القدس: عاصمةُ (ظُلمِ) الفلسطينيين
عزيز العصا
بعيداً عن الغوص في التاريخ، وتجرع مرارته، وبنظرة إلى واقع القدس نجد أنها موشحة بسواد "التهويد" الذي أصبح يطال كل شئ: الساكن والمتحرك، لا بل الحضارة التي عمرتها عبر العصور. أما الإنسان؛ فحدث ولا حرج، فالهدف الذي يتم تنفيذه الآن، يركز على (إفراغ) القدس من أصحابها الفلسطينيين؛ مسلمين ومسيحيين، بعدة أساليب، آخرها عملية إقصائهم عن مقدساتهم وأماكن عبادتهم.
فالقدس في الجمعة الثانية من رمضان/ 1435هـ (11/7/2014م) اتشحت بسواد الجوْر والظلم؛ فشوارعها التي كانت، في مثل هذا الوقت، تعج بمئات الآلاف من المصلّين الفلسطينيين، أصبحت (كئيبة) من ندرة من يسيرون عليها، فقد حُرِم كل من هو تحت عمر "50" عاماً من أداء فريضة الصلاة فيها، أي أن المسموح لهم من الفلسطينيين بدخول (عاصمتهم الروحية والمدنية) يقل عن الـ 5% من مجموعهم في الضفة الغربية، ولضمان تنفيذ هذا الإجراء، قام الاحتلال بما يلي:
فرض القيود على المصلين، بدءاً من المعابر والحواجز العسكرية الثابتة، على مداخل المدينة المقدسة. أما في داخل القدس؛ فقد تم وضع الحواجز والمتاريس الشرطية في جميع الطرقات المؤدية إلى المسجد الأقصى المبارك، وانتشرت (بكثافة) عناصر الوحدات الخاصة التابعة للقطاعات العسكرية المختلفة من جيش الاحتلال وأجهزته الأمنية، راجلة ومحمولة وخيالة، حتى أن المنطقة بدت ساحة حرب حقيقية.
لم يكتفِ الاحتلال بذلك؛ بل قام بإغلاق العديد من بوابات المسجد الأقصى، وسيطر على كل من يدخل إليه و/أو يخرج منه، في أجواء من الذعر والرعب. حتى فِرَق الإسعاف والإنقاذ والمعالجة، منعها من الدخول لتأخذ دورها بين المصلين في هذه الأجواء الرمضانية-الصيفية الملتهبة. وقد شاهدت مجموعة منهم، وقد بدى عليهم الإعياء، لحرمانهم من الدخول بحجة الزي (الكشّافي) الذي يرتدونه، وما عليه من شعارات، وما لديهم من مواد وأدوت وأجهزة ومعدات خاصة بعملهم.
في هذه الأجواء؛ انخفض عدد المصلّين إلى ما دون الـ (5%) من العدد الطبيعي في مثل هذه الظروف والأوقات.
بينما كنت (مشدوهاً) من المشهد، وأفتش عن تفسيرٍ، حتى لو كان ساذجاً، لما يقوم به الاحتلال بحق شعبنا المتوجه، لعبادة ربّ السماوات والأرض، ورب مُوسى وَهارُونَ، وجدت الإجابة في مقال لـ "جدعون ليفي" (كاتب اسرائيلي) في صحيفة القدس لذلك اليوم، بعنوان: ما زرعته اسرائيل من ظلم تحصده الآن. وفي هذا المقال، الذي كتبه في أجواء هجومهم على غزة، يلفت "ليفي" نظر قيادته السياسة والعسكرية إلى أنهم "ظَلَمة" وأن ظلمهم وبطشهم قد تجاوز كل الحدود، ويضرب لذلك أمثلة متعددة، منها:
ما قام به (جيش) الاحتلال خلال الشهر الأخير؛ بأن ألقى جيشه رهبته على الضفة كلها بعملية بحث واعتقالات، طالت نحو (500) مدني فلسطيني، بينهم أعضاء من المجلس التشريعي وعشرات ممن أفرج عنهم بصفقات. ثم يهيّج حملة تحريض عنصرية، تفضي بإحراق فتى فلسطيني وهو حي.
خروج (اسرائيل) في حملة عقاب مضادة لمحاولة إنشاء حكومة وحدة فلسطينية، كان العالم مستعداً للاعتراف بها. بعد أن نكثت بالتزامها الافراج عن سجناء.
استمرار غزة في العيش أبدا في ظل (نزوات) اسرائيل؛ فإن شاءت أرخت الطوق قليلاً, وإن شاءت عززته حتى الألم. ثم يطرح "ليفي" سلسلة متتابعة من الأسئلة/ التساؤلات: أيستمر أكبر قفص في العالم على كونه قفصا؟ أيبقى مئات آلاف سكانها مقطوعين أبدا؟ أيُمنع التصدير من غزة ويحدد صيد السمك؟ وعلى أي شيء بالضبط يعيش مليون ونصف مليون من البشر؟ هل يستطيع أحد أن يقول لماذا يستمر الحصار ولو الجزئي لغزة دون أن يُطرح مستقبلها (البتة) للنقاش؟
أما بخصوص القدس، وما يجري فيها فإنني، كفلسطيني أكتوي بالاحتلال صباح مساء، أضيف إلى ما قاله "ليفي": إن ما ذُكِرَ أعلاه من حال القدس وأحواله يكاد يساوي (صفراً) مقارنة بما يمارسه الاحتلال، في القدس، من ظلمٍ "مرتعه وخيم"؛ فالأرض تهود بلاطة-بلاطة (ما فوقها وما تحتها)، وأهلها (يُهجّرون) بطرق مختلفة: الترهيب، التخويف، الإفقار، المنع من البناء (لا بالترميم ولا بالتجديد)، حتى أنهم لم يعودوا يأمنون على حياتهم ولا على حياة أطفالهم؛ فالشوارع والأزقة والحارات تحولت إلى (فخاخٍ-قاتلة) على أيدي المستوطنين؛ الذين استباحوا مساكن المقدسيين، وطردوهم منها شر طرد، عبر العقود السبعة الأخيرة من عمر الاحتلال. أما أماكن العبادة؛ فلم يعد ممكن الوصول إليها بسهولة ويسر، بل عبر بوابات الجنود وتحت بنادقهم المشرعة، دوماً، في وجه شعبنا.
أي أن ما يجري على الأرض الفلسطينية، من استباحة لحياة الإنسان وحريته وكرامته، لم تخلُ منه بقعة في هذا الوطن، فإلى جانب ما جرى من نتائج الحرب على غزة؛ التي حصدت مئات الشهداء وآلاف الجرحى، ومئات الآلاف من المشردين، فإن القدس، بجغرافيتها (المستباحة) وديموغرافيتها (الكئيبة-الحزينة)، لم تعد العاصمة الروحية للأمة فقط وإنما، أيضاً، هي عاصمةٌ للظلم الواقع على شعبنا، والوجع الذي ينتابنا على مدار الساعة.
هذا الواقع الذي يجيب "جدعون ليفي" على أسئلته المذكورة أعلاه، بقوله: أيقبل الفلسطينيون ذلك بتسليم وطاعة وسكون نفس ويبقى الأمن يسود في اسرائيل؟ هل يحدث كل ذلك وتقبل غزة ذلك بالتسليم؟ إن كل من كان يظن ذلك (ضلّ) في أوهامٍ خطيرة ندفع الآن جميعاً ثمنها.