الدعاة وخطر احتراف السياسة

عبد العزيز كحيل

[email protected]

يعتبر الدعاة الممارسة السياسة عبادةً لله فيحيطونها بالخلق الكريم والأدب الجم وهم ينشدون من ورائها تعبيد الناس لله بواسطة دولة الشرع التي يسعون إلى إقامتها باعتبارها هدفاً مرحليا هاما ووسيلة فعالة في حركية انسجام الفرد والمجتمع مع سنن الله وتعاليم دينه، ولكن لتلك الممارسة إكراهات قلما ينجو منها من يباشرها، ذلك أن العمل الحزبي يأكل الوقت ويأخذ بمجامع النفس ويقسي القلوب في دوامة الخلافات والمنازلات و غالبا ما يذهب برجل السياسة في مزالق الكذب والافتراءات والعجب والنفاق والرياء وغيرها من الأمراض التي يعاني منها محترفو السياسية عند المسلمين وعند غيرهم على السواء، وهذا ما ينبغي أن يحذر الداعية الوقوع فيه ، فهو يدخل المعترك السياسي   _ ونِعم الدخول هذا  _ بنية تنويع طرق الدعوة والحضور في كل مجال يخدمها لكن قد يطول عليه الأمد فيعتريه ما يعتري غيره ممن تستهويهم السياسة فيدمنون عليها وينسلخون شيئا فشيئا من المبادئ والقيم ويخوضون في وحل السياسة المحترفة ولا ينفع الداعية إذا حدث له هذا أن يتذرع بانخراطه في سلك الدعوة والتزامه بأهدافها لأنه حينذاك يكون مزدوج الشخصية ظاهره الإسلام وباطنه حطام الدنيا أي قد يستند إلى الخطاب الديني والمظهر الإسلامي لكن المنصب سيصبح عنده الغايةَ القصوى تهون دونه الدماء والأموال ، وما الإسلام حينئذ سوى غطاء ،كما ينسي في زحمة العراك السياسي آداب الإسلام وضوابطه ويبرر انحرافه بفتاوى ومبررات ذاتية، كيف لا والشيطان في هذه الحال جليسه وأنيسه ومستشاره ، وقد رأت الساحة دعاة ساروا في هذه الطريق فأضاعوا الانضباط بالشرع والتزين بالأخلاق وتساهلوا في أمور تعد من الأصول ولم يعد يربطهم بالإسلام إلا خيط رقيق رغم امتلاء أفواههم به وبشعاراته ورغم ما كانوا عليه من بدايات نابضات.. إنه مهر السياسة، ذلك الفن الجذاب الذي اقترن بالمكر والخداع والحيل وفيه من اللذة والسحر ما يبدل الطباع ويفسد سلوك رواده حتى لو كانوا إسلاميين إذا لم يأخذوا حذرهم ويستعدوا فكريا وروحيا لخوض غماره مستصحبين على الدوام أنواعا من الواقيات والضوابط.

   فما العمل إذاً؟.... قد يتبادر إلى الذهن أن الأولى بالدعاة أن يغادروا ساحة العمل السياسي إيثارا للسلامة واحتياطا لدينهم ، لكن من يقف في وجع الزحف العلماني في هذه الحالة و هو يجلب على بلاد المسلمين بخيله ورجله يمكن للأفكار الوافدة ويسعى إلى صبغ الحياة بالحلول المستوردة المعادية لعقيدتنا وشريعتنا وأخلاقنا   ؟ولا يخفى على البصير أن تعفف الدعاة عن ممارسة النشاط السياسي هو قرة عين أعداء الإسلام ليخلو لهم الجو فيبيضوا ويفرخوا ، فلا بد من التمكين للسياسة الشرعية النظيفة بمراغمة سياسة العلمانيين المتعفنة التي لا تتورع عن أية وسيلة لبلوغ غاياتها ، ولا بد من مواجهتها تفاعلا مع سنة الله الثابتة "كذلك يضرب الله الحق والباطل فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال " – سورة الرعد 17 -  فلا مفر من شغل ميادين  الحياة الاجتماعية المتشعبة كلها وعدم الاكتفاء بالعمل الخيري المحدود والعبادة الفردية (على أهميتهما )كما وقع للصوفية عندما استصعبوا مواجهة الواقع فانزووا عن الناس ورفعوا شعار (( دع الخلق للخالق والملك للمالك)) فتركت سياسة شؤون المسلمين لمن لا دين له ولا خلق فكانت كارثة الانفصام بين القرآن والسلطان ، وهي تجربة مريرة لا يجوز تكرارها.

   إن الداعية الصادق يخوض العمل السياسي المشروع إلى جانب مجالات عمله الدعوي الأخرى لكنه يحرص على جملة من الواجبات تقيه الوقوع في المحذور وتمكنه من الجمع بين الغنم والسلامة، فهو _ مهما طال عمله في السياسة وكثرت التزاماته وعلا كعبه في المسؤولية _ لا ينفصل عن الجماعة الملتزمة بالإسلام أبداً بل يداوم على مصاحبتها واقتسام أشغالها كما يجعل من ثوابته اليومية التي لا تقبل استثناء تلاوة الورد القرآني بالشروط الشرعية والمواظبة على ورد الذكر وقيام الليل بما تيسر إلى جانب أداء الصلوات في وقتها وجماعةً وعدم ترك صيام النافلة ما لم يتعارض مع الواجبات المتعينة، ويحسن به أن يكثر من مطالعة سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام والخلفاء الراشدين وأرباب القلوب والبكاء والعلم والإصلاح والتجديد حتى يتزود من سيرهم بما يعينه على اقتحام عقبة السياسة والاستمرار في طريق الحق والطهر، ويقاس على ما ذكرنا كل ما من شأنه أن يثبته على المبدأ الذي من أجله أصبح رجل سياسة.

هذا صعب لا محالة لكن لا مناص منه لتجنب الوقوع في تطرفين: إما لعن السياسة مطلقا واعتبار الاشتغال بها رجسا من عمل الشيطان ( لمن لم يميز بين السياسة الشرعية وسياسة العلمانيين غير المنضبطة بدين أو خلق )وبالتالي السقوط في حبائل العلمانية ، وإما الغرق في السياسة والانسلاخ من الالتزام بالدين وفي كلا الأمرين تضييع للأمة والفرد، أما إذا أخذ الداعية نفسه بالمجاهدة والمراقبة وكان فارساً بالنهار راهبا بالليل وجمع بين هموم أمته ودينه وبين واجبات نفسه أمام الله فأعطى لكل حقه فإنه يكون قد سلك طريق العظماء واقتحم الباب الضيق الذي يحيل على الفوز إن شاء الله ، فما هو إلا إحداث توازن بين مقتضيات العمل السياسي وضوابط الشرع.. بذلك يجمع الداعية بين الحسنيين ويكون قدوة لمن يتخوفون من إقحام الإسلام في وسخ السياسة والذين يرغبون في خدمة دينهم وأمتهم ويخشون التلوث بلوثة السياسة وفتنتها.

و الله عز وجل خير وكيل للداعية إذا تمسك بأهداب دينه تمسكا مبصراً صادقا و عند ذاك لا يضره أن يقتحم كل الميادين الممكنة ولا خوف عليه من الانتقال من داعية إلى سياسي محترف.