سنار مدينة بلا ملامح
سليمان عبد الله حمد
كثير من الكلمات والعبارات مثلها مثل الاماكن تبقى حية متقدة فى الذاكرة وفى الوجدان لفترات تطول وتقصرويجترذكراها الناس من حين لآخرمهما تقادم عليها الزمن .وبطبيعة الحال تختلف اسباب بقائها واختفائها من شخص لآخرتزامنا مع ظروف سماعها او العيش فيها (ان كانت من الامكنة ذات السحروالجمال) ومدى ما تحدثه من تاثيرآنى او مستقبلى(حالة كونها عبارات) على احاسيس ومشاعرسامعيها ووجدان متلقييها فضلاعن شخصية وموقع المتحدث فى نفس السامع.
سبع نساء تقريباً، هبطن من عربة اللوري الكائن في هيكل (باص) بمجرد توقفها أمام - المبنى المسمى عبطاً - الفندق وسط مدينة سنار!! النساء يتأبطن عدد من (الجركانات) و(الجوالين) الصغيرة مليئة باللبن غير المتفق على جودته لاحتمال إضافة قليل أو كثير من الماء إليه، وهذه عادة منتشرة بين بائعيه من الجنسين هنا في سنار، كما في الخرطوم وبقية القرى والمدن الأخرى منذ قديم الزمان حتى ألفها البائع والمشتري رغم عدم نزاهتها!!
منظر بائعات اللبن يتجولن في سوق المدينة ذائعة الصيت يجعل لا فرق بينها وبين قرية نائية يقطنها رعاة يعيشون على تربية الحيوانات الأليفة والداجنة في الأصقاع.
مدينة بلا ملامح
قال زميلي الذي كان يرافقني مستنكراً
مظاهر ترييف المدينة، ليست هذه سنار عاصمة أول دولة إسلامية في السودان، هذه قرية
فقط لا تشبه المدينة ولا تدانيها في شيء، وإما المدينة الحقيقية فلم يبق منها شيء
غير اسمها الذي لا زال صداه يتردد في الآفاق!!
لا معمار ولا أسواق ولا بهجة على
الوجوه، الكل يقابلك بتجهم ويأس، الباعة المتجولون في كل مكان على الأرصفة، بائعات
الطعام يفترشن الأرض ويلتحفن السماء، الحياة تتوقف والمدينة تختنق عندما يغلق جسر
الخزان بعد الحادية عشرة صباحاً.
أبواق سيارات وصهيل الخيول!
رغم أن الأشجار تغطي مساحات واسعة داخلها، إلا أن شوارعها تآكلت بفعل العوامل الطبيعية وحوافر الدواب وإطارات السيارات التي تجوبها ليلاً ونهاراً، ولهذا أصبحت مدينة سنار جثةً ميئوساً من إخراجها من تحت الأنقاض، ويستعصي دفنها في ذات المكان، ولهذا لا حل غير محاولة انتشالها التي تحتاج لمجهود وعزيمة.
اختفت الملامح القديمة لسنار فترهل جسدها كثيراً بفعل البنايات المشوهة التي أقيمت على عجل من أجل زيادة الربط المادي، وكذلك الامتدادات السكنية غير المدروسة التي أخفت ما تبقى من رونق وبهاء المدينة القديمة التي لم يتبق منها شيء غير رائحة التاريخ المنبعثة من الأزقة العتيقة التي تدل على أنها كانت في يوماً ما تعج بالحياة، لكنها بلغت سن الشيخوخة والخرف تقريباً، ولهذا بدأت رائحة كآبة موتها تشم من بعيد وتهاوت كل ملامح جمالها كالورق اليابس. بعد إفساد ملامحها القديمة اكتظت طرقاتها باللواري والحافلات الخربة، والخيول غير الجامحة والحمير التي تجر الأحمال، وقليل من النياق وآلاف القرويين الذين يزحمون الطرقات دون هدئ أو وجهة.
وبهذا يمكن الجزم وبيقين لا يخالطه الشك
أن مدينة سنار لم يتبق من رونقها القديم، إلا اسمها الذي اقترن بتاريخها الضارب
بعمق في غابر السنوات، خاصة في الحقبة ما بين (1504- 1821م) حيث كانت سنار عاصمة
لأول وأعرق مملكة إسلامية قامت في شمال أفريقيا وشيدت لها رواقاً في الأزهر
والمدينة المنورة.
زحام بلا روح وبعودة لسيرة
المدينة التاريخية، نجد إنها كانت من قلائل المدن التي وجدت رواجاً نادراً حيث كانت
مركزاً تجاريا يأتيه التجار من أصقاع وبلدان نائية، إلا أن تلك الأسواق التي كان
يؤمها التجار والمشترون لم يتبق لها أثر وحلت مكانها أسواق فاسدة تباع فيها سلع
نتنة ورخيصة يعرضها باعة صغار في السن والخبرة بشكل مثير للإشفاق أكثر منه جاذباً
للمشترين.
خطوات قليلة في شوارع سنار تؤكد
أنها أصبحت قرية كبيرة تهيم فيها الوجوه المتعبة والسيارات المتهالكة على طرقات
التي فقدت كل عوامل الصلاحية منذ عقود مضت ولا زال الأمل مفقوداً في تعميرها، ولكن
كل حجر فيها يكاد يعلن احتضاره من بؤسها ونذالتها البائنة بوضوح.
آمال على شرفة الجسر!
لا أمل في إعادة الحياة للمدينة التي أفسدتها الأفكار العقيمة غير اكتمال الجسر الذي يقال إن أخطاءً كثيرة صاحبت تنفيذه كادت أن تؤجل قيامه لسنوات أخرى رغم الحاجة الملحة إليه.
وبسبب قيام الجسر الذي تأخر كثيراً بدأت
الانتعاش يعود لجسد المدينة التي لا يمكن لها أن تتعافى إلا إذا تم إبعاد كل العقول
التي ساهمت فى عللها المتعددة. ولكن قيام الجسر فتح شهية هوس توسع الأسواق والأحياء
وبحسب أحد المسؤولين أن هنالك خطة لقيام سوق جديد شمال السوق الشعبي على طراز عالمي.
وعالمي هذه، قالها بنفسه، وأصر
عليها بجرأة حتى بعد اعتراض شديد على إقحامها في تلك الورطة، لأن المدينة نفسها لم
تكن تصلح للعالمية، فحالها يقرب للشفقة والرأفة عليها من صعود منصة العالمية ...
سنار التي كانت...!
عشت في سنار طالبا في السبعينات وبعد ما غدرتها عدت اليها موظفا في الثمانينات لعام واحد فقط ثم غادرتها ولم اعد اليها حتى اليوم ولكن كانت سنار مدينة ريفية جميلة تعج بحركة الناس والباصات والقطارات واللواري على مدار الساعة كان يؤمها الناس من جميع الانحاء المجاورة لغرض التسوق والعلاج والعمل والعبور في السفر كما تأتيها الرحلات المدرسية ليس فقط من داخل السودان ولكن حتى من الدول المجاورة. كانت سنار الثانوية عبارة عن جامعة قبل ما تصير جامعة في سنين الانقاذ فقد كان يؤتى لها بالطلاب المتفوقون من جميع انحاء السودان ويتم اسكانهم في اربعة داخليات هي "تكتوك" و"بادي" و"جماع" و"عمارة" بالاضافة الى طلبة سنار وهم يسكونون خارج الداخليات. سنار الثانوية كان لديها عدد 12 ميدان رياضي وتتبع لها كل المساحة الواقعة خلف المدرسة حتى قرية كبوش وكل الميادين مجهزة لاستضافة تمارين ومباريات كرة القدم. زار المدينة مجموعة من الطلاب الكينيين وبعضهم من جزر القمر في رحلة مدرسية ونزلوا معنا في الداخليات وقد احسنا وفادتهم فشاركانهم طعامنا ووفرنا لهم اسرة للنوم وقد تبادلنا معهم الكثير من الاحاديث المفيدة وكان اشد ما شدهم الى مدينة سنار هي النظافة والترتيب الجميل للإحياء السكنية وبحيرة الخزان وقرية الجنينة وطيبة الناس ولكن اشد ما راعهم هي كثرة المواد التي كنا ندرسها ومنها اربع مواد اجبارية يشترط النجاح فيها لدخول الجامعة وثلاث مواد اضافية وتصل بالفروع الى 12 مادة فقالوا لنا انتم تنجحون ولكن لا تتفوقون إلا بعدد قليل لأن المواد الدراسية كثيرة جدا عليكم ونحن نمتحن فقط في 3 مواد
اما مدينة سنار نفسها فقد كانت نظيفة بمعنى الكلمة نظيفة في الشوارع ونظيفة في المباني ونظيفة في مظاهر واخلاق الناس. سينما سنار كانت تتوسط المدينة وهي بالقرب من السوق الذي يشتمل على دكاكين للقماش يديرها المواطنيون وبعض التجار الاغاريق واذكر منهم السيد جوزيف متياس وهناك صفوف المطاعم وسوق الخضار وسوق الجزارين والموردة في شاطئ النيل وسوق البهارات وبعض الاكشاك لبائعات الشاي وكل المنطقة كانت نظيفة فلا وجود لعربات الكارو إلا القليل وكان موقف التاكسي بجوار السينما وايضا موقف سنار التقاطع حيث تجد عربات التاكسي باللون الازرق وكان اصحابها يهتمون بنظافتها وطلاءها بصورة دائمة فتبدو كالجديدة رغم ان بعضها من موديلات الستينات. سوق الماشية كان في الناحية اليسرى لشارع الخزان بالقرب من مكتب البريد والهاتف ورغم ان المكان مخصص لبيع الماشية إلا انه نظيف حتى لا تكاد تلمس اثر للماشية في المساء......
حديقة القرشي كانت في ابهى صورها مخضرة مزهرة مفروشة بالنجيلة الرطبة واشجار الفايكس والجهنمية تحيط بها من كل الجوانب في منظر رائع تلقي بظلالها بعد الظهيرة فتجد الناس جالسين فرادى وجماعات في انسجام وتناغم مع الطبيعة. اما محطة السكة حديد فهي عبارة عن سودان مصغر يلتقى فيها كل اهل السودان من الشرق والغرب والجنوب كل في وجهته والمباني فيها جميلة ومرتبة ونظيفة رغم الحركة الدؤوبة التي لا تتوقف لا في الليل ولا النهار. مستشفى سنار كان من اعظم مستشفيات الاقليم الاوسط القديم الذي يمتد من مدينة واد مدني حتى الروصيرص والكرمك والدمازين فقد كان بمستوى المستشفى الجامعي الذي نسمع عنه اليوم يأتيه اطباء الامتياز خريجي جامعة الخرطوم وجامعة الجزيرة فيحتكون بخبرات طبية سودانية درست في لندن وموسكو وواشنطن, دكاترة كبار عملوا في مستشفى سنار وعالجوا كل اهل السودان في نفس المستشفى النظيف المرتب الجميل في كل شئ.
نضر الله وجه سنار واعادها لسيرتها القديمة