ألمانيا وإسرائيل وعقدة مواجهة الهولوكوست المتسديمة

ألمانيا وإسرائيل وعقدة مواجهة

الهولوكوست المتسديمة

هشام منور

كاتب وباحث فلسطيني

[email protected]

على الرغم من كون ألمانيا الاتحادية واحدة من أهم الدول الداعمة والمؤيدة للكيان الصهيوني في العصر الراهن، وخاصة بعد انهيار الحكم النازي فيها إثر الحرب العالمية الثانية، وتشكيلها لواحد من أهم الخزانات البشرية للهجرة اليهودية إلى فلسطين في فترة ذروتها التاريخية، إلا أن العلاقات الألمانية الإسرائيلية ليست كنظيراتها الأوروبية الإسرائيلية الأخرى، رغم ما تبذله الحكومات الألمانية المتعاقبة من جهود "جبارة" لتصحيح الصورة النمطية عن الشعب الألماني، وتخليصه مما يسمى "بعقدة الذنب" الألمانية تجاه ممارسات الحكم النازي إزاء اليهود من خلال دفع مبالغ مالية خيالية للكيان الصهيوني، وكأن اليهود وحدهم هم من عانى من ويلات الحكم النازي الألماني وجرائمه دون غيره من الشعوب والأقليات الأخرى.

وقد حولت أهوال "الهولوكوست" فكرة تطبيع العلاقات بين ألمانيا و"إسرائيل" تبدو شبه مستحيلة من الناحية النفسية والعملية. لكن الدولتين نجحتا على الرغم من البدايات المتعثرة في إرساء نوعية من العلاقات المشوبة بالكثير من التوجس والاعتراض عليها من قبل الجماعات التي لا تزال تعيش أوهام الماضي.

ويبدو أن الإسرائيليين قد وعوا حاجة ألمانيا الملحة إلى تجاوز ماضيها القديم، فعملوا على "ابتزاز" هذه الحاجة سياسياً واقتصادياً، ولطالما لوح الصهاينة بورقة الماضي لجني ثمار الحاضر من ألمانيا، فالصهيوني المعروف (بن غوريون) يقول: "لا يجوز لنا أن ننسى ما حدث، لكن من ناحية أخرى لا ينبغي لنا أن نبني تصرفاتنا على ما حدث". فيما شكل خطاب الرئيس الألماني (هورست كولر) عام 2005 أمام الكنيست في إطار فعاليات احتفال البلدين بمرور أربعين عاماً على قيام العلاقات الدبلوماسية بينهما: "لا يمكن تطبيع العلاقات بين ألمانيا وإسرائيل،" صدمة كبيرة حينها على صعيد إمكانية تجاوز الماضي وآثاره بعد أكثر من أربعين سنة على إقامة العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين.

وعلى الرغم من العبء الثقيل لآثام الهولوكوست المزعومة على كاهل الطرفين، إلا أن أولى فرص التواصل والتطبيع لاحت أمام المستشار (كونراد أديناور) عن طريق تقديم تعويضات مادية. ومنذ 1952 قدمت ألمانيا 3,45 مليار مارك (1,22 مليار يورو) إلى دولة "إسرائيل" من أجل "تمهيد الطريق أمام نفوس الضحايا المعذبة لكي ترتاح من آلامها الفظيعة"، كما قال حينها المستشار الألماني (كونراد اديناور).

إلا أن قضية تقديم التعويض المالي ما تزال مثار خلاف حتى داخل "إسرائيل"، فالبعض يرى إلى الآن أن ما ارتكبه النظام النازي لا يمكن تعويضه بالمال في نزعة تصعيدية ابتزازية. إلى حد تصوير الأمر وتشبيهه بما كان سائداً لدى كثير من اليهود من أنه لا يمكن لكثير من اليهود تصور مصافحة أي شخص ألماني. بيد أول رئيس وزراء إسرائيلي (بن غوريون) ينسب إليه تمهيد الطريق أمام العلاقات بين الطرفين، ففي عام 1960 قابل (بن غوريون) المستشار الألماني (اديناور) في نيويورك. وبسبب التقارب مع ألمانيا تعرض (بن غوريون) لانتقادات داخلية حادة، فيما وجد (اديناور) نفسه في مواجهة ضغط الدول العربية الغاضبة من هذا التقارب.

وفي عام 1965، قررت ألمانيا و"إسرائيل" إقامة علاقات دبلوماسية بينهما. ووصف السفير الألماني الأول إلى "إسرائيل" (رولف باولس) القرار حينها بأنه "مبكر نسبياً". كما قوبل عند وصوله إلى بالاحتجاجات والمظاهرات. وبمرور السنين نشأت شبكة من الاتصالات عبر مؤسسات المجتمع المدني، ساهمت في الحفاظ على هذه العلاقات في أوقات الأزمات.

ونجحت إسرائيل في ممارسة الضغط الدائم على ألمانيا للوقوف معها دوماً في مواجهة أعدائها بحجة المحافظة على وجودها وأمنها، إلى حد اعتبار ذلك أحد أركان الدبلوماسية الألمانية الحديثة: "ألمانيا تتحمل مسؤولية خاصة تجاه دولة إسرائيل، تجعلها ملزمة بالدفاع عن وجود إسرائيل وحماية حقها في الوجود"، وفق تعبير وزير الخارجية الألماني السابق (شتاينماير).

ورغم كل هذه المساعي لنيل رضا الكيان الصهيوني، لم يرحب كافة أعضاء الكنيست عام 2008 بفكرة إلقاء المستشارة (ميركل) كلمتها أمام الكنيست باللغة الألمانية لحساسيتهم الشديدة من هذه اللغة على حد تعبيرهم، على الرغم من أن معظم النواب صفق طويلاً للكلمة التي ألقتها المستشارة بمناسبة الذكرى الستين لنشأة إسرائيل، وأكدت فيها أن ألمانيا ستقف دائماً إلى جانب "إسرائيل" مهما كلفها الأمر، ويبدو أن اللهاث الألماني وراء مسح صورة الماضي من خلال استجداء رضا الكيان الصهيوني لن ينجح في "التخفيف" من معاناة الألمان تجاه تاريخهم، كما لن تنجح بالمقابل في كسب ود اليهود في الكيان الصهيوني.