هل هي عودة
إلى عصر القرون الوسطى للفقه الإسلامي؟
د. حمزة بن محمد السالم
من عظمة هذا الدين توافقه مع كل زمان ومكان على أساس نصوص شرعية منبعها الكتاب والسنة. هذه النصوص وإن كانت ثابتة من ناحية الأحرف والكلمات، غير أنها متجددة من حيث الفهم والإدراك. فقدرة الإنسان على الفهم والحكم على الشيء نابعة من تصوره وإدراكه لذلك الشيء. وتصور الإنسان وإدراكه نابع من الأحداث المتجددة في عالمه الذي يحيا فيه. وهنا تظهر قدرة الله ورحمته أن ارتضى لنا دينا ثابتة أصوله، متكيفة مفاهيمه مع المستجدات إلى قيام الساعة لا تناقض ولا اختلاف بين الواقع المتجدد والنصوص الثابتة (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا).
في ريعان الصبا عندما كنت في المرحلة المتوسطة استوقفني قوله تعالى (وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب صنع الله الذي أتقن كل شيء) فأتيت والدي ـ رحمه الله ـ بدليل دوران الأرض، فما كان منه إلا أن أحالني إلى تفسير الشنقيطي ـ رحمه الله ـ الذي فسرها، على طريقته بتفسير القرآن بالقرآن، على أن ذلك يكون يوم القيامة. فراجعت والدي ـ رحمه الله ـ أن وصف الله تعالى للرؤية بلفظ (تحسبها) ووصفه تعالى للموقف باستخدام الصنع غير متناسب مع أوصاف أهوال القيامة. فالجبال تسير يوم القيامة وتنسف حقيقة لا تخيلا وكذلك لفظ الصنع لا يتناسب مع التدمير العام للأرض وتساقط السماء وتسجير البحار، فلعل هذه الآية من الإعجاز العلمي للقرآن. فما كان من والدي ـ رحمه الله ـ وأسكنه وسيع جناته إلا أن نهرني، آمرا إياي ألا أتجاوز آراء العلماء. وعندما بلغت ريعان الشباب أثرت الموضوع مرة أخرى مع بعض أهل العلم فحاجوني بمرور الجبال وأن هذا يلزم منه ثبات الرائي. فحاجتهم أن مرور الجبال أتى مطلقا في الآية ولم يقيد، وعليه فإن ثبات الرائي ليس لازما عنه. وإنما قد يصح أن يكون ثبات الرائي لازما عن مرور الشيء عليه إذا قيد بقيد كقول الشاعر (تمر عليك الأبطال كلمى هزيمة.. ووجهك وضاح و ثغرك باسم).
أردت بهذه المقدمة أن أمهد فكر القارئ الكريم أن النصوص الشرعية، رغم ثباتها، تحمل في طياتها إعجاز الإسلام و صلاحيته كخاتم الأديان، ومقدرته على الانتقال من فهم صحيح مناسب لحقبة معينة إلى فهم صحيح آخر مناسب عند تغير الوقائع دون تغير النص، وهنا تتجلى قدرة وعظمة الخالق وضعف وجهل المخلوق. ويجب أن ندرك أن الانتقال من فهم إلى آخر لا يكون سهلا ولا مرحبا به، فلا بد من مقاومة التغير واتهام التجديد والمجددين (رغم أن التجديد أصل في الشريعة). وهذه المقاومة في أصلها محمودة ومشكورة، فهي من باب حماية جناب الدين والحفاظ عليه من التغير والتحريف. فلا ضرر ولا عيب ولا عجب أن نرى رفض فكرة دوران الأرض لعدم تصور المسألة آنذاك وكذلك قياس أوراقنا النقدية على الذهب والفضة لعدم تصور ديناميكية الاقتصاد المعاصر، والأمران سواء دوران الأرض أو حقيقة الأوراق النقدية المعاصرة، كلاهما صعب تصوره وإدراكه. ولكن شتان بين المسألتين. فالأولى لا تعلق للعباد والبلاد فيها لا من باب العبادات ولا المعاملات وأما الثانية فخطأ التصور وشدة المقاومة أدت إلى لوي أعناق النصوص وهجران الكتاب والسنة وأقوال السلف وتفسيق المخالفين والتضييق على البلاد و العباد والتلاعب بالحيل وإعادة الدين إلى عصر القرون الوسطى للفقه الإسلامي.
عندما جعل الشارع الربا في الأصناف الستة ولم يظهر العلة لم يكن ذلك عبثا ولا نسيانا، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، مما أدى إلى اختلاف العلماء في علة الربا اختلافا شديدا. وحتى الحكمة عندما لم يبينها الشارع لم يكن ذلك عبثا ولا نسيانا تعالى سبحانه عن ذلك، (قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ "وقد كان من العلماء المشهورين في زماننا غير واحد يقولون لا نعرف حكم ( أي حكمة) تحريم الربا وذلك أنهم نظروا في جملة ما يحرم فلم يروا فيه مفسدة ظاهرة").
الاقتصاد إلى عهد قريب كان قائما على أن ملاك الأرض والماشية والعمران والمصانع هم أنفسهم ملاك الذهب والفضة. ومع الثورة الصناعية وتطور عمل البنوك وانتشارها، اختلفت التركيبة الاقتصادية بالكلية. فأصبح أهل الذهب والفضة في جانب والقادرون على الاستثمار في جانب آخر. ومواكبة لهذا التطور تسارع التعامل بالأوراق النقدية بدلا من الذهب والفضة الذي لم تلبث، أي الأوراق النقدية، حتى انفصلت عن الذهب وأصبحت هذه الأوراق سلعة من السلع تباع وتشترى كغيرها من السلع بل إن سوقها هو أعظم سوق في العالم تزيد قيمة التداول فيه على ترليوني دولار يوميا. وهذا قد كان في علم الله سابقا وأصبح الآن واقعا فأعطى تبيانا وإيضاحا لحكمة الشارع في تشريعات البيوع والسلم والمضاربة والأموال الربوية التي خفيت على الكثير من السابقين واللاحقين، وهو أيضا من رحمة الله بالمسلمين وتوسيعه عليهم. ولكن مازال الكثير يأبى حكمة الله ورحمته ويقدم عليها فلسفته ونظرته الدينوية الضيقة.
أنى تأمل الناظر العارف تتبين له حكمة عدم إظهار علة الربا من الشارع وتركها موسعة لتشمل المستجدات التي تجد في حياة الناس وهي في علم الله وقدره ولكن لا تسعها إدراك البشر وأفهامهم حتى يرونها ماثلة أمامهم مثلها مثل أمور الخلافة وغيرها من معاملات العباد ودوران الأرض وغيرها من آيات الله الكونية.
الآن في أمريكا مثلا، البنوك وحدها تمول المشاريع بما يقارب ستة ترليونات سنويا (أي ما يقارب ستة آلاف ضعف ميزانية المملكة). فازدهرت البلاد وأصبح كل شخص طبيعي له دخل ولو بسيط يمللك منزلا ومركبا. وهنا في بلادنا جُمد اقتصادنا على أن ملاك الأوراق النقدية هم المستثمرون وباقي الأمة إما عالة على الدولة أو فقراء. فخُلقت الطبقية المقيتة واستنزفت أموال الدولة بإنفاقها على استهلاك الأمة وكل ذلك لعدم تصور حقيقة الأوراق النقدية التي أثبتت حقيقتها أن السلف جميعهم على اختلاف مذاهبهم واستنباطاتهم لعلة الربا أنهم هم أسلم وأحكم وأعلم من الخلف.
وقد بدأت الآن تتضح معالم الاقتصاد المعاصر وأصبحنا ندرك الواقع النقدي المعاصر ولكننا مع الأسف لم نرجع إلى الكتاب والسنة وأقوال السلف بل إلى أنفسنا فتلبس البعض منا دور الربوية فحرم ما لم يحرمه الله ورسوله ثم عاد إلى أصحاب السبت فاستلهم منهم نهجهم وحيلهم وجدالهم فاستحل ما حرمه هو من قبل فلا حول ولا قوة إلا بالله وإنا لله وإنا إليه راجعون.