الإسلام وتهذيب العقل السياسي عند العرب 1
الإسلام وتهذيب العقل السياسي عند العرب
رمضان
عمر
رئيس رابطة أدباء بيت المقدس / فلسطين
كان العرب – كما قيل عنهم - شعوبا وقبائل متناحرة، لم يخلفوا حضارة غير حضارة الكلِم .. ومنطقا غير منطق السطو والفظاظة ، وان احتمل هذا شيئا من الانفة والعزة والشهامة والكرم ، الا انها كانت عنجهية قبلية ، مقتها الاسلام، وقال في حقها الرسول _صلى الله عليه وسلم - : "دعوها فانها ممتنة" و" من دعا الى عصبية فليس مني " اما من الناحية السياسية فلم يستطع العرب ان يشكلوا كيانا سياسيا حضاري المعالم ، وبقي النمط البدائي القائم على نظام قبلي كنتوني معزول هو الكيان او الشكل الوحيد لاستقرارهم ، وبقيت علاقاتهم الخارجية تابعة للفرس او الروم خوفا ورهبا . هذه هي المثالية الاخلاقية ، والنمطية الاجتماعية ، والحياة السياسية التي مثلت العرب في جاهليتهم ، تلك الجاهلية التي ارتبطت عقائديا في عبادة الاصنام ، واجتماعيا في العصبية القبلية، وسياسيا بالتبعية للشرق او الغرب . وقد تمثلت هذه الفظاظة الفكرية والبعد عن العقلية الحضارية في قول الله عن الاعراب: الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
فما ان لامس الهدي الرباني قلوبهم حتى سمت ارواحهم سموا ملائكيا ، واشبعت عقولهم فهما عبقريا ، وصاروا كما اراد الله لهم :
" كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله"
وبدأت المنهجية الفكرية في عقليتهم تبحث- لها - عن شكل حضاري في التمثل السياسي والحكم ؛ حيث قام صاحب الدعوة الاول ، وزعيم الحركة الاسلامية الناشئة محمد بن عبد الله - عليه افضل الصلا ة والسلام- بالبحث عن بقعة جغرافية يحكم فيها شرع الله، لتصبح بؤرة انطلاق لنشر الفكرة وتوسيع الرقعة الجغرافية لمنهج الاسلام السياسي وما ان فتحت له المدينة اذرعها واحضانها حتى بدأت رسائله السياسية ، ونشاطه الاستراتيجي، تتشكل في رؤية جديدة لم يعهدها العرب من قبل ؛ فعمل على وضع اسس التعايش بين الاطياف السياسية والعقيدية المتعددة في المدينة ، واوفد الرسل الى الفرس والروم وغيرهم لبلغوا رسالة الاسلام الخالدة ، واعد العدة ليزحف جند الاسلام الفاتحين لتوسيع رقعة الامارة الاسلامية الناشئة في المدينة ، وبقي عل هذا النهج حتى دانت له ارض الجزيرة وما حولها ، : ليكتمل بذلك المشروع الاسلامي في هيكليته الاولية ويتنزل الخطاب القرأني متوجا هذه المرحلة الاستراتيجية بقوله : " اليوم اكملت لكم دينكم واتممت نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا "
وسن فيه سلف الامة معيار الهدى والصلاح فقال قائلهم : " نحن قوم اعزنا الله بالاسلام فان ابتغينا العزة بغيره اذلنا الله ، وجرت فيهم سنة السلف .. فسادوا وقادوا حيثما التزموا دينهم وحافظوا عليه ، واستعبدوا وهانوا كلما تولوا عنه معرضين ، وكان التنبيه الرباني واضحا في شيء من المنة والتفضل عليكم :"
" واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً ".
فلم يتوحد العرب الا في ظل راية الاسلام الخالدة ، ولم ينتصروا على غيرهم الا بمنهج الله القويم ... وبدات تتشكل في واقعهم الحضاري رؤية سياسية شاملة دانت لها العرب والعجم ، وساحت خيولهم في الارض تطوي البطاح طيا ، وتلحق الامصار بحاضرة الخلافة وفق قاعدة بسيطة " ان الحكم الا لله ،"
وتحولت العقلية القبلية التي كانت في عرف الغرب والشرق عقلية همجية الى عقلية ابداعية ، فبينما كان منطق العربي في حد فهم اعدائهم :
· إنهم متنابذون يغزون بعضهم بعضا.
· مقاتلون يقاتلون غيرهم كما يقاتلون بعضهم بعضاً، فواحدهم "يده على الكل، ويد الكل عليه".
· يغيرون على القوافل فيسلبونها ويأخذون أصحابها اسرى، يبيعونهم في أسواق النخاسة، أو يسترقونهم فيتخذونهم خدماً ورقيقاً يقومون بما يؤمرون به من أعمال
كما جاء في التوراة
أو :
" إن العربي الذي يعد مثلاً أو نموذجاً، ماديّ، ينظر إلى الأشياء نظرة مادية وضيعة، ولا يقومها إلا بحسب ما تنتج من نفع، يتملك الطمع مشاعره، وليس لديه مجال للخيال ولا للعواطف، لا يميل كثيراً إلى دين، ولا يكترث بشيء إلا بقدر ما ينتجه من فائدة عملية، يملؤه الشعور بكرامته الشخصية حتى ليثور على كل شكل من أشكال السلطة، وحتى ليتوقع منه سيد قبيلته و قائده في الحروب الحسد والبغض والخيانة من أول يوم اختير للسيادة عليه ولو كان صديقاً حميما له من قبل، ممن أحسن إليه كان موضع نقمته، لأن الإحسان يثير فيه شعوراً بالخضوع وضعف المنزلة وأن عليه واجباً لمن أحسن"
كما عند متاخري المستشرقين ، فان التاريخ الحضاري لهم يثبت انهم_ بالاسلام _ قوم جاءوا لاخراج العباد من عبادة العباد الى عبادة رب العباد ، ومن جور الاديان الى عدل الاسلام ، ومن ضيق الدنيا الى سعة الدنيا والاخرى ؟ فكان لهم ما ارادوا ، وتحققت على ايديهم اعنف القفزات الحضارية في التاريخ وظللهم الغمام السرمدي حيث خاطبه الرشيد قائلا " امطري حيث شئت فان خراجك عائد الي .
هكذا نرى ان العلاقة بين الواقع العربي السياسي والاسلام علاقة طردية تكاملية ؛ فكلما تمثلت العقلية السياسية العربية المنهج الرباني في الحكم والسياسة حققت نتائجها المرجوة ، ووصلت الى غاياتها المنشودة ، وقهرت عدوها وظهرت عليه . وكلما تنكرت لدينها ، واغفلت منهج نبيها تناوشتها الذئاب من كل حد وصوب ، وتناقصت اطراف رقعتها الجغرافية وتجزأت وتقسمت على شكل دويلات قبلية ، تحكم بمنطق دكتاتوري جاهلي بئيس .
وهذا هو واقعها اليوم، بعد ان اشترت الضلالة بالهدى ، واتبعت سنن اعدائها حذو القذة بالقذة الى ان دخلت معها الى جحور الظلام، وغياهب الضياع ، ظنا منها بان الراسمالية الغربية، او الاشتراكية الشرقية ستحقق لها امالها في الامن والاستقرار ، لكنها لم تجن ولن تجني بغير الاسلام الا مرا علقما ، وقاعا صفصفا ؛ فهذه فلسطين ، الدرة المكنونة ، تندب حظها ، وتصرخ مآذنها ، وتلك العراق ، عراق دجلة والفرات، عراق الرشيد والمأمون، نكئت جراحها ، وسال فراتها دما قانيا ، ولم تسلم دول الخليج مما اصاب بلاد الشام من كوارث؛ فقد تحول الخليج بمائه وترابه الى محميات امريكية ، تعيث في الارض الفساد ، وتنتهك حقوق العباد والبلاد فتهيمن على الطاقة الاقتصادية الجبارة في المنطقة ، وتثير الضغائن والاحقاد بين الدول؛ فيتفتت النظام العربي الواحد الى نظم متناحرة ، تذكرنا بالجاهلية الجهلاء.... بداحس والغبراء .
هذه العقلية العربية السياسية التي تاتمر اليوم بامر امريكيا ، وتخضع لارادتها لا تمثل المنطق الاسلامي في التسيس ، وبناء الدولة ؛ فالاسلام يرفض الولاء للغرب (لليهود او النصارى) ونصه في ذلك نص قاطع قال تعالى : " يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض" ؛ فالعقلية السياسية التي تتبع او تقبل منطق التبعية لاعداء الامة لا تمثل الاسلام في شيء ، ولا تنوب عن فكر الامة في تصدير حقيقة الرؤية الحضارية للمنهج الاسلامي القويم في الفكر السياسي ، الذي انتصر قرونا طويلة في ظل خلافة اسلامية عمرت ما ينيف عن ثلاثة عشر قرنا .
هذه العقلية السياسية الاسلامية تنفر من العصبية الاقليمية المقيتة ، ولا تؤمن ابدا بالدولة القطرية ، بل تقسم الارض جغرافيا الى منطقتين:
· دار اسلام
· ودار كفر
اما حدودها الجغرافية فهي حدود الفكر والعقيدة ، ومن هنا قال شاعرهم :
انا عالمي ليس لي ارض اسميها بلاد
فكما ان ملة الكفر واحدة في االمفهوم الفلسفي للرؤية السياسية الاسلامية، فإن امة الاسلام واحدة
قال تعالى : " وان هذه امتكم امة واحدة وانا ربكم فاعبدون "
وبناء عليه ، تصبح قراءة الواقع السياسي الذي تعيشه الامة محتاجة الى نوع من التاصيل الشرعي ، والفتيا السياسية الشرعية في جوهر النشاط السياسي ، ووضع حد للتلاعب بولاءات الامة وجرها الى الردة والهلاك .
ونستطيع - هنا - ان نقول بكل جرأة : ان محاولة البعض النظر الى قضايا الامة على انها قضايا خاصة بشعوب بعينها، كالقضية الفلسطينية ، او العراقية، او الافغانية ، تعتبر قفزا على ابجديات التصور السياسي الاسلامي ، ومخالفة للنهج الرباني التي تستدعي نوعا من الوعيد والتهديد كما في قوله تعالى : " وليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم"
وعلى هذا الاساس؛ فان الحديث - مثلا - عن الامن القومي المصري- تحت ذريعة حماية الحدود التي زرعها الاستعمار، وابقائها مغلقة امام المرضى والجرحى والجوعى مساوقة للمحتل في حصاره الغاشم- يشكل نقضا واضحا لعرى الاسلام ، وكيف لا يكون كذذلك والرسول- صلى الله عليه وسلم- يقول : " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الاعضاء بالصهر والحمى "
لا يعقل ان يغلق معبر رفح الحدودي مع مصر طيلة ايام العام على الفلسطينين الضعفاء المحاصرين بينما يتدفق الغاز الطبيعي مجانا الى تل ابيب صباح مساء
هذا المنطق السياسي لا يقع_ ضمن فهمنا
للاسلام _ في دائرة الرؤية الواقعية السياسية او المصالح المرسلة المبنية على
العلاقات الثنائية وفق احترام متبادل فرضته اتفاقات ومعاهدات سلمية او غيرها وانما
يقع في دائرة المخالفة الشرعية والنقوص عن نصرة الحق والموالاة الصريحة لليهود
والنصارى واعانة الكفار على اخوة العقيدة فهذه مسألة فيها اجماع فقهي فقد قال شيخ
الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله (ت 1206) في نواقض الإسلام:
(الناقض
الثامن : مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين ، والدليل : قوله تعالى ( وَمَنْ
يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ)).
·
وقال العلامة ابن حزم رحمه الله ( ت 456 ) في (المحلى 5
/ 419) : (قال
تعالى : )وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ
مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ
رِبَاطِ الْخَيْلِ
تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ )(الأنفال: من
الآية60)
، ففرض علينا إرهابهم , ومن أعانهم بما يحمل إليهم فلم يرهبهم ; بل
أعانهم
على الإثم والعدوان
>
وما يقال في القضية الفلسطينية ينطبق ايضا على قضايا شبيهة كالعراق وافغانستان ، فلا خيار امام الدول المحيطة بالعراق وافغانستان وفلسطين الا نصرة المقاومة بالسلاح والمال استجابة لقول الله سبحانه وتعالى :" “يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون. واتقوا فتنة لا تصيبين الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب”.
نعم الخيار السياسي لنظام من الانظمة هو بحد ذاته رؤية عقدية تحدد هوية هذا النظام قربا او بعدا عن منهج الله وحكمه، والقول في هذه القضية لا خلاف فيه ، ولا مجال للاجتهاد فيه ايضا ، ففي الحديث " وأنا آمركم بخمس الله أمرني بهن السمع والطاعة والجهاد والهجرة والجماعة فإنه من فارق الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثي جهنم)) قيل يا رسول الله وإن صلى وصام؟ قال ((وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم "
فان كانت مجرد المخالفة قد استدعت هذا الطرد والخلع، فكيف بمن يعين الامريكان والصهاينة على قتل المستضعفين وتشريدهم من ارضهم !!اكثر من ستة مليون فلسطيني وتسعة مليون عراقي قد شردوا من ارضهم .
الاسلام دين واحد لا تعدد مشاربه، ولا تتغير فلسفاته وابجدياته وفقا لهوى سلطان هنا او هناك، فابن مسعود حدد مفهوم الجماعة في فقه الاسلام السياسي قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في الباب العاشر من كتابه إغاثة اللهفان : (في علامات مرض القلب وصحته): "قال عمرو بن ميمون الأودي : [صحبت معاذاً بـاليمن ، فما فارقته حتى واريته في التراب بـالشام ، ثم صحبت بعده أفقه الناس ؛ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ فسمعته يقول: عليكم بالجماعة، فإن يد الله على الجماعة، ثم سمعته يوماً من الأيام وهو يقول: سيلي عليكم ولاة يؤخرون الصلاة عن مواقيتها، فصلوا الصلاة لميقاتها، فهي الفريضة وصلوا معهم، فإنها لكم نافلة، قال: قلت: يا أصحاب محمد! ما أدري ما تحدثونا، قال: وما ذاك؟ قلت: تأمرني بالجماعة وتحضني عليها، ثم تقول: صلِّ الصلاة وحدك، وهي الفريضة، وصلِّ مع الجماعة، وهي نافلة؟! قال: يا عمرو بن ميمون ، قد كنت أظنك من أفقه أهل هذه القرية، تدري ما الجماعة؟ قلت: لا، قال: إن جمهور الجماعة الذين فارقوا الجماعة! الجماعة ما وافق الحق وإن كنت وحدك : "
" فلا مجال لتحريف النص القاطع في ادبيات الفقه السياسي - حتى وان صور المنبطحون انبطاحهم على انه ينبعث من سماحة الاسلام ولين جانبه- فليعودوا اذا الى تاريخ صاحب الدعوة الاول ، وليتناولوا فقه سيرته العطرة بتأن ، وليقفوا على تفاصيل الاحداث ومنطقه عليه السلام في التعامل معها ، ثم ليعرجوا على خلفه ابي بكر فعمر فعثمان فعلي ؛ ليدركوا ان الاسلام دين واحد لا تتغير احكامه ، ولا تتبدل ؛ فهذا ابو بكر الصديق - رضي الله عنه - يصرخ في وجه الناس بكل عزة وعزيمة : لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه لرسول الله لقاتلتهم عليه ثم يوفد بعث اسامة تنفيذا لامر المصطفى -صلى الله عليه وسلم -و يقول:" والذي لا إله غيره، لو جرت الكلاب بأرجل أزواج رسول الله، ما رددت جيشًا وجَّهه رسول الله،
هذا هو فقه الخلفاء السياسي، في قضايا الولاء والبراء، فمن له الاحقية في الاتباع أصحاب رسول الله ام اصحاب المرت وبوش.