوسف).
ورسولنا صلى الله عليه وسلم في هذا النهج ليس بِدعًا من الرسل – كما ذكرنا -، فلقد أدبه ربه فأحسن تأديبه، فحين أمره ربه بالبلاغ والإنذار لم يتركه يختار أسلوب الدعوة في التبليغ والنذارة وهو صلى الله عليه وسلم من هو صاحب الخلق العظيم والسلوك الحميد، والعقل الراجح، والحكمة البالغة، ومع كمال الصفات الإنسانية فيه، تجد المولى يحدد له منهج الدعوة، بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، ليكون منهاجًا ربانيًّا ما كان للدعاة الخيرة فيه، والالتزام به واجب شرعي تعبدي، من خالفه حاد عن الصواب وخالف نهج المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وهذا المنهج في الدعوة إلى الله، خطواته مرسومة، وقواعده محددة، وأصوله معلومة، من طبقه بفقه وبصيرة فتح الله له القلوب الغلف والأعين العمي، والآذان الصم، فتهفو نفسه المدعوة لهذا الخير، فيحبب الله له الإيمان ويزينه في قلبه، ويكرّه إليه الكفر والفسوق والعصيان، ويجعله من الراشدين، فضلًا من الله ونعمة.
كل ذلك بالحجة، والكلمة المؤثرة، حيث يقول للمخالفين: (تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وبَيْنَكُمْ) (آل عمران: 64)، وللمجادلين: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ) (الأنبياء: 24)، وللمعاندين: (وَإنَّا أَوْ إيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) (سبأ)، فهو ليس في حاجة إلى السنان، بل هو في حاجة إلى البيان بكلمات هيقذائف الحق أشد من السيف، تسقط حجج المكذبين، وتنتصر على أسلحة الجاحدين، وتدحض شبهات المفترين: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإذَا هُوَ زَاهِقٌ) (الأنبياء: 18).
ذلك لأنه لا يمكن أن يقوم هذا الدين بمشروعه الإسلامي على إكراه الناس على عبادة الله، فالداعي إلى الله يوضح الطريق ويترك للناس أن تختار (فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن ومَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) (الكهف: 29).
وهذه هي إرادة الله في خلقه (ولَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (يونس: 99). (ولَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهُدَى) (الأنعام: 35). (قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) (الأنعام).
إنّ الإسلام لم يستخدم الإجبار على الدخول فيه بالسيف فحسب – كما يدّعون ويفترون -، بل إنه لم يستخدم القهر العقلي حتى يؤمن الناس به، فلم يأت رسولنا صلى الله عليه وسلم بخوارق العادات كإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى، أو أنه يضرب بعصاه حجرًا فتنفجر منه المياه، وإن كانت رسالته صلى الله عليه وسلم لم تخل من المعجزات.
لكنّ معجزته الكبرى الخالدة التي جاء بها، هي القرآن، وهو البرهان الدائم، سواء في وجود رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه أم بعد موته صلى الله عليه وسلم (وقَالُوا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللَّهِ وإنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ أَوَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (العنكبوت).
بل إنّ الشريعة الإسلامية تقرر عدم الاعتداد بالإيمان الناشئ عن إكراه (فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا) (غافر: 85).
ولقد نزلت الآيات وظهرت الدعوة الإسلامية بوضوح، تبين الحق من الباطل، وتقرر أن لكل إنسان حرية الاختيار، وأنه محاسب على اختياره (لا إكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ) (البقرة: 256)، ومهمة الرسول صلى الله عليه وسلم هي البلاغ (إنْ عَلَيْكَ إلا البَلاغُ) (الشورى: 48)، فليس له أن يجبر الناس على شيء (لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ) (الغاشية)، (ومَا أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ) (ق: 45)، إنها الدعوة ابتداءً، والتبيان والحجة انتهاءً طالما لا يعتدى عليها ويترك للداعي الحرية في ذلك.
إنّ المسلم في عهد رسول الله صلى الله عليه كان القرآن هو النبع الصافي الذي يستقي منه، على الرغم من وجود حضارة الرومان واليونان والفرس والهند والصين، وكانوا يقرءون القرآن لا بقصد المتعة والثقافة، ولكن ليوضع موضع التنفيذ، حتى أن المسلم حين يدخل الإسلام كان يخلع على عتبته كل ماضيه في الجاهلية، ويقف أمام الإسلام عاريًا كيوم ولدته أمه ليكتسي بكسائه (ولِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ) (الأعراف: 26)، كل ذلك في مراحل متدرجة حتى لا يفرض على الناس هذا المشروع، بل هم الذين يطالبون به، ويدافعون عنه، ويحمونه ويفتدونه بأرواحهم.