مات سعيد
د. بلال كمال رشيد
كنا نستقبل العيد ونحن أطفالٌ صغارٌ بأغانٍ وأهازيج وحكايات نرويها لبعضنا ، ومما كان يُروى في تلك الفترة أن هناك صديقين متلازمين لا يفارقان بعضهما أبداً هما :(عيد) و( سعيد ) ، فمات ( سعيد )، فمن يبقى ؟؟ فتجيبُ : (عيد) ، فتُفارق مفردةُ ( العيد) الاسميةَ، وتنتقل إلى فعل أمرٍ نافذٍ ومتحققٍ فوراً ، فتُعاد لك الحكاية وتنتهي إلى بداياتها، والضحك يُلازم السائلَ والمُجيبَ والمستمعين فرحاً وابتهاجاً بالعيد السعيد .
يمتد بنا العمرُ ونكبر وقد شهدنا أعياداً كثيرةً، وأصبحنا شهوداً على أحداث كثيرة ومجازر عديدة ، وها نحن نشهد مجازر في عدة بلاد عربية ، وها نحن نشهد بالصوت والصورة والألم ما يحدث في غزّة ، فهل تجرؤ اللغةُ على قولها ، و هل يُطابق المقالُ المقامَ لنقول : عيد سعيد ؟؟؟!!!!
لقد مات ( سعيد ) منذ زمن ، ومات أولاده وأحفاده، وما زلنا على الحالة نفسها نُعيد الجرحَ ذاته، أو يُعاد فينا هنا أو هناك ، مازلنا نبحث عن السعيد فينا ومنا تحت أنقاض بيتٍ ، على قارعة طريق ، في مدرسة أو ملجأ ، ما زلنا نبحث عن أيِّ أثرٍ من آثار سعيد: من بسمةٍ لم تكتمل على شفة طفلٍ ، أو بسمة أملٍ في عين صبيّةٍ ، أو راحةِ قلبٍ في جسدٍ نحيل ، نبحثُ عن ثروةِ سعيد من: الفرح والراحة والابتسام والنور والأمل؛ لنوزعها على الوَرثةِ بِعدْلٍ ونظامٍ عالميٍّ جديد ، مات سعيد ولم يبقَ لنا إلا أن نعود حيث كُنّا ونُعيد:
( عيدٌ بأية حالٍ عدتَ يا عيدُ ؟؟!!)
مات سعيد، و تَرَكَ صاحبَه ( عيد) ؛ لِيُعيد سيرته الأُولى حكاية: ( كنا و كان) وأُسطورةَ مجدٍ ، وأهزوجة فرح ، وأُغنية نَصْرٍ ، يومَ كُنّا وكان ، مات سعيد عندما ذهب عنّا ( النصرُ والفتحُ )، وجاءت الغربان واستوطنت بلاد العربان ، عندما ماتت نخوةُ المعتصم ، وانفرطَ العقد ، وتكسرتْ الرماح آحادا ، مات سعيدٌ عندما عَشِقنا كلَّ المعاني النبيلة ولم نظفرْ بها ، عشقناها شواردَ ،وبكيناها أطلالاً، وأَدمنّا البكاءَ دماً !!
عُدْ إلى ماضيك لِتُعيد تاريخ أُمتك من جديد ، لتعرف من هم القادة ومن هم العبيد؟؟
أَوَ تبكي بُكاءَ النساء؟؟!!
فابكِ كما شئت فلن تأتي بجديد !!
مات سعيدٌ وهو يبحثُ عن بيته تُراباً بين الركام ، مات سعيدٌ وقد تعثر بأشلاء مبعثرة من بقايا أهلٍ تناثرتْ في بقايا مكان ، مات وهو يشتم رائحة موتٍ تُغالب رائحةَ الحياة ، مات مقهوراً من عربٍ خانوا وباعوا الديانة والعروبة ولم تَعُدْ لهم صدورٌ دون العالمين ولا جباه ، مات سعيدٌ على مَتْربةٍ ومقبرةٍ قُرْبَ مقبرةٍ حيث التكاثرُ في المقابر من نكباتٍ ونكساتٍ وارتكاسات ، من موتٍ مجانيٍّ لشعوبٍ فائضةٍ عن الحياة ، مات ولم تَحْلُ له الحياة وهي مريرةٌ عصيّةٌ على الحياة ، مات والتاريخُ يُعيد نفسه مآسيَ تلوَ المآسي ، مات وهو يُلدغُ من ذات الجُحْرِ و بذات الجُرْحِ مراتٍ و مرات ، مات على المُرِّ والقهر والتشريد والفَرِّ مِنْ جُرْحٍ إلى جُرْحٍ ، و تَرَكَ الروايةَ لــ (عيد ) لِيُعيدَ و يَزيد ، ويبقى السؤالُ دموياً أبدياً: ( عيدٌ بأية حالٍ عُدتَ يا عيدُ ؟؟!!) .
كُنا صغاراً نضحك ونلهو ونمرح ونحن نقول : (مات سعيد) ، لكننا اليوم نَكبُرُ مع الجُرحِ ونبكي السعادةَ حين نبكي ( سعيد ) ، نبكي الحياةَ ذاتها، ونبكي العيد حين يأتي بهذا الموت والدمار ، ولا يُبقي ولا يَذر ، نبكي (سعيد) حين يموت ، ونبكي ( عيد ) حين يأتيك بِلباسٍ جديد ، حين لا يَجود بِقولٍ ولا يُجيد ، حين تراهُ بثوبِ الشهيد ، فأيُّ صاحبٍ منهما تبكي يا صاحبي ؟
أتبكي الصاحبَ ذاك السعيد ، أم تبكي هذا العيدَ وهو شهيد ؟؟!!