نيولوك روحي
نجاة الحجري
[email protected]
لما دخل علينا الأستاذ في سنتنا الأخيرة من البكالوريوس ، نظر إلى اللوح ، فوجد (هايدي
ملحم ([1]
ملتصقة به ، ليس بجسدها الطاغية ، بل باسمها الفاتن أيضا . لم يحتمل أن يزيله
متجاهلا ؛ فقال لنا بأسلوب مريب ، يبدي أكثر مما يخفي : " ( هايدي ملحم ) ، ماذا ؟
ملحمها الله !"
فما بال الذي يخفيه ، والذي يجتهد ألا نراه ، فأباحه الاجتهاد !
(هايدي ملحم ) تلك الفاتنة بدموية ، صاحبة المليار عاشق ، يمدون أيديهم إليها مع
قلوبهم الوالهة ، ليتمسحوا ببركات ذلك الجمال القابع في ضريح عينيها . قوام فاتن ،
وملامح ثائرة الأنوثة ، كأنما خلقت كما تريد . وهي حقا كما أرادت ، تحقيقا لا
تعليقا .
لقد سمعت كثيرا عن هذه الفلانة (مونرو العرب) ، ورأيت المتكسرات من النساء اللاتي
لا يتحسسن بأجسادهن فتنة (هايدي ) ، والمحطمين من الرجال الذين لا يحتضنون في
نسائهم ( ملحم ) ليلا . رأيت الضائعين على أعتاب الجمال المفقود ، الذي استباحته
حورية الجنة التي ضلت طريقها ، فتلقفتها الدنيا .
هي مطربة ؛ تبلغ رسالتها _ السامية جدا !_ بأثيرية صوتها ، لكنه على ما يظهر ليس
بفتنة جسدها ، ولم ينهض بأعباء الرسالة كما نهض بها جسدها . فاللاهثون العاشقون لا
يبحثون عن (الكاسيت) الجديد ، بقدر ما يلهثون وراء (اللوك) الجديد .
ما حقيقة ( هايدي ملحم ) هذه التي جعلت الرجل والمرأة يرفضون واقعهم بشدة موجعة ؟
قرأت لأحدهم يعلق عليها : " ( هايدي ) جميلة ، لكنها أجرت عمليات تجميل كثيرة " .
فأين الجمال الرباني الخارق الذي غلّق أبواب الأمل على كثيرين ؟ أليست هي من تردد
عنها _ كما تردد عن فتنتها _ أنها قالت حين سئلت عن عملياتها الكثيرة ، ما مفاده أن
ربها لم يعرف كيف يخلقها ؟
وسواء أصدق ما قيل عنها _ على عظمه _ أم لم يصدق فقد اختارت لنفسها حقا خلقا جديدا
على يد الجراح الإله ، ومشرطه السحري ، واخترنا نحن أن ننظر للنصف المملوء مما
يتردد عن ( هايدي ) ، لنموت مرات على حد مشرط جمالها المزيف . وأعجب ما في الأمر
أنا نعلم أنه ليس حقيقة ، ونستمرئ أن نضيع بالوهم ؛ لأنه أجمل من واقعنا السقيم .
فآثرنا أن نصدق الكذبة ، ونستن بسنة ( هايدي ) ، ونهتدي بهديها !
فهل هي طبيعة بشرية أن يحب الإنسان أن يحمد على ما لا يملكه ، ليخفف من حدة عجزه
عنه ، وحرقة فقده ، كما قال كتابنا العظيم : " لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا
ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب " ؟ أم لعله
مصداق الوعد الإبليسي الثائر : " ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان
الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله " .
ليست ( هايدي ) في ذاتها أمرا ذا أهمية ؛ فسيذوي جمالها يوما حين تنهار مناجم
السليكون ، وتعاف جسدها مشارط الجراحين ، وستكون في عداد الذي هو أدنى ، ويستبدلها
جمالها بفاتنة مصنوعة أخرى ، وسيطويها الخبر . فهي ليست إلا رمزا للهاث الجمال ،
الذي يفضي لسعار التغيير . ليست الأولى ، ولن تكون الأخيرة ، لكنها وقفة أخرى ،
وانحدار آخر لمجتمعنا البشري ، لنرى وسط ظلامها حقيقة أخرى من حقائقنا .
إن البحث عن الجمال حق مشروع ، بل جبلة بشرية ، من ملامح الفطرة التي هي من روح
خالقها ، فالله جميل يحب الجمال . وعليه فالنفس ترتاح لكل جميل في أي محل ، وتنجذب
إليه بحكم تلك الفطرة .
لكن السؤال هنا : ما الجمال ؟
أهو جانب مادي حسي ، أم معنوي روحي ؟ أهو امتلاك الإنسان _رجلا كان أم امراة _
مقاييس الجمال التي تقرها دور الجمال والأزياء العالمية ، بحكم أنها الرائدة في هذا
المجال ، وكل مجال ؟ أم هو التزام بمعايير الجمال لشعب ما ، في مكان ما ، وزمن ما ؟
أم هو تناسق أجزاء الجسم في مجملها بعضها مع بعض ؟ أم هو رضا الإنسان عن نفسه ،
بتجاوزه عن عيوبه مهما كانت ؟ أم ترى هو الإحساس بتناسق الموجودات في هذا الكون
سواء أكانت سيئة أم حسنة لتعطي صورة فريدة من الجمال ؟
لا أظنني أخطئ إن حكمت على الجمال مثار الجدل اليوم بأنه جمال جسدي ظاهري ، وعليه
فلا يخفى أن الجمال مسألة نسبية ، تختلف من شخص لآخر ، ومن شعب لآخر ، ومن زمن
لآخر. فاليابانيون مثلا يحبون المرأة صغيرة القدمين ، ورائحة المرأة عند قبائل
الإسكيمو تأتي في صدارة مقاييس جمالها . أما المرأة في القبائل الأفريقية فيزداد
جمالها كلما كانت أكثر سوادا لصفاء عرقها . كما أن حبيبة امرئ القيس كانت بيضاء
مهفهفة ،هضيم الكشح ، ريا المخلخل ، أما حبيبة العربي اليوم _ بحكم الاتباع الذهني
المسيطر_ فكحبيبة (ألفيس بريسلي) فاتحة البشرة ، طويلة القامة ، نحيلة الخصر ،
رفيعة الساقين ، ممتلئة الشفتين ، بارزة النهدين .
ومن هذا الباب الأخير ، تخرج نساء العالم اليوم من جنة الجمال ، أو تلج إليها .
معايير هوليوودية مستبدة ، لا تراعي خصوصية الثقافة ، أو المكان ، الذي يحكم بدوره
على تفاصيل الجسد . وعلى هذه المعايير أين تجد العربية المختلفة عن المرأة الغربية
نفسها ، وفي أي مرتبة ، أم أنها لن تنافس جميلات الغرب أبدا ؟
لا ؛ فهناك حل آخر : أن تغير العربية نفسها ، حتى تفتح ميدان الجمال العصي عنوة ،
وتتشبث برقم يمثل العرب ، ولو في دور الجمال ، إن لم يفلح أن يمثلها في مكان آخر !
وأن يخضع الذوق العربي _ شاء أم أبى _ لمعايير الذوق الغربي . تلك المعايير التي
بدأت بعض الشعوب في الغرب والشرق تثور عليها ، وتجترح معايير جديدة إلا الشعب
العربي المخلص الدائم الولاء ، المحموم بحمى النقص ، التي جعلته ذا فم مر مريض .
ومن هذا التمرد فَرْضُ الإيطاليين نموذج المرأة الممتلئة في مسابقات الجمال ،
واعتلاء السمراوات والسوداوات لعرش جمال العالم لأكثر من مرة ، واشتراك البدينات
أيضا في تلك المسابقات ، وفي عروض الأزياء . ومنه أيضا ما نجده في الغرب من هوس
بالملامح الشرقية كاللون الأسمر ، فيما يعرف ب(tanning)
،
وفي هذا يتعرضون إلى حرارة عالية قد تحفها مخاطر حقيقية ؛ مما حدا بالدولة أن تمنعه
لمن هم دون سن معينة . نُشر على أحد المواقع الالكترونية الإنجليزية(Tanning
Truth)
أن ما يقارب ثلاثين مليونا من سكان أمريكا الشمالية يتجهون إلى دور التجميل للتسمير
حلا بديلا للتسمير على الشواطئ الذي قد يتسبب بمضاعفات خطيرة كسرطانات الجلد ،
وضربات الشمس ؛ بحكم أن الأول يمكن التحكم فيه بنسبة الحرارة المتلقاة . لكن
المخاطر في الحالين ما تزال موجودة . لا يهمنا هنا أن نعرض لنزوات الغرب ، لكن
المهم هذه المخاطرة ، وهذا الحرص على أن يكون الواحد منهم أسمر ، والشرق الأسمر
مهووس بالتبييض والمبيضات ، بما فيها هي الأخرى من مخاطر لا تحصى ، ولا تخفى .
فهل
هي حقا مسألة جمال ؟
قد
تبدو للوهلة الأولى والثانية ، والألف رغبة في الجمال ، وتنقيبا عنه في كل مظانّه.
لكن هذا التناقض في سبل البحث عنه ، على رغم وجود المعايير ، ثم التمرد عليها ،
وتجاوزها بعد الوصول إليها ، ليؤكد أمرين : نسبية الجمال ، وأن الجمال في نفسه ليس
الغاية الحقيقية ، بل العشب الذي على السياج الآخر هو الغاية. والإمعان في النظر
إلى السياج الآخر ، يفضي إلى هوس الجمال الآخر ، لتتدخل الشفرات الحادة في اجتلابه
. وهنا يظهر بعد آخر في الأمر ، قد يصدِّق عليه بعض المتجملين ، وقد يرفضه كثيرون
منهم .
إن
هذا اللهاث وراء الجمال الذي قد يصل حد التقطيع في غرف الجراحة التجميلية ، يحمل
رفضا داخليا للنفس ، وانعدام الرضا عن الذات : يريد أن يتغير ؛ فهذا الإنسان بصورته
هذه لم يحقق له شيئا ، أو استعبده في صفة لم يقو الهروب من بطشها . فلما كان من
الصعب أن يغير داخله ، غيَّر ظاهره ، محتالا على نفسه بأنه أصبح إنسانا مختلفا .
ولو امتلأ الإنسان بقيمة نفسه ، وعظيم ما يملكه ، وما يقوى عليه ، ما تخلى عن جزء
من هذا الكيان الذي يمتلئ به مهما كان ، وإلا أحس بعاهة ما في نفسه ، أو أنه مسكون
بشخص آخر ، ليس هو .
ودليل هذا صرع new
look))
الذي يعانيه الوسط البشري اليوم ، فيجترئ عليه من ملك المال ، وإلا فبالقليل المتاح
، فإذا ضن المتاح ترى أعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون ! في أي فئة
من الناس تجد مثل هذا الجنون ؟ وهل هذا جنون من أجل الجمال ، أم غضب خفي على الذات
، ورغبة في كسر المستحيل ، والواقع الراكد ، الذي لم يستطع بكل مساوئه ، ومحاسنه أن
يملأهم بشيء ؟
إن
رضا الإنسان عن شكله جزء من رضاه عن ذاته ، ومكانه في الوجود المنوط بعمله لا بشكله
. وكلما كان الإنسان رائع الروح انعكس ذلك على شكله بهاء ، وجاذبية . فكم من حسن
الملامح ، قبَّحه سوء خلقه ، وخبث روحه ، فكان جماله وبالا عليه . فكما أن الإنسان
بفطرته محب للجمال ، فهو بفطرته تلك أيضا تأسره الروح الطيبة مهما كان صاحبها قبيح
المنظر. لكنما سيء النفس لا يشفع له جماله ليحبه الناس ، وإن أحبوه فلأمر فيهم لا
فيه ، يجعلهم يحتملون سوءه احتمالا .
إذا
ما حاول الإنسان أن يصبح جميلا ، دون أن يمس حقيقته ، أو يعبث بتفاصيله ؛ فربما رأى
في ما يكرهه في نفسه بعدا آخر ، لحكمة أخرى قد تبدي نفسها يوما ما . وإذا أحب عيبه
أحبه الناس كذلك ، حين ينطلق الرضا عن الذات ، وموجدها مشكلا هالة من نور تلج به
إلى عالم نوراني يفرض وجوده على كل من يراه . ثم ترتقي روحه عن سعار المادية ،
واللهاث الذي لا يتوقف ، وينفصل بشعوره عن العالم الأرضي المتصل بالضيق والهم
والقلق . فذاك هو الجمال الروحي الذي يخلصك من ربقة العبودية للخوف البشري الدائم .
فهل أبالغ إن طالبت ب(new
look
)روحي !
لا
يمكن للإنسان أن يستسيغ الكذب على نفسه بكل وقت ، وإلى النهاية ؛ فلحظات الضعف التي
تعتريه ، بعنف أحيانا ، تعري كل شيء ، وبقسوة . فمطربتنا مثلا تعلم علم اليقين أن
تلك التعاريج _ خاصة التي أثارت جنوننا _ بمرتفعاتها ، ومنخفضاتها مصنوعة صنعا قد
يودي بحياتها يوما ما . ولحظات الضعف تعري هذه الحقيقة ؛ فتهرب هي من رمضاء تلك
الحقيقة لتستظل بجنوننا نحن بها . ولعلي لا أغالي إن قلت أنها في قرارة نفسها تسخر
منا كيف نعظم ما ليس حقيقة ، على علمنا بذلك . ولعلها في أحيان أكثر تغضب من هذا
الجنون ؛ فهو يزيدها إقصاء عن حقيقتها التي تحن إليها مهما كانت ، فهي مرتبطة
بمرحلة من حياتها ، ربما _ أقول ربما _ كانت أروع مما تعيشه اليوم . لكنما لحظات
الضعف لا تلبث أن تزول أمام صخب الواقع ، فتحمل معها انتباهة الضمير ، وومضات
الحقيقة الحارقة ؛ لأنها حارقة !
لا
بأس في أن يسعى المرء للجمال ، دون أن يسيء لكيانه ، ويشوه هويته ، ويقطع أجزاءه .
ولا بأس في أن يحرص على أن يكون صحيح البدن ، حسن المظهر، لا مفرِط ، ولا مفرِّط .
ولا بأس في أن يبحث عن جمال داخلي ، لن يغادره مهما ذوى ، ومهما تطاولت السنون بعد
رحيله عن هذه الأرض . ثم لا بأس في أن يتذكر أنه ملك جمال إما بحكم سلف لمعيار سلف
، أو حكم سيأتي لمعيار سيأتي ، أو حكم متمرد على معيار حالي . وإن لم ، فليتذكر أنه
خلق في أحسن تقويم . وأقول له :
حسن
الحضارة مجلوب بتطرية وللبداوة حسن غير مجلوب
آه
ونص !
[1] اسم مستعار، لا يخص أحدا.