طوبى لغزة

إذ تحيي عظام التضامن العربي وهي رميم

عريب الرنتاوي

نريد أن نصدق بأن ما جرى في قمة الكويت، هو مصالحة عربية حقيقية، لا مجرد "مصافحات وتبويس لحى" على الطريقة العربية المعتادة، ونريد ان نصدق بأن "ساعة واحدة" قضاها "الأخوة الأعداء" مع بعضهم البعض، كانت كافية لغسيل القلوب وتفتيح الصدور وإعمال العقول، بحثا وتمحيصا ومراجعة لأرشيف الخلافات العربية وموضوعاتها، ولملامج استراتيجية النهوض في المرحلة المقبلة في مجابهة الأخطار الكامنة في سلوك وممارسة وسياسة "العصابة المجرمة".

نريد أن نصدق بأن مفردات "الحرب" و"المقاومة" التي سحبت من القاموس العربي الرسمي منذ ما يزيد عن ربع قرن، قد عادت للتداول بصدق، وبوصفها خيارات "موضوعة على الطاولة"، لا بوصفها مادة للتداول في سوق المزايدات، وفي بازار القمم العربية الذي انتعش أخيرا.

نريد أن نصدق بأن القادة العرب، يمكن أن يمارسوا نقدا ذاتيا، وأن يعترفوا ولو لمرة واحدة كما ورد، بأنهم جميعا ومن دون استثناء، مسؤولون عن حالة الضعف والهوان التي تعيشها الأمة، والتي مكنت إسرائيل من أن تدوس بجنازير دباباتها على أجساد أطفالنا الغضة الطرية، وأن تحرق بالفوسفور متعدد الألوان، حدقات عيونهم ومآقيها.

طوبى لك يا غزة، إذ جعلت من عظام أطفالك جسرا يعبره الملوك والرؤساء والأمراء صوب وحدتهم وتضامنهم...المجد لك ياغزة، وأنت تذرفين من الدم والدموع أنهارا تغسل عار الهوان والتخاذل، وتثير الحمية في الشرايين المتيسبة وتعيد بعض الدماء الدافقة إلى الوجوه التي فقدت ملامحها.

والمجد لكم يا شهداء المقاومة، أيها الرجال الرجال، الذين صنعتم بأجسادكم العارية وبنادقكم "المهربة"، المعجزة تلو الأخرى، معجزة الصمود الأسطوري في وجه أحد أعتى جيوش العالم وأكثرها همجية، ومعجزة بعث عظام النظام العربي الرسمي وهي رميم.

لم تكن المصالحات في الكويت ممكنة لولا هذا الصمود الباسل لغزة العزة...ولم تكن أحاديث التضامن والمقاومة وتعدد الخيارات متاحة لولا هذه البسالة منقطعة النظير التي تميز بها أهلك يا غزة...والخزي والعار لكل من جبن وصمت وتواطؤ وجلس أمام التلفاز مرتقبا ومنتظرا ظهور أول راية بيضاء في سماء غزة...غزة سريرتها بيضاء، أما راياتها فحمراء حمرة الدم الذي لون طرقاتها وتسلق جدران أبراجها.

لن نركن إلى مصالحات المتصالحين في الدوحة، ولن ننسى قصور من قصّر وتواطؤ من تواطئ، وسننتظر حتى نرى رؤيا العين، ونلمس لمس اليد، مواقف هولاء وسلوكهم وأموالهم التي تبرعوا بها، فكم من مرة تبرعوا أمام الكاميرات، وظلت الأموال في الوسائد تحت رؤوسهم...وكم من مرة تنافحوا نصرة لفلسطين، وفلسطين تتنقل على درب الجلجلة، من مجزرة إلى أخرى ومن كارثة إلى كارثة...سننتظر لنرى سلوكا مغاير قبل  أن نمنحهم "حسن السلوك"، سننتظر لنرى نصرتهم لفلسطين، كل فلسطين، وليس لفريق منها على حساب فريق...سننتظر لنرى إعادة إعمار نزيه ومجرد عن أغراضه السياسية وعن حسابات "الاعتدال والممانعة"...سننتظر لنرى وسيطا نزيها بين الافرقاء يقف على مسافة واحدة منهم، ولا يبذل قصارى جهده للاستقواء بنتائج العدوان والحصار والإغلاقات لتدمير فريق وإخراجه عن الحلبة لصالح فريق آخر، وأي فريق: الفريق الذي تميز أداؤه بالبؤس والتخاذل والارتباك، واستحق غضب الشوارع كلها، وأولها الشارع الغزي المنكوب.

نريد أن نرى المصالحات وتجسيداتها على خطوط التماس بين "المعسكرين" وبالأخص في فلسطين ولبنان، نريد أن نرى "سلم أولويات" جديد لمصادر تهديد الأمن القومي، تقف إسرائيل على رأسه، لا  خارجه، أو على أدنى درجاته كما تموضعت في السنوات الأخيرة.

نريد أن نرى المصالحات تنعكس على "وسائل الإعلام الصفراء"، و"صحف المحافظين الجديد"، المهاجر منها والمقيم، فضلا بالطبع عن ممثليه ومندوبيه المبثوثين على "أعمدة الصحف وزواياها" الصادرة في العديد من الدول العربية...نريد أن نرى متى سيوقف هذا التحريض المنهجي المنظم على فريق منا، وهذا الاستقواء الأجنبي، حتى وإن كان إسرائيليا ضد الأخ والشقيق.

نريد لـ"سورة الغضب" التي اجتاحت بعض الدبلوماسيات العربية خلال الساعات الثماني والأربعين الفائتة، أن تكون حقيقة، ومنتصرة لكرامة دولهم وشعوبهم ومواقهم على رأس العالمين العربي والإسلامي، لا مجرد "لحظة نزق وضيق" أو امتطاء لموجة الصمود والانتصار على العدوان، أو لحظة "ذروة" في بازار المزايدات السياسية، الذي فتح بقوة وبأعلى الأسعار في الأيام الثلاثة الأخيرة.

نريد ان نصدق أن ما حصل هو "عودة الروح" للتضامن العربي وللكرامة العربية وللمصالحات العربية، لا مجرد زوبعة من العواطف في فنجان قمة الكويت أو على هامشها.