بين النظري والواقع..
وأهمية الحوار المباشر مع قوى الميدان
لا بدّ أن تدفعنا الوقائع إلى وقفة مع الذات.. نسترجع فيها مواقفنا وما نعمل، وخطابنا ونسغه.. وما يعتبر ثوابتاً هزّتها ريح الثورة.. بما في ذلك التركيب الداخلي، ومألوف التصرفات، وعديد المقولات التي نامت عقوداً في ثبات المألوف، ثم استفاقت على وقع الثورة في أشهرها الأولى، ثم ما عرفته الثورة من مناقلات وتغييرات كبيرة، خاصة بعد امتشاق السلاح، وسيطرته على بقية الأنشطة، ثم نمو الاتجاهات الإسلامية على مختلف ألوانها، ومنسوب أطروحاتها ووسطيتها وتطرفها، ومحاولات بعضها الاحتكار والاستئثار والفرض، ومستوى الموضعات الطائفية التي دُفعت بقوة من قبل النظام والطراف صاحبة المصلحة فيها لتهشيم جوهر الصراع، وتغطيته بطمي مشوّه كبير ..
نحن في عين الزلزال الحقيقي.. الذي يشقلب النفوس والعقول والسائد، ويدفع كل يوم بمزيد المعطيات التي لا يمكن شلحها لأننا لا نقبلها، أو لأنها خارج التوقعات وما نؤمن، وما اعتدنا، وتقوننا به وعليه. ونحن في حالة تحول قاسية، ومفروضة على الجميع، تمهد لصيرورات قادمة متعددة العوامل.. فيها بعض ما نؤمن ونتمنى، وهناك كثير مغاير لما نشتهي، ولما كنا نطرح ونتوقع .
قد يكون المفروض مقبولاً لنا أو مخالفاً لتقديراتنا وتوجهاتنا..لكننا لا نستطيع تغييبه وطمس الأعين عنه، أو مسحه ذاتوياً، ورغبوياً.. واعتباره كأنه لم يكن، وكأنه ليس واقعاً مجسّما له مفاعيله وكبير آثاره على جوهر الثورة وصلب أهدافها من جهة، وعلى مضامين وأشكال الصراع من جهة ثانية، ومستقبل الوطن ومصيره من جهة ثالثة .. حينها سنتخلف أكثر وأكثر، وسنغنّي في وديان الصدى وحيدين، متفرقين، منعزلين.. ويكثر بكاء الأطلال.. وتكرار المكرر.. واللطم على خدود التحسّر، وتحميل المسؤوليات للغير، والاكتفاء بالتنظير الهلامي الذي يشبه تبرئة الذمة في نطاقها الضيّق .
ـ تطورات الثورة ـ مثلاً ـ بكل عناوينها وحيثياتها ووقائعها على الأرض ليست من صنعنا، ولم نكن فاعلين بها أولاً، وقد لا ترضينا ووقد جاءت مخالفة لتوجهاتنا وتقديراتنا ثانياً.. لكنها حقيقة موجودة الآن وصارخة، ومنها العمل المسلح وتحولاته، وبنيته، ومضامينه، ومفرداته.. ثالثاً..
فهل نغمض الأعين، ونضع الرؤوس في الرمال الذهبية لنشطح بأفكارنا فوق الواقع والوقائع، ونفترض شيئاً آخر ثم نقوم بالبناء عليه، وطرح تصورات وحلول ومشاريع ومبادرات ؟؟...
هل يمكن " بجرة قلم" أن نحذف الموجود لأنه لا يعجبنا..أو أن نستأصله نظرياً لأنه مخالف لما نريد .. أم علينا التعاطي مع الوقائع كما هي.. وإيجاد السبل العملية لفعل شيء فيها، وأولها التعرّف على اصحابها ولمَ لا فتح حوارات مباشرة معهم لفهم وسماع آرائهم ووجهات نظرهم وحدودها ومبرراتها ، واطلاعهم على وجهات نظرنا، والبحث عبر ذلك عن المشتركات العامة وتطويرها لصالح الثورة والوطن، وعلى طريق إيجاد القواسم المشتركة إن كان ممكناً، وإلا تنظيم الخلاف على قاعدة حق الجميع في الرأي والاجتهاد ..
ـ ضمن ذلك تكتسي عملية فتح نقاش مباشر، وصريح، ومنظم مع الكتائب المسلحة الأهمية القصوى، ولعلها تكون الأولى اليوم المطروحة على فصائل العمل الوطني المعارض، وجميع هيئات وفعاليات الثورة .. لأنه دون ذلك ستزداد الشقة اتساعاً، وسيغنّي كل على ليلاه ومواويله الخاصة بينما يتعرّض الوطن لأخطر الاحتمالات، وسنمدّ في عمر النظام المجرم، والأزمة النزيفية القاتلة، ونسهم في مزيد الشروخات وعمليات التنتيف، وحتى الاحتراب البيني .
ـ القاسم المشترك الذي يجب محورة الحوارات حوله : طبيعة الدولة السورية التي ننشد، وشكل النظام القائم، انطلاقاً من جوهر أهداف الثورة التي قامت أصلاً، وسيرورة، وتصميماً، وتضحيات لأجل إنهاء الاستبداد ورفض استبداله بشبيهه أو أكثر عنفاً، وإقامة النظام التعددي الذي يحقق المساواة بين جميع السوريين على أساس المواطنة، واستناداّ إلى دستور جديد يقره الشعب باستفتاء عام، وتوفير الحقوق لجميع المكوّنات العرقية والقومية، وحرية العبادة، والرأي والتحزب، واستقلالية القضاء، والفصل بين السلطات، ومنح الشعب حق اختيار الحكم الذي يرتضيه في انتخابات تشريعية قادمة ..والحفاظ على وحدة الوطن المجتمعية والسياسية والجغرافية، ورفض المساس بها تحت أي ظرف، أو وضع مؤقت، وعبر ذلك بلورة تلك الحوارات ونتائجها في ميثاق مشترك تلتزم به جميع الأطراف القابلة به، والتناغم والتنسيق بين العسكري والسياسي لبناء ميزان قوى حقيقي من شأنه أن يفرض حقوق الشعب السوري في أي مشروع، أو حل سياسي، ويكون عاملاً مهماً في استعادة القرار الوطني، والحدّ من التدخلات والضغوط الخارجية متعددة الاتجاهات، والخلفيات والمصالح..
ـ لقد أبدت عديد الكتائب المسلحة، وبغض النظر عن مسمياتها الإسلامية، وعن فحوى المضامين، والتحولات، والتفاوتات فيما بينها، أو داخلها، ومنسوب الاضطرار والتكتيك فيها، أبدت استعداداً طيباً ومفتوحاً للحوار المشترك، وتبادل الرأي والمواقف والنظرة في مختلف المسائل التي تهمّ الثورة، ومستقبل الوطن، كما أن بعضها، وهو مهم بثقله على الأرض، يبدي انفتاحاً طيّباً في التحلق حول المشتركات، والعودة إلى جوهر الثورة كثورة شعبية لأجل الحرية والكرامة، والابتعاد عن الأدلجة، والمفروضات المسبقة عن شكل الدولة التي يطرحها البعض، خاصة ما يتعلق بمنسوب الجانب الإسلامي فيها، وعلاقتها بالدولة الإسلامية، أم التعددية ..
ـ إن وضع الحوار المنظم على طاولة التجسيد هو اليوم الألح في الواجبات المطروحة على جميع المعنيين بالثورة، خاصة القوى السياسية المؤمنة بإسقاط النظام مدخلاً، وهدفاً رئيساً حتى بالنسبة لأي حل سياسي مطروح، أو يمكن تطويره عبر التحولات الجارية، وتناغم الميداني مع السياسي ..
عقاب يحيى