خطاب السيسي
ومحاولة قنص الكلمات الطائرة
وجلب المحشور في الأمعاء الغليظة
سليم عزوز
لما استمعت إليه خطيباً، تذكرت فكرتي التي تدور حول حلقة تلفزيونية، يكون ضيوفها من مترجمي الإشارة بدلاً من العمل الروتيني، الذي يحدث في بعض القنوات، من استدعاء محللين سياسيين، وتحميلهم من أمرهم رهقاً، بتحليل مضمون لخطاب مفكك، وغير مترابط، ويحتوي على عبارات غير مكتملة النمو، وكلمات طائرة في الهواء، ليكون دور المحلل أن يستعين بطائرة بدون طيار لالتقاطها من الجو، لمحاولة فهم ما يقوله عبد الفتاح السيسي قبل تحليله.
دور المحلل التلفزيوني، مع الخطابات هو تحليل ما ورد فيها، وقراءة ما بين السطور، لكنه في حالة السيسي يكون بتكوين النص ابتداء وفهم العبارات المرتبكة فيه، واستكمال الكلمات المتقاطعة، وعندما يأتي وقت التحليل قد يقول له المذيع: الوقت يداهمنا يا زلمة، نلقاك في خطاب آخر إن بقيت على قيد الحياة.
فلدى البعض قناعة، بأن الاستماع لخطاب واحد لعبد الفتاح السيسي كفيل بجلب كل أمراض العصر؛ ومن ارتفاع الضغط إلى الإسقربوط. وقد ينتج عنه موت المستمع بالسكتة الدماغية. لكني اختلف مع هؤلاء، فخطاب السيسي مبهج وهو عندي أفضل من البرنامج الإذاعي القديم «ساعة لقلبك»، يكفي أن تستمع له، لكي تشعر بالراحة الأبدية، وكأنك قطعت تذكرة سفر إلى اسطنبول وقضيت يوماً في «البسفور» بالقرب من فيلا خالد الذكر مهند!
لا أعرف من هذا الذي اقنع السيسي بأنه خطيب ومفوه، حتى يقدم على الخطب الارتجالية، فيرهق المحللين وهم يحللون خطاباً نصفه في بطن الخطيب وفي أمعائه الغليظة بالتحديد، يكاد يحدث له تلبكاً معوياً، والربع في فمه محشوراً، بينما الذي خرج هو «الربع الخالي»، فطار منه ما طار في الهواء وبقي منه ما بقي في الأرض!
وفي كل مرة أقول أتوني بنص مكتمل، أفادكم الله، فأكون كمن «ينده ويرد الصدى.. مين حبيبي أنا..»، أو كمن يطلب لبن العصفور!
هيكل الذي كتب خطاب الانقلاب الذي ألقاه السيسي في 3 يوليو/تموز، مريض، وواضح أنه قبل مرضه كان يشعر بأن دوره انتهى، فالسيسي لا يمكنه وقد صار رئيساً أن يقرب هيكل له، وهو الحريص على أن يتفلسف فيشعر من يستمع له بالفارق في المستوى الثقافي، وقد مارس هذا الدور مع المخلوع مبارك في بداية عهده، وطلب منه مبارك أن يوفر نصائحه لنفسه، إذ ظن مبارك لجهله أن «الأستاذ» ينصحه ولم يعلم أنه يستعرض عليه علمه اللدوني. ومشكلة هيكل أنه لا يريد أن يقوم بدور المستشار للرؤساء، فهو يستهدف أن يقوم بدور الوصي على العروش، فنفر منه مبارك كما نفر منه السيسي. وكيف يستمر معه الأخير ومن حوله ينفخون فيه حتى ظن انه نبي مرسل، وربما أعلى من ذلك درجة، فيعامل الله كما لو كان قائده العسكري فيخاطبه بـ «حضرتك». تعالى الله عما يصفون علواً كبيراً.
الخطب غير المكتوبة
لأنه من الواضح أن الذين من حول السيسي «يسبحون بحمده»، جعلوه يصدق أنه بخطبه غير المكتوبة يكون أقرب للناس، فقد أسرف فيها، وقد يكون هذا جائزاً عندما تكون الخطبة مجرد «تأدية واجب»، لكن الأمر يختلف عندما يكون مقدماً على مشروع بحجم تنمية قناة السويس.
لم ينجح عبد الفتاح السيسي في مهمة إفهامنا لما ينتوي فعله، حتى بعد أن اشتغلت قناصاً وصوبت سهامي على الطائر من كلامه، والمحلق في الجو، فقد سقط ميتاً، وتظل القيمة لما هو في بطنه، أو محشوراً في فمه من الكلمات!
هل المقصود هو المشروع العملاق الخاص بتنمية محور قناة السويس؟! والذي كان كفيلاً بأن يكون حجماً وقيمة «مشروعاً قومياً»، لا يقل في القيمة عن بناء السد العالي بل وحفر قناة السويس نفسها، لأنه كان سيجلب للدولة المصرية 200 مليار جنيه سنوياً، وسيوفر فرصة عمل للمتعطلين؟!
أم تراه يقصد مشروعاً ثانياً هو ما تحدث فيه عن حفر قناة جديدة موازية لقناة السويس، وهو ما فهمناه من خطابه؟! أم تراه يقصد المشروعين معاً؟!
كان مرسي في مشروعه أكثر وضوحاً، لا سيما وأن تنمية محور قناة السويس كان مطلباً ورد في أكثر من برنامج انتخابي للمرشحين الرئاسيين، فلم تجد الثورة المضادة ما تعرقله به وتمنع البدء فيه سوى بالدعاية الكاذبة!
كانت الدعاية السوداء للثورة المضادة تستهدف إفشال المشروع، ضمن سياق عام يعمل على إفشال الرئيس مرسي وتقديمه للرأي العام فاشلاً ومهاناً!
الإعلام المنحط عاد وزاد، ولت وفت، في أن مرسي منح المشروع لدولة قطر مما يمثل خطراً على «الأمن القومي المصري».. ولدينا اسطوانة مشروخة اسمها «الأمن القومي المصري»، تطلق فتمثل عملاً هلامياً مانعاً لتحقيق أي قيمة.. والآن يجري الحديث عن أن فتح معبر رفح يهدد الأمن القومي المصري، وقلت على قناة «الحوار» إن إغلاقه هو ما يهدد الأمن القومي المصري، الذي ننتصر له بالانتصار لإخواننا في غزة، وليس بحصارهم وتجويعهم تنفيذاً للتعليمات الإسرائيلية.
في عهد محمد مرسي، كانت قطر هي الحاضرة عندما يتم الحديث عن المخاطر التي تتهدد الأمن القومي المصري، فمشروع التنمية هذا، سيتم منحه لقطر، واحدى الصحف نشرت أن نائب المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين خيرت الشاطر وقع مع القطريين بيع منطقة مثلث «ماسبيرو» على أن يقوموا باستلامه في سنة 2016. وها هو مرسي يتم اختطافه، ويتبين أن حملة الإبادة الإعلامية كانت تقوم على الأكاذيب والفبركة.
مرسي قال إن هذا المشروع وطني، وسيقوم عليه المصريون، فكان «مانشيت الصحف» في اليوم التالي أن الجيش يعترض على المشروع لمخاطره على الأمن القومي المصري.
في تقرير لـ»الجزيرة مباشر مصر»، شاهدنا السيسي في فيديو قديم يصرح بأن الجيش لم يعترض على المشروع. واللافت أن هذه التصريحات لم يتم بثها على نطاق واسع رداً على الأكاذيب التي كان من الواضح أن جهة ما تقف وراءها في إطار حملة الثورة المضادة، لأن أكثر من صحيفة نشرت تحذيرات الجيش. ويبدو أن هذه التصريحات الخاصة بوزير الدفاع كان المستهدف بها أن تصل لمؤسسة الرئاسة فيطمئن فؤاد الرئيس مرسي على إخلاص وزير دفاعه.
ولا أخفي أنني بحكم عملي كنت مهتماً بالتفاصيل في هذه المرحلة، إلا أنني لم أطالع هذه التصريحات إلا عبر «الجزيرة مباشر مصر» مؤخراً. ويبدو أن «مانشيتات الصحف» عن مخاطر مشروع تنمية محور قناة السويس، واعتراض الجيش بدواعي مخاطره على الأمن القومي، لم يكن فقط في إطار حملة «الأذرع الإعلامية للثورة المضادة» لتشويه الرئيس ومنعه من النجاح، ولكنها جاءت أيضاً في سياق الترويج لأن المؤسسة العسكرية هي حامية الحمى، والمدافعة وحدها عن الأمن القومي المصري، للتمهيد لما هو آت.
اللص والمشروع
ما علينا، فالذين فهموا من حديث عبد الفتاح السيسي أن المشروع الذي يتحدث عنه هو ذاته مشروع مرسي القديم، اكتفوا باتهامه باللصوصية. وهو اتهام لا يمثل قيمة، بالنسبة لمن قام بالسطو المسلح على حكم كامل، وقام بانقلاب ليكون رئيساً، فهو مثله مثل من يحملون إثم قتل الحسين الذين جاءوا ليسألون الحسن البصري عن حكم قتل الذبابة في الحرم. فالاتهام هنا بسيط ويدخل في باب اللمم وهو مجرد سرقة مشروع. والسيسي لم يجتنب كبائر الإثم من قبل بسرقته لحكم البلاد والسطو عليه تحت تهديد السلاح.
بيد أن اللافت أيضاً هو ما فهمته، بحسب فهمي للغة الطير، أن مشروع السيسي الأصلي هو حفر قناة موازية لقناة السويس، والمعنى أننا أمام مشروع جديد لم يجر عرضه على المتخصصين قبل أن يتبناه هو، ولدينا عقدة من مشروع «توشكى»، الذي تبناه مبارك، فلم يكن بمقدور المتخصصين إلا الحديث عنه في إطار أنه مشروع عملاق، وكمال الجنزوري الذي يستدعيه السيسي في كل احتفالاته كان رئيس الحكومة في عهد مبارك، واعتبر أن «توشكى» هو «عرض الدولة المصرية»، وأن من يكتب عنه سلبياً ينبغي أن يقدم للمحاكمة، وكذلك فعل مع جريدة «الوفد»! الآن وقف الجميع على أن «توشكى» مشروع فاشل، والفارق بينه وبين مشروع السيسي هو أن هناك دراسات وأبحاثا قديمة كانت تتحدث عن مشروع توشكى في حين أن مشروع القناة الموازية، لم يناقش بشكل كاف ولم نسمع أن لجاناً متخصصة شكلت للوقوف على جدواه!
من تجرأ من المتخصصين وتكلم جاء كلامه يفيد أننا في مواجهة كارثة ستلتهم المال المصري بدون ضرورة. فأحد الخبراء الملاحيين قال إن هيئة قناة السويس قامت بعمل العديد من الدراسات وبالاشتراك مع بيوت خبرة عالمية لبحث جدوى عمل قناة موازية فأثبتت أنه «لا جدوى لها، حيث أن الطاقة الاستيعابية للقناة الحالية كافية تماما لحاجة السوق».
التسول للصندوق
بحكم خبرتي المتراكمة في فهم منى الشاذلي، والتقاط المحشور في معدتها من كلمات، واصطياد الطائر منه والسابح فوق الغلاف الجوي، فهمت من كلام السيسي أنه يفتقد للممولين لهذا المشروع، لأجل هذا فقد ركز كل جهده في الدعاية لصندوق «تحيا مصر»، المخصص لجمع التبرعات، وبد واضحاً أن الاتجاه في المرحلة القادمة أن يكون التبرع بالقوة الجبرية. ولا أدري لماذا تذكرت حالة هذا المتسول الذي كان يصعد لحافلتنا من أمام محطة جامعة عين شمس في كل صباح، وهو يطلب «حسنة» بصوت جهير، وفي محطة العباسية التالية، يقف قبل نزوله ليشتمنا شتيمة قاسية، حتى صارت خطة عمله معروفة لنا مسبقاً.
دعك من كل هذا فلدي اقتراح لسهرة تلفزيونية يتمثل في أن يتم أخذ مقاطع عشوائية من كل خطب السيسي الارتجالية وعرضها على عدد من مترجمي الإشارة، فان نجحوا في الترجمة، فسأكون قد خسرت الرهان.. وهو « صباع كفتة» لكل انقلابي!