انخراط العرب والمسلمين في سنّة (التدافع)

زوال الباطل مرهونٌ

د.محمد بسام يوسف*

[email protected]

لا نشكّ مطلقاً بأنّ الحرب الأميركية الغربية الجديدة على العالم الإسلاميّ، التي بدأ فصلها الأول في أفغانستان المسلمة، ثم في العراق العربيّ المسلم، ولم تنتهِ في فلسطين وغزّة.. لا نشكّ بأنها ستنتهي لصالح المسلمين بإذن الله، ويمكن أن تُفضي إلى إقامة دولةٍ إسلاميةٍ قويةٍ موحّدة، تحكم بما أنزل الله، وتعمل على تحقيق وحدة الدول العربية والإسلامية بشكلٍ ما، وتكون أول مهماتها بعد تحكيم منهج الله عز وجلّ في كل شؤون الحياة.. اقتلاع الكيان الصهيوني الدخيل، الذي زرعه الغرب في قلب عالمنا العربيّ والإسلاميّ، ليكون خنجراً مغروزاً في قلب الأمّتَيْن: العربية والإسلامية، ومصدراً للفرقة والتشتّت وسفك الدم، ولإذلال أمّتنا وإضعافها، واستعبادها، ونهب ثرواتها، والتآمر عليها، وعلى حاضرها ومستقبل أجيالها.

العزّة أو الزوال

إنّ سنّة ( التدافع ) التي قدّرها الله عزّ وجلّ على البشر، تسير قُدُماً بين العرب والمسلمين من جهة، والغرب الاستعماريّ واليهود من جهةٍ ثانية.. تلك السنّة الإلهية التي عبّر عنها القرآن الكريم بقوله: (.. وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة: من الآية 251)، إذ لم يبقَ من فئةٍ تقف بوجه الطغيان والجبروت الأميركي والغربي واليهودي في هذا العالَم، بعد استخذاء القوى العالمية التي برهنت على أنها ليست سوى قوىً خاويةٍ من العبيد، الذين يُساقون بسلاسل سيّدهم الجبار الصهيونيّ والأميركيّ.. لم يبقَ إلا الإسلام وأهله، بكل ما يزخر به من قوةٍ روحية، وقدرةٍ فائقةٍ على تفجير الطاقات البشرية، وبُعْدٍ حضاريٍ رفيع، وصلاحٍ ربّانيٍ عادل، بكونه منهجاً شاملاً لجوانب الحياة المختلفة، ومُحقِّقاً سعادة الإنسان في الدارَيْن: الدنيا والآخرة، ضمن رؤيةٍ حضاريةٍ مدنيةٍ عصريةٍ متطوِّرة.

سيجد العرب والمسلمون أنهم أمام مصيرَيْن اثنيْن: إما الزوال والاستعباد لأعدائهم، أو النهوض والوحدة وخلع عباءة الضعف والاستخذاء، وبالتالي تحقيق المَنَعَة والعزّة، والتصميم على تقديم منهج الإسلام العادل، بلسماً حديثاً متطوِّراً، شافياً لكل ما سبّبته المناهج البشرية الوضعية، من ذلٍّ للإنسان، وعبوديةٍ لغير الله عز وجلّ، ومن خللٍ وشقاءٍ وظلمٍ وظلامٍ للبشرية، التي نشهد أجلى صورها في العراق وأفغانستان وفلسطين والشيشان وكشمير.. وداخل الدول التي تحكمها أنظمة استبدادية باطشة ظالمة.

العراق وأفغانستان ساحتان مهمّتان للتدافع

لو دقّقت أميركة النظر في السبب الأساس الذي أدى إلى سقوط الطغاة والجبّارين والإمبراطوريات عبر التاريخ.. لوجدت أنها وقعت رهينة ذلك السبب نفسه: الغرور والظلم والارتهان إلى القوّة الغاشمة.. وهل سقط فرعون ونيرون والنمرود وكسرى وقيصر.. وغيرهم، الذين كان آخرهم الاتحاد السوفييتي.. إلا حصائد غرورهم، وما جرّه من ظلمٍ وقهرٍ وشقاءٍ واستعبادٍ لبني الإنسان؟!..

لقد استطاعت أميركة –يدعمها الغرب الاستعماريّ وأصحاب المشروع القوميّ الشعوبيّ الصفويّ الفارسيّ- تدمير العراق وأفغانستان، بمدنـمها وقُراهما وبواديهما ومساجدهما وبيوتـهما الآمنة ومدارسهما ومؤسّساتهما الرسمية والأهلية.. واستطاعت أن تقتلَ الأطفال والرضّع والعجائز والجَوْعى والبائسين، وتنبش بقنابلها وصواريخها الفتّاكة، قبورَ الأموات ومقابر الشهداء.. واستطاعت أن تحقّق انتصاراً تكتيكياً عسكرياً.. لقد استطاعت أن ترتكب كل تلك الجرائم.. لكن يفوت أميركة أنّ هذا كله لا يدعو إلى الفخر، وأنّ الانتصار الآنيّ بهذا الشكل، الذي يمثل استقواء مَن يملك كل شيء، على مَن لا يملك شيئاً بالمعنى الماديّ.. هو الهزيمة بل الفضيحة، ويفوت أميركة وحلفاءها، أنّ لكلّ فعلٍ ردّ فعلٍ على قَدْره ووزنه، وأنّ الوحشية والظلم والطغيان والقوّة الغاشمة، والاستقواء على مَن تظنّ فيه الضعف من الشعوب المستَضعَفَة.. لن يولّد عند الإنسان السويّ المؤمن العزيز إلا المقاومة والجهاد والعمل الجادّ المتميّز، لدحر العدوان وتلقين المعتدي الدرسَ الذي يفهمه، واجتراح الحرية والتحرّر والاستقلال بسواعد الشعوب المقهورة.

لعلّ الحقيقة الوحيدة الثابتة حتى الآن في الحرب الأميركية الغربية التي بدأت في أفغانستان المسلمة والعراق العربيّ المسلم.. هي أنّ أميركة التي انجرّت وراء غرورها وصلفها وتعطّشها للدماء العربية والمسلمة، قد تورّطت في البلدَيْن الأشمَّيْن أيما تورّط، ولم يعد بمقدورها التراجع، وبدأت تحفر قبر إمبراطوريتها الغاشمة بيديها وعمى بصيرتها.. أفلا يكفي المقاومة التي وُلِدَت من رحم هذه الأمة.. هذا الانتصار على القوّة العظمى، التي بدأت تتهاوى خارجياً وداخلياً؟!.. إنها سنّة (التدافع)، التي قدّرها الله عز وجل في أرضه، وهو وحده الذي يسيّرها كيف يشاء، ويضع سرّها فيمن يشاء، وينصر فيها دِينه وأنصاره بالشكل الذي يشاء!..

لنتأمّل في المشهد التالي: أميركة تصرف مئات المليارات من الدولارات سنوياً، نفقات حربها العدوانية في أفغانستان والعراق، وثمن بقائها فيهما، كما تتكبّد خسائر بشريةً متصاعدةً فادحة.. إلى الدرجة التي بدأ اقتصادها يهتزّ، ليهتزَّ معه اقتصاد كل الدول الحليفة.. بينما تتصاعد عمليات المقاومة وتتطوّر، من قِبَلِ الذين هالَهُم تدمير بلدهم وذبح أطفالهم ونسائهم، واندثار أبنائهم أمام أعينهم، تحت الأنقاض التي خلّفتها أعمال القصف الهمجيّ الأميركيّ، وأفعال القتل الطائفيّ الحاقد الأعمى التي يقترفها عملاء أميركة والشعوبيون الفرس.. الأمر الذي يكلّف أميركة وحلفاءها، خسائر ماديّةً وبشريةً جسيمةً متصاعدة.. ولنتأمّل، كيف ستكون عليه الحالة النفسية للأميركيين والغربيين، عندما تتصاعد درجة هذه الخسارات، إلى درجة وقوع الهزيمة المنكَرَة لأميركة وحلفائها وعملائها!..

فلسطين ساحة التدافع الأهمّ

إذا كان العراق وأفغانستان سيتحوّلان إلى مقبرةٍ للإمبراطورية الأميركية وعملائها بإذن الله، فإنّ فلسطين ستكون مقبرةً لربيبها المدلّل: الكيان الصهيونيّ، ولكل أدوات بقائه واستمراره وإجرامه وانتهاكه لإنسانية الإنسان، على نحوٍ بشعٍ منحطٍّ خسيس.. تلك الأدوات الأميركية والغربية، التي ما زُوِّدَ بها هذا الكيان الصهيونيّ المِسخ.. إلا ليقومَ بدوره الإجراميّ نيابةً عن العالَم الغربيّ، الذي صنّعه في مصانع حقده وكرهه للعرب والمسلمين، وما يزال ينفخ فيه الروحَ الحياةَ لينفّذ مهمّته على أكمل وجه.

لن يحتاج المتأمّل إلى كثيرٍ من الحصافة والتمعّن وبُعْدِ النظر.. ليكتشفَ أنّ سنّة (التدافع) الإلهيّة، يُسيّرها الله عزّ وجلّ بتناغمٍ عجيبٍ مدهش: إذ بعد عامٍ واحدٍ من اندلاع انتفاضة الأقصى المباركة، التي أقضّت مضاجع اليهود، والغربَ الذي يدعمهم ويمدّهم بأسباب البقاء والعدوان.. يجد هؤلاء الأميركيون والغربيون أنفسهم يغرقون في أوحال أفغانستان المسلمة.. ثم بعد أقل من عامَيْن، يُجَرّون إلى مصيدةٍ إلهيةٍ ثانيةٍ في العراق، ولم يكن بإمكانهم التراجع عنها على الرغم من يقينهم بمصير مَن سبقوهم إلى المصيدة نفسها، وانتهى بهم الأمر إلى الزوال!.. هنا في فلسطين والعراق تستمرّ المقاومة المباركة ضد اليهود الصهاينة، وتتأجّج بدماء الشهداء الزكيّة.. وهناك في أفغانستان تستمرّ المقاومة الشجاعة الجريئة وتتطوّر، ضد أعتى قوّةٍ عالميةٍ داعمةٍ لليهود الصهاينة ولكيانهم المسخ، وما بين فلسطين والعراق وأفغانستان تصدح مآذن الأقصى الشريف، بحُداء: الله أكبر، الذي يوحّد ساحات التدافع، لمجابهة عدوٍ مشتركٍ للعرب وللإسلام والمسلمين، بجناحيه العاتِيَيْن: اليهوديّ الصهيونيّ، والاستعماريّ الغربيّ، وما بين هذه الساحات الملتهبة، تستعدّ ساحات أخرى للذود عن دِينها وشرفها وكرامتها، تحت شعار : الله أكبر من الظالمين، الله أكبر من الجبّارين المجرمين، الله أكبر من الحاكمين بالباطل والظلم والاستبداد!..

هنا في فلسطين والعراق يسير الأعداء المجرمون على خطى سياسة الأرض المحروقة، فيقتلون ويسفكون الدم ويخلّفون الخراب والدمار في كل مكان.. وهناك في أفغانستان يقترفون الشكل نفسه من الجرائم والانتهاكات، وبنفس الأسلوب، فيقتلون ويدمّرون ويزرعون الخراب، ويتآمرون.. والضحايا هنا وهناك عرب ومسلمون، والمقاومة التي تدفع الأذى والظلم بالجهاد والتضحية والاستشهاد، هي مقاومة عربية ومسلمة!.. هذه المقاومة التي تزرع -على تواضع إمكاناتها- الرعبَ والذعرَ والخوفَ في قلوب المجرمين الصهاينة وحلفائهم!..

هنا في فلسطين والعراق، تآمرٌ واسعٌ يحاول أصحابه من الأقربين والأبعدين، إطفاء جذوة المقاومة وإزهاق روح الجهاد.. وهناك في أفغانستان، تآمرٌ آخر من الأقربين قبل الأبعدين، لإخراس صوت الحق الذي تحدّى جبروت الجبّارين، وجرَّهُم إلى مأزقٍ لن يخرجوا منه سالمين بإذن الله!.. وهنا وهناك، تبقى العصبة المؤمنة والفئة الصادقة، ثابتةً على الحق لا تأخذها في الله لومة لائم ولا تآمر منافقٍ تافه، راسخة الإيمان بأنّ الباطل سيزول مهما علا وتجبّر واستكبر، عارفةً حق المعرفة، أنّ زواله مرهون بالانخراط في سنّة الله عز وجل: سنّة (التدافع)، بدفع هذا الباطل الظالم بالجهاد والمقاومة والتضحية، وهو الشرط الحقيقيّ الوحيد لظهور الحق، وعلوّ أنصاره والمؤمنين به والذائدين عن حِياضه، لأنه عندئذٍ فحسب، تُستَكمل شروط استحقاق نصر الله، إذ لا نصر إلا نصره، ولا عزّة إلا منه عزّ وجلّ: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) (يوسف :110).

              

*عضو مؤسِّس في رابطة أدباء الشام.