التهافت على الكتابة للأطفال

د. حبيب بولس *

[email protected]

نشهد اليوم حركة مباركة ونشطة محليا في مجال الكتابة للأطفال. ولا يخفى على احد ما لهذا الأدب من مؤثرات جمة في بلورة شخصية الطفل. فكي نخلق جيلا سويا معافى على جميع الأصعدة يجب فعلا أن نهتم به تربية وتثقيفا وتعليما. ومن هنا يكون لهذا الأدب الدور الكبير.

للحقيقة أقول إن المحفزات التي دعت إلى تنشيط هذه الحركة انطلقت من مؤسستين ثقافيتين محليتين: الأولى دائرة الثقافة العربية التي دعا مديرها الأستاذ موفق خوري قبل سنوات ست تقريبا إلى الاهتمام بهذا الجانر أي أدب الأطفال, واضعا أمام كتابنا وكاتباتنا العديد من الإمكانيات لتنفيذ مثل هذا المشروع. والثانية الكلية العربية للتربية في حيفا, التي سعت منذ فترة زمنية وبمبادرة من مديرها الدكتور نجيب نبواني إلى إقامة مركز لأدب الأطفال فيها؟ وفعلا تم الوصول إلى الهدف مؤخرا, إذ قبل حوالي السنة أقيم في هذه الكلية مركز يديره الدكتور نعيم عرايدة. وكان لعرايدة ولطاقم العاملين في المركز الفضل الكبير في تنشيط الحركة الأدبية للأطفال وذلك لوعيهم التام بالنقص الشديد الموجود محليا في هذا الإطار. وحين أقول كان لهم الفضل أعني أنهم ومنذ افتتاح المركز وهم لا يكفون عن إقامة النشاطات المحفزة والفعاليات الدافعة سواء منها التعليمية, الإرشادية أو المعنوية المادية.

ولكن رغم ما ذكرت ورغم أهمية الموضوع, يرتفع سؤال مهم في هذه المرحلة, وهو: هل ما كتب لغاية الآن عندنا من أدب للأطفال وهو لا بأس به عدديا, يرتفع إلى مستوى الكتابة الصحيحة الناضجة, ويستجيب لمتطلبات هذا الجانر المهم؟!

يستمد هذا السؤال شرعيته من أمرين: الأول وجود عدد من الكتب التي صدرت للأطفال حاليا.

بالنسبة للأمر الأول, نحن نجد فعلا اليوم عددا لا بأس به من القصص التي كتبتها أقلام محلية. ونظرة طائرة سريعة إلى معظم ما نشر من هذه القصص تشي بأن معظمها لم يوفّق في الوصول الى المستوى المطلوب. وذلك يعود لجملة من الأسباب, سنأتي عليها لاحقا. صحيح ان هذا الانتاج جاء ليسد فراغا كبيرا, لذلك كتب على عجل, وصحيح ايضا ان بعضه اصاب بعض التوفيق. لكن هناك العديد من الاشياء التي يمكن ان تقال في هذا المجال. اما بالنسبة للامر الثاني فقد بتنا نشهد اليوم تهافتا من قبل الادباء المحليين على الكتابة للاطفال الأمر الذي يجعلنا نتساءل بصوت مرتفع: لماذا وما الدافع؟ وهل كل من يكتب للكبار يستطيع الكتابة للصغار أم أن الأمر يتطلب معرفة ودراسة ودراية  وتدريبا؟! عن هذه الاسئلة سنحاول أن نجيب في هذا المقال السريع.

بداية وللموضوعية أقول انني ربما لست المخول للحديث في الاطار العلمي لهذا الجانر, الا أنني أجد من الضروري المساهمة في النقاش الدائر اليوم حول هذه القضية وذلك نظرا لأهميتها من جهة ونظرا لخطورتها من جهة أخرى, خاصة اذا نحن أسأنا فهم الكتابة للأطفال, وهذه الخطورة تنبع في رأيي من كون ان الكبير يستطيع التمييز بين ما يكتب له- أما الصغير فهو يقرأ ما يقدم له سواء أكان نافعا أم ضارا. من هنا فان الكتابة للصغار ليست أمرا سهلا كما يعتقد البعض, بل انها كتابة شاقة عسيرة وتتطلب الكثير من الذي يهدف الى ولوجها.

وحين أقول ان هذه الكتابة شاقة وعسيرة أقصد أن مثل هذه الكتابة لها أدواتها وشروطها وتعقيداتها, فاذا لم يكن الأديب قد وقف على كل ذلك قبل البدء, يأتي أدبه فجا وجافا وبعيدا عن الطفل وأحيانا يكون ضارا. فهل وقف كتاب أدب الأطفال عندنا على كل ذلك؟

صحيح أننا بحاجة الى مثل هذا الأدب, ولكن الحاجة لا تعني أن يدلي كل من يعرف الكتابة بدلوه فيه, فالعملية ليست تعني سد الفراغ أو النقص فقط, بل هي تعني سده بأدب ناضج نافع. وكي تكون الكتابة للاطفال ناضجة نافعة في ان معا هناك العديد من الامور التي يتحتم على الكاتب معرفتها, والتي يشكل جهله لها عائقا امام كتابته.

اول هذه الامور معرفته الصحيحة لهذا الجانر, والوقوف على مفهومه ومحتوياته. اذ انه كما يعلم الجميع هو علم قائم بذاته يشمل جوانب كثيرة منها النفسية والتربوية والاجتماعية والفنية. واذا حاولنا في هذه العجالة ان نطرح بعض ما جاء من تعريفات لهذا الجانر نصل الى حقيقة تقول ان الكتابة في هذا البحر الواسع صعبة, لا بل صعبة جدا. فادب الاطفال كما يعرّفه الباحثون: " خبرة لغوية في شكل فني يبدعه الفنان خاصة للاطفال فيما بين الثانية والثانية عشرة, بحيث يعيشونه ويتفاعلون معه, فيمنحهم المتعة والتسلية ويدخل على قلوبهم البهجة والمرح, وينمي فيهم الاحساس بالجمال وتذوقه, ويقوي تقديرهم للخير ومحبته, ويطلق العنان لخيالاتهم وطاقاتهم الابداعية, ويبني فيهم الانسان".

ان قراءة طائرة لهذا التعريف تفضح ما في الجانر من صعوبة ومن شمولية, لا يستطيع ان يصمد امامها الكثيرون. وهناك من يقول: " ان ادب الاطفال شكل من اشكال التعبير الادبي, له قواعده ومناهجه سواء منها ما يتصل بلغته وتوافقها مع قاموس الطفل ومع الحصيلة الاسلوبية للسن التي يؤلف لها او ما يتصل بمضمونه ومناسبته لكل مرحلة, او ما يتصل بقضايا الذوق وطرائق التكنيك في صوغ القصة, او في فن الحكاية للقصة المسموعة" فادب الاطفال كما يراه البعض " يطور الوعي وطريقة فهم الحياة ويعوّد على المعايشة السليمة وينمي الادراك الروحي والمحبة للجمال ولروح المرح, ويؤصّل القيم دينيا واجتماعيا وانسانيا ووطنيا ويعرف الصواب من الخطا عن طريق الخبرات والخير والشر في الحياة والوقوف على الحياة بابعادها الماضية والحاضرة والمستقبلة, ويشبع الحاسة الفنية ويروي التطلع للتناسق والجمال ويقوي نواحي التفكير وروح المعرفة ويحدد المثل العليا للسلوك الانساني ويبني في داخل الطفل الانسان".

وفي عصر كعصرنا نجد ان اطفالنا يتعرضون يوميا للخطر والتشويه في عالم التكنولوجيا. فاطفالنا مهددون دائما, لذلك تاتي اهمية الكتابة لهم بطريقة صحيحة, فهم بحاجة اليوم اكثر من ذي قبل الى كاتب مبدع يخرج ما يكتبه من مادة الحياة نفسها, ومن مخزونها بعد ان يتفاعل بروحه وعواطفه. لكن الموهبة وحدها لا تكفي بل تحتاج الى رصيد من التجارب والخبرات والمعرفة التي تصقلها وتدربها, لذلك نجاح كاتب الاطفال مرهون بمقومات عديدة يلخصها عدد من الباحثين بما يلي:

·                      الافادة من تراث غني ورصيد ضخم من خبرات البشرية.

·                      ذكريات الطفولة.

·                      سهولة اللغة والصدق والامانة.

·                      التزود بالدراسات الادبية والنفسية.

·                      الاهتمام كما لو انه يكتب للكبار.

بناء على ما تقدم تصبح غاية ادب الاطفال ليس اذكاء الخيال فقط ولكنها تتعداه الى تزويدهم بالمعلومات العلمية والنظم السياسية والتقاليد الاجتماعية والعواطف الدينية والوطنية وتوسيع قاموس اللغة عندهم ومدهم بعادة التفكير المنظم ووصلهم بركب الثقافة والحضارة من حولهم في اطار مشوق ممتع واسلوب سهل جميل. وهكذا يصبح ادب الاطفال وسيلة من وسائل التعليم والمشاركة والتسلية وسبيلا الى التعايش الانساني بطريق معرفة السلوك المحمود واداة لتكوين العواطف السليمة للاطفال واسلوبا يكشف به الطفل عن مواطن الصواب والخطأ في المجتمع.

وهكذا ايضا فان مهمة الاديب الذي يلج حقل الكتابة للاطفال لا تقف عند العرض والكشف بل مهمته تقوية ايمان الطفل بكل الايجابيات وحتى لا يخدع الطفل عليه ان يصور الخير والشر والظلم والاستغلال كما هي في المجتمع. وكل ما ذكر يؤدي الى مقولة تقول: " ان أدب الأطفال ليس عرضا للاخبار وليس للتسلية وقتل الوقت, بل ان مهمة هذا الأدب هي تقديم تجارب البشرية من خلال المتعة والسرور, وتنمية الاحساس بجمال الكلمة وقوة تأثيرها وفهم التطور البشري بطريقة أفضل والكشف عن سر الجمال والحقيقة وتهيئة الطفل بالتالي لان يقبل الحياة كما هي وان يعيشها الى أبعد أعماقها.

ارايتم كم هو صعب هذا المجال؟! وكم هي عسيرة الكتابة فيه؟! وذلك لانه يتطلب الكثير من المعرفة والدراسة العميقة في مجالات ادبية وعلمية. واذا اضفنا قلة المرجعية العربية عامة والمحلية خاصة تزداد المشكلة تعقيدا وصعوبة.

فهل ادباؤنا الذين ولجوا هذا الحقل ثقفوا انفسهم ودربوها على هذه المعارف والمهارات؟ ام انهم زجوا بانفسهم عشوائيا في هذا الحقل الشائك والشائق معا؟!

الانتاج الموجود حاليا يكشف عن كثير من العشوائية, فمن يقرأه- أغلبيته- ويتمعن فيه يجد انه يقصر في جوانب عديدة اما فنيا او تربويا او نفسيا, وهكذا بحيث يصبح من الصعوبة ان نعثر على عمل نقول معه اه لقد استجاب هذا العمل لكل المتطلبات ناهيك عن عملية النقل والتلخيص التي تجري عن لغات اخرى او عن كتب صدرت بالعربية في العالم العربي كما يرى بعض المطلعين على هذا الجانر.

واخيرا الحاجة ماسة لادب اطفال محلي, هذا صحيح, فالمحفزات موجودة الى ذلك, وهذا صحيح ايضا, ولكن يبقى ان يتدرب كتابنا على الكتابة للاطفال, ويبقى ايضا ان نمنعهم عن الكتابة العشوائية السريعة. فعليهم ان يفهموا ان مثل هذه الكتابة كي تاتي ناضجة نافعة ناجحة عليها ان توضع على نار هادئة بعد التثقف باصولها والوقوف على شروطها واتقان ادواتها.

ورغم كل ذلك تحية للمبادرين وتحية للقائمين على هذا الجانر, نشد على اياديهم املين ان نرى النضوج في هذا الانتاج قريبا.

              

* د. حبيب بولس – ناقد أدبي  ، محاضر في مادة الأدب العربي في الكلية العربية للتربية في حيفا وكلية اورانيم الأكاديمية .