لماذا الشيخ القرضاوي؟!
لماذا الشيخ القرضاوي؟!
محمد عبد الشافي القوصي
سألني أحد الأعراب: لماذا لا تتوقف عن الكتابة عن الدكتور/ يوسف القرضاوي؟!
قلتُ: لقد سألني الناس -قبل عشرين عاماً- لماذا لا تكتب لنا عن الدكتور/ القرضاوي؟ وفي تقديري؛ أنَّ السؤال الأول أوجه من السؤال الثاني! لأنَّ الكتابة عن آراء الشيخ القرضاوي، وفقهه؛ فرض عيْن على أمثالي!
فالشيخ/ القرضاوي أعلم الناس وأوفاهم للشيخ/ محمد الغزالي، كما أنَّ الغزالي كان أكثر الناس استلهاماً، وإعجاباً، بعباس العقاد، والعقاد هو أعظم من أنجبتْ مدرسة الإمام/ محمد عبده –رضيَ الله عنهم، ونضَّر وجوههم أجمعين.
إنه منذ عهدٍ بعيد؛ نذرتُ نفسي، وأجمعتُ أمري، وحشدتُ طاقتي، وأخرجتُ جعبتي، وأمسكتُ رمحي، وسللتُ سيفي؛ منافحاً عن مدرسة الإسلام العليا (مدرسة الوسطية) التي أنجبت هؤلاء الأساتذة العظام، والأئمة الكرام (عباقرة القرن العشرين)!
أجل! إنني أمين هذه المدرسة العظيمة، وحارس لتراثها، ومنافح عن معتقداتها، وراعي لقيمها، وفارس من فرسانها، ومتحدثٌ باسمها ...!
وأُقسِمُ -غير حانث- أنني أعرفُ كل كلمة كتبها هؤلاء العباقرة في أيّ كتاب تكون؟ وفي أيّ سطرٍ تقع .. وما هي دلالاتها، ومراميها؟
ولوْ تجرأ (علمانيٌّ أوْ يساريٌّ أوْ ماركسيٌّ، أوْ علج من علوج السلفية، أوْ وغد من أوغاد الوهابية، أوْ حاكم أوْ محكوم) أوْ مَن سوَّلتْ له نفسه؛ أنْ يقترب من هؤلاء الأعلام الأربعة؛ لأُحرِّقنَّه، ثمَّ لأنسفنَّه في اليم نسفا ... وسأجعله نكالا، وسأجعله مضحكةً للعالمين، وعِبرةً للمعتبرين، ومثلاً للآخرين ... وويلٌ للمكذِّبين!!
الحقَّ أقول: إنه على الرغم من انتمائي لهذه المدرسة الفذَّة قلباً وقالباً، ومنهجاً وسلوكاً؛ إلاَّ أنني لا أجد مانعاً في مخالفتي لمسألة من المسائل، أوْ مقولة من المقولات؛ وردتْ على لسان أحدهم، أوْ خطها قلمه ... فقد تعلمنا من هؤلاء العباقرة؛ إعمال العقل، وإعادة النظر، ومجافاة التقليد، ومحاربة الجمود، والثورة على العادات والخرافات والأوهام!
* * *
يقول أهل الحل والعقد: إنَّ الشيخ/ يوسف القرضاوي- أكثر الأزهريين تأليفاً، وأغزرهم علماً، وأكثرهم انتشاراً، وأرحبهم أُفقاً، وأنضجهم تجربة، وأشدّهم امتحاناً ... فقد اجتمعتْ فيه شخصيات كثيرة؛ أمثال: ابن حجر، والسيوطي، والشرقاوي، وحسن العطار، وحسونة النواوي، ورشيد رضا، والمراغي، ومصطفى عبد الرازق، وعبد الرحمن تاج، وشلتوت، وحسنين مخلوف، وجاد الحق، وعبد الحميد كشك، وعطية صقر، وغيرهم ممن رضيَ الله عنهم، ورضوا عنه).
وإنَّ مكتبةً تخلو من مؤلفات الشيخ/ القرضاوي وروائعه- لهيَ مكتبة فقيرة جداً، بلْ هي مكتبة شاحبة جداً جدا، بلْ هي مكتبة بائسة، تصلح لأنْ تسمَّى وكراً من أوكار الوهابية المظلمة!
* * *
(حكاية) في حقبة التسعينيات؛ ألقى الشيخ/ الغزالي- محاضرةً عصماء في نقابة الأطباء بالقاهرة، وقد وصلتْ إليه مئات الرسائل ذات المسائل الفقية والعلمية، فقال –بتواضعٍ شديد-: الشيخ القرضاوي، تلميذي، وهو أفقه مني، وسأتركه كيْ يجيب عن هذه التساؤلات!!
(حكاية) ذات مرة؛ اعتذرتُ للشيخ القرضاوي عن تأخري عن موعد ما، فتبسَّم وقال: يا ولدي؛ استيقظ مبكراً،، كيْ تستنشق الهواء النقيّ؛ قبل أنْ تلوِّثه أنفاس العصاة!
(حكاية) قلتُ للشيخ: غلمان الوهابية لمْ يعجبهم كتابك "الحلال والحرام في الإسلام" ويسمُّونه "الحلال والحلال"! فهزَّ رأسه، وقال: لا مانع، أنا ألَّفتُ "الحلال والحلال" فليذهبوا ويؤلِّفوا "الحرام والحرام" ويحرِّموا كل شيء على العباد!!
(حكاية) سأل أحد الصحفيين الشيخ، قائلاً: يا مولانا، سمعنا أنَّ "التدخين" ليس حراماً، ولكنه مكروه فقط! فضحك الشيخ، وقال: يا هذا؛ كمْ مكروهٍ تأتيه في اليوم، وتزعم أنك مؤمن بالله ورسالاته!
* * *
سألتُ الشيخ/ القرضاوي: كيف يتصور قيام حكم إسلامي راشد؟ فأجاب: يكون ذلك بأحد طريقيْن: إمَّا أن ينتقل الإيمان إلى قلوب الحاكمين، وإمَّا أن ينتقل الحكم إلى أيدي المؤمنين.
ولوْ أن الإيمان يسهل انتقاله إلى قلب الحاكمين بالفعل، لاختصرت الطريق اختصارا، وكفى الله المؤمنين القتال. ولكن يبدو أن هذا ليس أكثر من حلم لذيذ، فإنَّ من شبَّ عليه مات عليه. وهؤلاء الحكام قد شبوا وشاخوا على العلمانية، وتتلمذوا صغاراً وكباراً على الفكر الغربي بشقيْه، فهيهات أن يولُّوا وجوههم شطر غيره.
فلمْ يبقَ إلاَّ الشق الثاني، وهو أن ينتقل الحكم إلى أيدي المؤمنين، أيدي الجيل المسلم، الذي ينبغي عليه الاستمرار في حمل الدعوة والعمل الدءوب على نشرها وكسب الأنصار والجنود لها.
* * *
يقول العلاَّمة/ القرضاوي عن الشيخ/ محمد الغزالي –قدَّس الله سِرَّه-: (عندما اعتقلنا في سجن الطور، ووزعونا في العنابر، كنا أول ما فكرنا فيه إنشاء مسجداً، فاختير له الشيخ محمد الغزالي إماماً، فقد منّ الله عليَّ أنْ كنتُ معه في تلك الفترة، وأن يكون هو إمامنا في كل الصلوات، وقد كان في بداية الثانية والثلاثين من عمره، وكان يتوقد ذكاءً وفتوة وغيرة وعزيمة. وأذكر أننا عندما كنا في المعتقل، كانوا يقدمون لنا أطعمة رديئة جداً .. فخطب الشيخ الغزالي خطبة الجمعة، ثم قاد المعتقلين في مظاهرة، تطالب بحقوقهم المنهوبة، وتشهِّر باللصوص الذين يتاجرون بأطعمة المعتقلين، وهتف الشيخ الغزالي، ورددنا وراءه: تسقط اللصوصية المنظمة، تسقط سياسة التجويع. ولمْ تنتهِ تلك المظاهرة حتى جاء قائد المعتقل، وفاوض الشيخ الغزالي، واتفقوا على أن تتخلى قيادة المعتقل عن التصرف في الأشياء المصروفة لنا، وتسلمها إلينا "عينية" ونتولى نحن طهيها وتوزيعها بأنفسنا! وكان الشيخ محمد الغزالي محباً للأدب ومتذوقاً للشعر، فكان يمر على العنابر في السجن، ويقول:
يا نائماً مستغرقاً في المنام
قم فاذكر الحيّ الذي لا ينام
مولاك يدعوك إلى ذِكره
وأنت مشغول بطيب المنام!
وحين نسمع صوته ننهض من نومنا، لنتوضأ ونصلي وراءه، واعتاد الشيخ أن يقنت بعد القيام من ركوع الركعة الأخيرة، لاسيما من الصلوات الجهرية، قنوت النوازل، وكان قنوت الشيخ مختصراً جامعاً، يقول: اللهمّ افكك بقوتك أسرنا، واجبر برحمتك كسرنا، وتولَّ بعنايتك أمرنا. اللهمّ استر عوراتنا، وآمن روعاتنا، اللهمّ عليك بالظالمين.
ثمَّ كنا نجتمع في حلقات دراسة مع الشيخ الغزالي حول السيرة النبوية، ومن أجمل المحاضرات التي استمتعتُ بها من دروسه في السجن، والتي لازالت عالقة بذهني التي كانت عن "الإسلام والاستبداد السياسي" وهي التي ظهرت بعد ذلك في كتابه المعروف بهذا الاسم، وأصله محاضرات سجن الطور).
سلام على الشيخ/ يوسف القرضاوي، ورضيَ الله عن أستاذنا الشيخ الغزالي!