مخاطر انهيار الدولة القطرية على مشروع الوحدة العربية

ورقة قدمت إلى المؤتمر القومي العربي الدورة 26 المنعقدة في بيروت في 2-3 حزيران 2015

مقدّمة: أهمّية الموضوع وراهنيته

القسم الأوّل: استراتيجيات التفكيك والتجزئة والتقسيم

رسائل صهيونية لتقسيم لبنان والمنطقة "استراتيجية إسرائيل في الثمانينيات"، أوديد يينون كيسينجر و"المحافظون الجدد"

القسم الثاني: واقع الدولة القطرية

الدولة القطرية من معسكرين إلى محورين عوامل انهيار الدولة القطرية ومؤشراته الدولة ومكوّنات المجتمع القطري، تفاعلات التهميش السياسي/الاجتماعي تماهي الدولة بالنظام السياسي، الاستبداد والفساد والتبعية الدولة القطرية و"صيغ الحكم القومي"، جدلية الانهيار الدولة القطرية وتداعيات "الربيع العربي" ما بعد "الدولة الإسلامية في العراق والشام" مآل الدولة القطرية: من النموذج الوحدوي الاستبدادي إلى الفيدرالي التقسيمي؟ انهيار الدولة القطرية وإشكالية (الدولة/الأمة) في مشروع الوحدة العربية

القسم الثالث: التسوية التاريخية على الدولة الوطنية ومنها إلى الوحدة العربية

المرتكزات الموضوعية لمشروع الوحدة العربية هويّة الدولة القطرية وانعكاساتها على مشروع الوحدة العربية مشروع الوحدة العربية يؤسّس على واقع الدولة القطرية العتيدة، الدولة الوطنية من مشروع تحقيق الوحدة العربية إلى مشروع بناء الدولة القطرية الوطنية الدولة الوطنية بوّابة العبور إلى الوحدة العربية من دولة المكوّنات إلى دولة المواطنة الطريق إلى الوحدة العربية الدولة الوطنية المدنية الديموقراطية هي الوجه المحلّي لدولة الوحدة العربية

مستخلصات عامة

أهمية الموضوع وراهنيته

في الواقع العربي الراهن تتقدّم مسألة الدولة القطرية على كلّ المسائل الأخرى لا بل هي وقف عليها حيث لا سبيل إلى استشراف مستقبل مشروع الوحدة العربية من دون أن يعرف مصيرها. فالدولة القطرية تمرّ في مرحلة انتقالية نهاياتها مفتوحة على غير احتمال. من هذه الاحتمالات:

توسيع حدود وتقليص حدود أي نشوء دول لم تكن وانهيار دول كانت موجودة.

ترسيم حدود لدويلات طائفية وإتنية أي تقسيم داخل حدود بعض الدول القطرية.

تفاهمات على أنظمة فيدرالية أي دولة مركّبة مع المحافظة على وحدة الكيان القطري.

عقد اجتماعي جديد لدولة وحدوية أي دولة عضوية.

كلّ من هذه الاحتمالات في حال تحقّقه على كامل مساحة الوطن العربي أو على قسم منها سيترك انعكاساته على مشروع الوحدة العربية.

" اليمن ينهار أمام أعيننا." عبارة قالها بان كي مون أمين عام الأمم المتّحدة. وهي عبارة تنطبق على دول أخرى لا يقلّ ما يجري فيها لا بل أحيانا" يزيد عمّا هو جار في اليمن ما ينذر فعلا" بانهيارها أمام أعين العالم.

من هذا "العالم" من خطّط لهذا الانهيار ومنه من موّل ومنه من نفّذ ومنه من سيلقى التبعات. 

كيف لهذا "العالم" بأفعاله كافة أن يسعى لوقف ما هو جار؟!

من له مصلحة في وقفه عاجز. ومن له مصلحة في استمراره قادر. الدولة القطرية أولى ضحاياه وربطا" مشروع الوحدة العربية.

بعد احتلال أفغانستان أعلنت أميركا أنّها لن تغادر المنطقة وأنّ لها خططا" طويلة الأجل ومصالح فيها تمتدّ من مضيق باب المندب إلى مضيق هرمز.

منذ احتلال العراق في العام 2003 انكشف المشروع الإمبراطوري الأميركي للسيطرة التامة على منطقة الشرق الأوسط والعالم كلّه فدخلت المنطقة في مسار تغييري متعثّر بفضل المقاومة العراقية وما عرف لاحقا" بمحور الممانعة. مستقبل المنطقة بدأ بالتشكّل على ثنائيةّ الاحتلال والمقاومة.

احتلال العراق لا يمثّل نهاية الاستراتيجية الأميركية بل بدايتها وهي قائمة على تدمير سيادة الدول وتفكيكها وإعادة تركيبها وفق مقتضيات السيطرة وليس وفق ما تريده الإنسانية كما ادّعى بوش في خطاب ألقاه بتاريخ 25 حزيران 2002 حيث قال:

" من أجل الإنسانية كلّها يجب أن تتغيّر الأمور في الشرق الأوسط."

والأصحّ في هذا السياق هو ما أفصح عنه كولن باول بعد احتلال العراق بإعلانه أنّ الولايات المتّحدة ستعيد تشكيل الشرق الأوسط بما يتّفق مع مصالحها. إنّه "الشرق الأوسط الكبير" الذي يجعل المنطقة الممتدّة من أندونيسيا في قلب آسيا إلى المغرب وموريتانيا على شواطئ الأطلسي تحت السيطرة الأميركية ويجعل أمن الكيان الصهيوني مضمونا" ويمكّنه من الدخول إلى قلب هذا الشرق الأوسط الجديد فهو معنيّ بأمن الكيان ومعنيّ أيضا" بتفكيك الدول العربية وتجزئتها ضمانة وجود واستقرار وتفوّق وسيطرة وبقاء.

استراتيجية التفكيك والدّمج تشمل الدول العربية وباكستان وإيران وتركيا وأفغانستان والكيان الصهيوني وتذوّب الوطن العربي في محيط جيو/سياسي واسع وتدرج الكيان الصهيوني في هذا المحيط. هذا المشروع وضعه "المحافظون الجدد" في إدارة جورج بوش الابن لمنطقة تضم هذه الدول وأعلن عنه في مارس 2004 كجزء من المشروع الإمبراطوري للسيطرة على العالم وثرواته تحت عناوين جاذبة، منها: تشجيع الديموقراطية والحكم الصالح، بناء مجتمع المعرفة، توسيع الفرص الاقتصادية.  

من طلائع هذه المشروع صرف إيران عن التطلّع إلى الدول الإسلامية المنفكّة عن الاتحاد السوفياتي وشدّ نظرها إلى الدول العربية المرشّحة للتقسيم إلى دويلات شيعية وسنّية وإتنية. ومن طلائع هذا المشروع كذلك تسمية إيران وتركيا أعضاء مراقبين في جامعة الدول العربية ما يذكّر باقتراح شيمون بيريز في كتابه "الشرق الأوسط الجديد" لجعل الدولة العبرية عضوا" في هذه الجامعة أو إبدالها ب "جامعة الشرق الأوسط".

الاستراتيجية الفعّالة لإعادة تشكيل الشرق الأوسط إثارة الفتنة بين الشيعة والسنّة وتأجيج الصراع بين العرب و"الفرس". هكذا ينتصر الغرب في حربه "الحضارية" على الإسلام ويجد في هذا الانتصار فرصته التاريخية لإعادة التشكيل. عدد من القادة العرب راح يحذّر من تصاعد "الهلال الشيعي" ما أدخل العلاقات العربية/الإيرانية في أزمة شديدة التعقيد بانت تفاعلاتها في العراق والبحرين وسوريا ولبنان والكويت والإمارات واليمن والمنطقة الشرقية من السعودية وذلك على قاعدة سعي إيراني واضح لمدّ نفوذها في تلك الدول. وهذا ما أوجد بدوره معطيات جيو/سياسية مختلفة في العراق وبلاد الشام والخليج العربي أسفرت عن تشكيل "درع الجزيرة" وعن تنسيق استراتيجي بين دول "الاعتدال السنّي" وأميركا والغرب وإسرائيل لمواجهة أطراف "التشدّد الشيعي" إيران وسوريا وحزب الله ما أوحى بإنهاء الصراع الوجودي مع الكيان الصهيوني وتصويبه في اتّجاه إيران فباتت المنطقة في صراع سنّي/شيعي أرادته وخطّطت له الإدارة الأميركية. وهذا ما كشفه تقرير الصحافي الأميركي سيمور هرتش المنشور في مجلّة "ذي نيويوركر" 2007 بعنوان: "إعادة التوجيه".

 بعد احتلال العراق (2003) وعدوان تموز على لبنان (2006) بدأ المخطّط الأميركي التقسيمي يسلك طريقه إلى التنفيذ (كوندوليزا رايس اعتبرت عدوان تموز على لبنان بداية مخاض لولادة شرق أوسط جديد)

شرق أوسط جديد يتشكّل منذ ذلك التاريخ ولم تستقرّ له صورة حتى الآن. الحرب على العراق شكّلت بدايات التحوّل و"الرّبيع العربي" شكّل محطّة اساسية في خطّ استمراره.

مع إطلالته في تونس وعبوره إلى مصر وليبيا واليمن وسوريا تجدّد الكلام على سايكس/بيكو ثان لشرق أوسط جديد ترسم حدود دويلاته بدم شعوبه. وتعدّدت سيناريوهات التحوّل الجيو/سياسي بالارتكاز إلى استراتيجيات ومخططات التقسيم والتجزئة المعدّة لهذه المنطقة منذ بدايات القرن الماضي. السيناريوهات متعدّدة ومتبدّلة أمّا الأهداف فواحدة وثابتة: منع قيام وحدة عربية وتثبيت للكيان الصهيوني.

في العام 1907 وضع رئيس الحكومة البريطانية كامبل بنهاية مؤتمر شاركت فيه فرنسا وإسبانيا وإيطاليا وثيقة سرّية تحمل اسمه وتعبّر عن رؤية الاستعمار القديم لمنطقة الشرق الأوسط بما فيها بالطبع الوطن العربي. وهي تهدف إلى استمرار سيطرة الحضارة الغربية على العالم. ما يعنينا من بنود هذه الوثيقة البند الذي أسّس لسايكس/بيكو ووعد بلفور:

إقامة دولة قومية لليهود تشكّل حاجزا" مانعا" لأيّ وحدة عربية ممكنة ما بين قسميه الآسيوي والإفريقي.

هذه الوثيقة ببنودها كافة السياسية والثقافية والدينية هي الموجّه لسياسة الاستعمارين الأوروبي والأميركي، سياسة التقسيم والسيطرة.

اتفاقية سايكس/بيكو هي الجزء الخاص التنفيذي لمعاهدة بطرسبورغ التي عقدت بين بريطانيا وفرنسا وروسيا القيصرية في آذار 1916 وقسّمت فيها الإمبراطورية العثمانية. تخطّت تطلّعات العرب لإقامة دولتهم. فرضت التقسيم. ووضعت العرب تحت السيطرة الاستعمارية. جاء بعدها وعد بلفور 1917 ليمنع أيّ إمكان لقيام وحدة عربية. 

سايكس/بيكو 1916 مكّن الغرب من زرع الكيان الصهيوني في قلب الوطن العربي، أمّا اليوم فمطلوب سايكس/بيكو جديد يضمن أمن الكيان وبقاءه على أساس أنّه كلّما ازداد عدد الدويلات في الوطن العربي كلّما ازدادت ضمانات أمن الكيان واستمراره.

سايكس/بيكو الأوّل رسمته اتفاقات القصور في الغرب وفرضته على شعوب المنطقة. أمّا سايكس/بيكو اليوم فترسمه حدود الدم بين مكوّنات شعوبها.

سايكس/بيكو الأوّل قام على التجزئة داخل حدود الوطن العربي. أمّا سايكس/بيكو اليوم فيقوم على التجزئة داخل حدود الدولة القطرية.

والسؤال الناتج عن هذه المقارنة: هل بات الوطن العربي في مخاض "ما بعد الدولة القطرية" التي تداعت بناها بفعل ما تشهده من حروب "التجزئة داخل حدودها"؟

الاستعمار الغربي البريطاني/الفرنسي عبر اتفاقية سايكس/بيكو 1916 قسّم الوطن العربي إلى كيانات لا مسوّغ تاريخيا" أو جغرافيا" أو ثقافيا" أو قوميا" لإنشائها وخلّف فيما بينها مشكلات حدود. حدود سايكس/بيكو هي حدود مناطق نفوذ وليست حدود دول. هذه الكيانات التي اتخذت لها لاحقا"، أي بعد الاستقلال، صفة الدولة الوطنية سعت إلى اكتساب شرعية وجودها واستمرارها من إرادة شعوبها الموزّعة طوائف ومذاهب وسلالات أقوام لم تتمكّن الدولة من احتواء تناقضاتها وإنجاز وحدتها فظلّت مادّة رهان لإنجاح مخططات التقسيم منذ سايكس/ بيكو ووعد بلفور إلى مخطّط الشرق الأوسط الجديد. فمنذ مطلع القرن العشرين والمخططات المعادية لوحدة الوطن العربي الجغرافية والسياسية ولوحدة الأمّة العربية الحضارية قائمة وتتجدّد وفق المراحل والمصالح وموازين القوى.

"بلقنة" الوطن العربي وتوظيف تعدّدية مكوّناته الطائفية والإتنية وتحويلها إلى حروب وتمزيق دوله القطرية إلى دويلات، تشكّل استراتيجية ثابتة في التخطيط الاستعماري القديم كما الجديد. فالاستعمار الجديد الأميركي/الصهيوني يكمل ما بدأه الاستعمار القديم. منذ احتلالها للعراق وأميركا تنفّذ سايكس/بيكو آخر بدأ بتقسيم فعلي للسودان بانفصال جنوبه وبقرار أميركي/أوروبي/صهيوني.

في العام 1980 والحرب العراقية/الإيرانية مستعرة صرّح بريجنسكي مستشار الأمن القومي في عهد جيمي كارتر بالآتي:

"... إنّ المعضلة التي ستعاني منها الولايات المتّحدة حتى الآن هي كيف يمكن إشعال حرب خليجية ثانية تقوم على هامش الحرب الخليجية الأولى التي حدثت بين العراق وإيران تستطيع أميركا من خلالها تصحيح حدود سايكس/بيكو."

وهذا ما هو حاصل اليوم: تصحيح الحدود على حدود الدم. (سعود البرزاني رئيس إقليم كردستان العراق قال في حوار مع جريدة "الحياة" في7 شباط 2015: " إنّ الحدود الموروثة من سايكس/بيكو كانت مصطنعة وإنّ حدودا" جديدة ترسم الآن بالدم في العراق وسوريا واليمن.) حدود مصطنعة انشأتها اتفاقية سايكس/بيكو يعاد رسم حدودها مجددا على اسس طائفية ومذهبية وإتنية. جاء الحدث المقرون بالتفتيت الطائفي والمذهبي والإتني من نتائج احتلال العراق، والتدخّل الأطلسي في ليبيا والحرب على سوريا ومدّها بغذاء خارجي في اليمن. الدولة القطرية في هذه الدول هي قيد التفكّك. اختفت الهوية الوطنية وبرزت هويات طائفية وإتنية راحت تترسخ معالمها يوما" بعد آخر.

أيّ تحليل للواقع العربي أو الواقع القطري يوصلنا إلى استنتاج مؤدّاه أنّ عددا" من الدول العربية لن تبقى موحّدة فهي مرشّحة لتصبح في عداد الدول الفاشلة لعدم استقرارها أمنيا" وسياسيا" ولحدّة تناقضاتها البنيوية ولأنّ لا أحد من مكوّنات مجتمعاتها يملك قرارات صالحة للتسوية تحفظ وحدتها. فوضى وحروب مركّبة وفتن ومواجهات مدعومة من الخارج، ومن "ثورة للتغيير والتحوّل الديموقراطي وبناء الدولة المدنية الوطنية" إلى "الدولة الإسلامية في العراق والشام" وإعلان الولاءات لها في سيناء واليمن وليبيا تلك كانت مآلات "الربيع العربي" ومشروع الوحدة العربية لن يكون بمنأى عن تداعياته.

القسم الأوّل: استراتيجيات التفكيك والتجزئة والتقسيم

رسائل صهيونية لتقسيم لبنان والمنطقة

إنّ خطّة تجزئة الوطن العربي هي قديمة ومتجذّرة في التفكير الاستراتيجي الاستعماري الصهيوني. يقول بن غوريون:

"... إنّ عظمة إسرائيل ليست في قنبلتها الذرّية ولا ترسانتها المسلّحة، ولكن عظمة إسرائيل تكمن في انهيار دول ثلاث هي مصر والعراق وسوريا...

"... ليست العبرة في قيام إسرائيل بل في الحفاظ على وجودها وبقائها وهذا لن يتحقّق إلاّ بتفتيت سوريا ومصر والعراق."

شهادة بن غوريون تشكّل الركن الثابت في استراتيجية الكيان الصهيوني وسياساته. فالصحافي الهندي كرانجيا نشر وثيقة سلّمه إيّاها الرئيس عبد الناصر وفيها مخطّطات تقسيمية للدول العربية، في كتابه "خنجر إسرائيل" الذي وضعه في العام 1957.

مخطّط تقسيم لبنان بانت خيوطه الأولى في رسالة دافيد بن غوريون الى موشي شاريت في 27/2/1954 ورسالة موشي شاريت الى بن غوريون في 18/3/1954 وفي رسالة ساسون الى موشي شاريت في 25/3/1954.                                                    

موشي شاريت في ردّه على بن غوريون حسب أنّ الأمر " قد يتحقّق في إثر سلسلة من الهزات تضرب الشرق الأوسط وتسقط الأنماط السائدة لتخرج منها قوالب جديدة.."

أما ساسون فرأى انّ تفكيك الكيان اللبناني من شأنه أن يخلخل كيانات الدول العربية ويحبط خطط وحدتها ويعرضها أمام العالم دولا" متنازعة تحاول الواحدة منها ابتلاع جارتها.

"استراتيجية إسرائيل في الثمانينيات"، أوديد يينون

وضعها أوديد يينون ونشرها في مجلّة " كيوفونيم " (اتجاهات) العبرية وهي مجلّة تصدرها المنظّمة الصهيونية العالمية. ترجمها من العبرية الى الإنكليزية إسرائيل شاهاك ونشرتها مجلّة " الثقافة العالمية " غداة الاجتياح الإسرائيلي للبنان. وصفها شاهاك بأنّها " تظهر بوضوح وبشكل تفصيلي مشروع النظام الصهيوني المتعلّق بالشرق الأوسط والقاضي بتقسيم المنطقة إلى دويلات صغيرة وذلك بعد تفكيك كلّ الدول العربية بصيغتها الحالية. " ويقول شاهاك: " هذه النظرية تحكم الاستراتيجية الصهيونية بشكل دائم." وهي فكرة تتردّد مرارا" في التفكير الاستراتيجي الصهيوني وأساسها يقوم على أنّ الكيانات العربية هشّة يسهل هدمها بسبب خليط الأقليات الإثنية والدينية المتعادية. 

انّ"استراتيجية إسرائيل في الثمانينيات " تقوم على رؤية واضعها إلى الواقع العربي عموما" وإلى لبنان سوريا والعراق خصوصا". فهو وفق رؤياه واقع تتنازعه الانقسامات الطائفية التي تجعله قابلا" للتفكيك والتجزئة.           

جاء في هذه الوثيقة الصهيونية ما يلي:                                            

" ... انّ تفتيت لبنان (...) يعدّ بمثابة سابقة للعالم العربي برمّته بما في ذلك مصر وسوريا والعراق وشبه الجزيرة العربية (...) انّ تفتيت سوريا والعراق إلى مناطق عرقية أو دينية قائمة بذاتها (...) يعدّ الهدف الرئيس لإسرائيل على الجبهة الشرقية على المدى الطويل. غير أنّ تفتيت القوّة العسكرية لهاتين الدولتين يعدّ الهدف الأساس على المدى القصير.                                                                          

سوريا سيكون مآلها التمزّق وذلك وفقا" لتركيبتها العرقية حيث ستقوم فيها عدّة دويلات.

والعراق الغني بالنفط من ناحية والممزّق داخلياّ من ناحية أخرى يعدّ مرشّحا" مضمونا" للأهداف الإسرائيلية. وعليه فانّ تمزيق العراق يعدّ أكثر أهمّية بالنسبة إلينا من سوريا حيث أنّ العراق أقوى من سوريا. والحالة هذه فانّ قوّة العراق هي التي تشكّل على المدى القصير أكبر تهديد لإسرائيل. فأيّة حرب بين العراق وسوريا أو بين العراق وإيران من شأنها أن تؤدّي في نهاية المطاف إلى تمزيق العراق وإلى انهياره داخليا".                                          

إنّ أيّ مواجهة داخل الدول العربية من شأنه أن يساعدنا على المدى القصير ويؤدّي إلى تقصير الطريق لتحقيق الهدف الأسمى المتمثّل في احتدام الخلافات الطائفية داخل العراق كما هو الحال في كلّ من سوريا ولبنان.    

إنّ التجزئة إلى مناطق عديدة على أسس عرقية دينية تماما" كما كان الحال في سوريا أيام الدولة العثمانية تعدّ ممكنة في العراق.

من ناحية أخرى فانّ شبه الجزيرة العربية برمّتها تعدّ مرشّحا" طبيعيا" للتمزيق تحت وطأة الضغوط الداخلية والخارجية. وهذا الأمر لا مفرّ منه خصوصا" في المملكة العربية السعودية سواء ظلّت قوّتها الاقتصادية سليمة أو أنّها نقصت على المدى الطويل فالانشقاقات والإنحلالات الداخلية تبدو واضحة وطبيعية المسار وذلك في ضوء البنية السياسية الحالية."

أمّا بشأن السودان ومصر فترى الوثيقة الصهيونية أنّ تفتيتهما إمكان سهل.

إقامة الدويلات الدينية والعرقية فكرة استراتيجية في التخطيط الصهيوني لمستقبل الوطن العربي فتجزئة المجزّأ أي الدول المحيطة بالكيان الصهيوني إلى دويلات متناحرة هو الحلّ التاريخي الوحيد والجذري لضمان أمن هذا الكيان فيكون له الاستقرار والتوسّع والسيطرة ويكون لها أي لتلك الدويلات الفتن واستنزاف الثروة والتخلّف والهامشية أو التبعية.                          

لهذه الفكرة الاستراتيجية قوّة إسناد نظري تاريخي تلقّته من سياسة الاستعمار القديم قوامه الرهان على الأقليات في تقويض الوحدة العربية أو في التعجيز عن الوصول إليها أو في تسهيل الاختراق والسيطرة.

انّ فكرة استقطاب الأقليات وإدخالها في " تحالف موضوعي " تؤسّس لإعادة نظر في الخارطة الجيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط بما يتجاوز حدود الوطن العربي وبما يسمح بتفكيك الدول العربية أي بإمكان العبور إلى ما هو فوق قومي أو العودة إلى ما هو دون وطني أو قطري. وفي الحالين قضاء على الهوية العربية التي يشكّل الوعي بها وعيا" بفكرة الوحدة العربية.              

انّ خلفية الفكر الصهيوني مبنية على مجموعة فرضيات حكمية منها:

- لا يمكن للأقلية أن تعيش بكرامة إلاّ لوحدها (فكرة المعازل وجدران الفصل والغيتوات) وأن تصادق أقلية مظلومة مثلها (تحالف هويات أقلّوية! )..

- الأقليات بحاجة إلى مساعدة قوّة أجنبية

- وجود الأقليات يمكّن مشاريع التجزئة ويشجّع عليها وهو يشكّل عائقا" أمام الوحدة ورهانا" دائما" لإثارة الفتن. وهو تاليا" مجال استثمار صهيوني مفتوح أمام الرغبة الإسرائيلية في إضعاف الجسم العربي وإنهاكه.

على خلفية هذه الفرضيات التي ترقى إلى مستوى الفهم الإيديولوجي الإسقاطي لمكوّنات المجتمع العربي ينبني المشروع الصهيوني التجزيئي والتفتيتي.

مركز ديان في جامعة تل أبيب لأبحاث الشرق الأوسط وشمال إفريقيا الذي تندرج أعماله ضمن استراتيجية إسرائيل التفتيتية للوطن العربي يعمل على تدريب قيادات من جماعات إثنية لتكون مؤهلة لتطبيق استراتيجية التفتيت، فاستراتيجية إسرائيل التي نجحت في تقسيم السودان وفدرلة العراق لن تتوقف عند العراق ولا السودان وإنما ستستهدف دولا" عربية أخرى، وهذه الاستراتيجية تعتمد بالدرجة الأولى على التقسيم الجغرافي والديموغرافي بالتوجه إلى الأقليات والجماعات الإثنية.

من هنا كان رهان الحكومات الصهيونية على إثارة النزاعات الأهلية في الوطن العربي وفي تقديم الدعم لعدد من الحركات الانفصالية ومساعدة ميليشيات القتل الطائفي وتغذية التيارات الأصولية والسلفية المتشدّدة في نظرتها إلى الآخر وعدم الاعتراف بوجوده وبحقّه في الاختلاف وفي التمايز فأثبتت بذلك قدرتها على التلاعب بالعصبيات الفئوية وتوظيفها وتعميق التناقضات لدى مكوّنات المجتمع العربي ودفعها إلى ما يشبه الحروب الدائمة الطافرة والكامنة وتاليا" للاستسلام أمام إرادتها في السيطرة والتسيّد على شؤون المنطقة كما بدا واضحا" في كتاب شيمون بيريز" الشرق الأوسط الجديد ".

ما يسعى إليه الكيان الصهيوني القضاء على هوية العرب القومية إمّا تجاوزا" إلى هويّة شرق/أوسطية مصطنعة (جامعة دول الشرق الأوسط، شرق أوسط جديد، شرق أوسط كبير) وإمّا عودا" إلى هويات متشظّية ومتذرّرة دينية وإتنية. وهذا ما يدخل في خطة الأهداف القصوى: محو الهوية العربية بتهديم النظام العربي الرسمي وتقويض مؤسساته كافة وتركيب نظام إقليمي بمؤسسات بديلة يكون موقع القيادة فيه للكيان الصهيوني أو بتفتيت الوحدات القطرية وتحويلها إلى كيانات هشّة ومستتبعة. هذا وذاك يضمنان أمن الكيان وتفوّقه العسكري الاستراتيجي وهما يشكّلان الأساس الايديولوجي لهذا الكيان.

(راجع: ساسين عساف – الوحدة العربية في مواجهة المشروع الصهيوني – مجلة المستقبل العربي-فبراير/شباط 2010 – ع: 372)

كيسينجر والمحافظون الجدد 

يبني كيسينجر مخطّطه التقسيمي على النقاط الآتية:

تشكّل البلدان العربية أربع وحدات جغرافية متمايزة: منطقة الهلال الخصيب (سوريا والعراق ولبنان والأردن وفلسطين) منطقة الخليج العربي، منطقة المغرب العربي (المغرب والجزائر وتونس) منطقة شمال أفريقيا (مصر وليبيا والسودان) - أوضاع هذه المناطق تتّصف بالاضطراب وبضعف المؤسسات السياسية وبافتقار قياداتها الى الرؤيا وبفساد أجهزتها الإدارية وبضعف بنيتها الداخلية.

هشاشة اللحمة الداخلية لهذه البلدان، يقول:

"... اللحمة الداخلية لكثير من هذه البلدان هشّة. الوحدات السياسية لبلدان الهلال الخصيب غير قابلة للاستمرار بسبب تعاظم دور الأقليات وتضاؤل دور الأكثرية العربية السنّية. قيام إسرائيل عجّل في انفجار مشكلات الأقليات وفي طموحها الى الاستقلال لا سيّما الأكراد والمسيحيين والدروز الناضجين لإقامة دولة مستقلّة. أمّا العلويون في سورية فهم يتطلّعون إلى البقاء حاكمين لسورية كلّها غير أنّ الأكثرية السنّية قد تضطرّهم إلى إقامة دولة خاصة بهم."

يرى كيسنجر أنّ دولا" عربية ضعيفة وغير مستقرّة يمكن الاستغناء عنها ضمن استراتيجية جديدة تقيم دولا" بديلة بحدود أشدّ ثباتا" هي حدود الجماعات الدينية والعرقية.

الإدارة الأميركية منذ كيسينجر حتى اليوم تحسب أنّ الشرق الأوسط يضمّ بلدانا" يمكن الاستغناء عنها. ثمّة دول فائضة فيها. وحدود دولها غير ثابتة فهي تتحرّك بتحرّك الجماعات العرقية والدينية التي تقوم عليها فرضية الدويلات التي من شأنها تجزئة الدول العربية وتفتيت وحداتها الوطنية.

كيسينجر ذهب من الخارجية والإدارة الأميركيتين لكن المخطّط بقي وتنفيذه مستمرّ.

مخطّط تقسيم لبنان وجد فيه كيسينجر على حدّ قوله " بلدا" مثاليا" لتحقيق المؤامرات، ليس ضدّه فقط وإنّما ضدّ كلّ العالم العربي أيضا". ثمّ يضيف: " لقد اكتشفت في تناقضاته عناصر جديدة لنصب فخّ كبير للعرب جميعا".                                                                            

انّ مخطّط كيسينجر ناصب هذا الفخّ الكبير للعرب جميعا" وجد من يتبنّاه ويطوّره في الإدارة الأميركية.

في هذا السياق تأتي خطّة ريتشارد بيرل: (استراتيجية جديدة لتأمين المملكة، 1996 أو الاستراتيجية الجديدة لإسرائيل نحو العام 2000)

إنّ للعنوان الأوّل رمزيّته وهي تفيد التالي: " الشرق الأوسط ملكوت إسرائيل ".

حماية هذا الملكوت وفق ما ذهب إليه في هذه الخطّة تستدعي زعزعة استقرار دمشق وذلك بمساعدة تركيا والأردن، فإسرائيل تستطيع كما يدّعي تشكيل بيئتها الاستراتيجية بالتعاون مع كلّ من الأردن وتركيا وذلك لإضعاف الطموحات الإقليمية السورية وكبحها ومواجهتها ولذلك يقول بيرل لا بدّ من الإطاحة بصدّام كهدف استراتيجي مهم لإسرائيل لزعزعة استقرار سوريا فيما بعد.

تنصّ هذه الوثيقة على تشكيل تحالف استراتيجي إقليمي ضدّ دمشق ما قد يشكّل ضغطا" عليها من جهة لبنان وإسرائيل ووسط العراق (ويعني المنطقة السنّية!) وتركيا والأردن.

وفي هذا السياق أيضا" أعدّ معهد " رائد " الأميركي للدراسات الاستراتيجية في آب 2002 لحساب البنتاغون دراسة بعنوان: " كيف يمكن أن تكون الاستراتيجية الأميركية في الشرق الأوسط " تدعو إلى إعادة النظر في الخارطة الجيوسياسية في الشرق الأوسط على قاعدة تفكيك الدول المركزية في الوطن العربي: العراق، سوريا، السعودية، مصر.

انّ لإعادة النظر هذه هدفين رئيسيين: الأوّل تسويغ الطبيعة الدينية والعنصرية الفئوية للكيان الصهيوني. الهدف الثاني هو تأمين حدود آمنة لهذا الكيان وضمان استمراره وتسهيل انخراطه في نسيج المنطقة من موقع القوّة والسيطرة.       

وفي السياق نفسه تندرج خطّة وولفوفيتس وديك تشيني، من أهدافها: إطاحة الرئيس صدّام حسين، جعل اسرائيل دولة يهودية " صافية العرق "، طرد الفلسطينيين وتوطينهم في مناطق عراقية، إطاحة النظام السوري.                                                         

 وتندرج كذلك في هذا السياق خطّة رسمها رالف بيترز الضابط السابق في الاستخبارات العسكرية الأميركية ونشرها بعنوان: " حدود الدم: ما هو شكل شرق أوسط أفضل؟ " في مجلة القوات المسلحة الأميركية في عدد يونيو/حزيران 2006 ويعتبر فيها أنّ الحدود الفاصلة بين الدول في الشرق الأوسط حدود غير واقعية وغير طبيعية. رسمتها بريطانيا وفرنسا بصورة غير عادلة لشعوب تلك الدول ما يثير فيها النزاعات والحروب بين الأقليات والأكثرية. فاتفاقية سايكس/ بيكو في رأيه لم تنصف الأقليات الكردية والشيعية والإسماعيلية والمسيحية. لذلك يرى في إعادة تقسيم منطقة الشرق الأوسط على أساس ديني، طائفي مذهبي وإتني (حلاّ" عادلا") يضمن السلام بين شعوبها. فالأقليات في رأيه جماعات مخدوعة في التقسيم الذي حدّدته اتفاقية سايكس-بيكو وحدود الدول القائمة بموجب هذا التقسيم هي حدود غير عادلة.

هدفه من إعادة التقسيم تكريس الكيان الصهيوني دولة دينية قومية لليهود وإقامة دولة كردية مستقلة. تحقيق هذا الهدف المزدوج يؤمّن ويضمن المصالح الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط، أمن الكيان والسيطرة التامة على منابع النفط.

وتبقى الأهمّ في استراتيجيات التفكيك والتجزئة والتقسيم خطّة برنارد لويس، المستشرق الصهيوني، منظّر "الفوضى الخلاّقة" وواضع استراتيجية الغزو الأميركي للعراق ولسياسة التدخّل والسيطرة الأميركية على المنطقة. تنصّ هذه الخطّة على إعادة تفتيت الأقطار العربية والإسلامية إلى وحدات عشائرية وطائفية ودفع الأتراك والأكراد والعرب والفلسطينيين والإيرانيين ليقاتل بعضهم بعضا".

وحجّة لويس في ذلك قوله: "إن الصورة الجغرافية الحالية للمنطقة لا تعكس حقيقة الصراع، وأن ما هو على السطح يتناقض مع ما هو في العمق: على السطح كيانات سياسية لدول مستقلة، ولكن في العمق هناك أقليات لا تعتبر نفسها ممثلة في هذه الدول، بل ولا تعتبر أن هذه الدول تعبر عن الحد الأدنى من تطلعاتها الخاصة"!

والهدف من هذه الخطّة تسويغ إسرائيل دولة دينية قومية لليهود وفرض هيمنتها على تلك الدويلات الهشّة ما "يضمن تفوّقها لمدة نصف قرن على الأقل" وفق تعبيره.

خطّة برنارد لويس تعمد إلى "تجزئة وتفتيت "سايكس - بيكو" إلى أكثر من ثلاثين دويلة.

وفي هذا السياق نقتطع من مقابلاته ما يقوله في إحداها عام 2005:" ولذلك يجب تضييق الخناق على هذه الشعوب ومحاصرتها واستثمار التناقضات العرقية والعصبيات القبلية والطائفية فيها." وفي العام 2007 وبمناسبة الدعوة الى مؤتمر أنابوليس كتب لويس في صحيفة وول ستريت ما يلي: " يجب ألاّ ننظر إلى هذا المؤتمر ونتائجه إلاّ باعتباره مجرّد تكتيك موقوت غايته تسهيل تفكيك الدول العربية والإسلامية."

القسم الثاني: واقع الدولة القطرية

الدولة القطرية من معسكرين إلى محورين

انقسام الدول العربية بين محوري مقاومة المشروع الأميركي/الصهيوني والانخراط في هذا المشروع وتسهيل عبوره إلى منطقة الشرق الأوسط تحت عنوان الشرق الأوسط الكبير أو الجديد هو انقسام تقليدي وامتدادي لما كانت عليه بين المعسكر الرأسمالي والآخر الاشتراكي يوم كان العالم في قبضة الثنائية القطبية. وإذا كانت مصر قد لاقت تعاطفا" عربيا" معها في صدّها للعدوان الثلاثي في العام 1956 فإنّ هذا التعاطف سرعان ما تبدّد إزاء حدثين مهمّين: مبدأ إيزنهاور وحلف بغداد. 

هذا الانقسام في نسج العلاقات الدولية أضعف الموقع العربي العام إلى حدّ الاستتباع الذي عبّر عنه آنذاك ب "عرب السوفيات" و"عرب الأمريكان" إلى أن انخرطت مصر في مجموعة دول عدم الانحياز بقيادة الرئيس جمال عبد الناصر الذي كانت له اليد الطولى في تأسيس هذه المجموعة وفي إيجاد نقطة الارتكاز للتوازن في العلاقات الدولية. بعد غيابه انحرفت مصر بقيادة الرئيس أنور السادات عن خطّ التوازن بعد الإنجاز العسكري الواسع الذي حقّقه الجيش المصري في العبور واختراق خطّ بارليف وسلّمت أمرها للإدارة الأميركية بشخص كيسينجر الذي قادها عبر سياسة الخطوة خطوة من الكيلو 101 إلى زيارة القدس واتفاقات كامب ديفيد ما أدّى إلى تعميق الانقسام بين الدول العربية فطردت مصر من الجامعة ونشأت "جبهة الصمود والتصدّي "

منذ ذلك التاريخ والانقسامات بين الدول العربية تزداد عمقا" واتساعا" بفعل ما أفرزه كامب ديفيد من اتفاق أوسلو حتى وادي عربة حيث وجدت نفسها منقسمة بين محورين: المقاوم والمساوم.

حرب الخليج الأولى التي ساندت فيها دول الخليج العربي ومعظم الدول العربية العراق في مواجهة إيران منعا" لتصدير الثورة باستثناء سوريا، ثمّ الثانية التي قادتها أميركا تحت عنوان تحرير الكويت التي شاركت فيها قوات من الجيش السوري، ثمّ الحرب الثالثة التي شنّها التحالف الدولي والقوات الأطلسية على العراق واحتلاله والتي أسهمت معظم الدول العربية في مساندتها بحرا" وبرّا" وجوّا" باستثناء سوريا. كلّ هذه الحروب المتتالية عمّقت الانقسامات بين الدول العربية وحملتها مستفردة إلى مفاوضات "السلم الإسرائيلي" أو "التسوية" المفروضة من وجهة نظر إسرائيلية.

لم ترضخ سوريا لشروط "السلم الإسرائيلي"، فطالها قانون العقوبات وضرب عليها الحصار ثمّ الحرب المستمرّة عليها وفيها. وباسم "ربيع" لم يأت جمّدت عضويتها في جامعة الدول العربية.

لم ترض غزّة بقيادة حماس والجهاد والجبهة وسائر القوى المقاومة باتفاقية أوسلو وملحقاتها فشنّت عليها إسرائيل حروبها التدميرية المتتالية.

المقاومة في لبنان، الوطنية ثمّ الإسلامية، قاومت الاحتلال وحرّرت الجنوب والبقاع الغربي في العام ألفين وصمدت في العام 2006

هذا المحور المقاوم، مربّع الصمود القومي المشكّل من المقاومات الثلاث العراقية في مواجهة الاحتلال الأميركي وطرده، الفلسطينية في مواجهة الجيش الصهيوني وطرده من غزّه، اللبنانية في مواجهة الجيش الصهيوني وطرده من جنوب لبنان وبقاعه، فضلا" عن الموقف السوري الداعم لها والرافض لمذكّرة كولن باول في العام 2003 بعد احتلال العراق. هذا المحور المقاوم كان محطّ انقسام بين الدول العربية بديل أن يكون محطّ دعم وإجماع. والسبب أنّ فلسطين لم تعد هي القضيّة المركزية، قضيّة العرب الأولى، في اهتمامات واستراتيجيات وارتباطات بعض الدول العربية.

إلى أن جاء "الربيع العربي" الذي كان من شأنه تصويب البوصلة باتجاه فلسطين وتشكيل رافعة جديدة لمشروع الوحدة العربية بعد ضياع الإثنين معا" إذ لا فلسطين بدون وحدة ولا وحدة بدون فلسطين، فتألّبت والتفّت عليه قوى مناوئة ومستغلّة فحوّلته إلى بركان تدميري من الصّعب أن يهدأ له حال في المدى المنظور.

إزاء هذا "الربيع البركاني التدميري" تنقسم الدول العربية بين مصدّ له ومعدّ. بين من يقاوم لهيبه بلحم شعبه وبين من يصبّ عليه نفطه وماله.    

ثمّة الآن متغيّرات دولية وإقليمية ترخي بثقلها على محوري الصراعات العربية/العربية داخل كلّ قطر وبين الأقطار. لعبة المصالح بدأت تدخل مكوّنات الدولة القطرية المنهارة في تحالفات استراتيجية. الانضباط الجماعي داخل مفهوم سيادة الدولة لم يعد موجودا". مثالنا إلى ذلك: اليمن وسوريا والعراق ولبنان. والمسألة لم تعد مجرّد ارتباط مرجعي ديني بل صارت ولاء مطلقا" لإرادة المرجع في السياسة والموقف والنظرة إلى الآخر وكيفية التعامل معه.

هذا التفلّت من ضوابط سيادة الدولة مهما كانت مسوّغاته يسهم في انهيار الدولة ويحوّل مكوّناتها إلى جماعات متعدّدة الولاءات يستحيل جمعها في انتظام عام.

هذا بشأن المكوّنات داخل القطر الواحد. أمّا بشأن الأقطار فلعبة المصالح القطرية اتّجهت ببعض الدول العربية صوب المحور الدولي الصاعد بقيادة روسيا والصين وسائر دول البريكس وبعض الدول أميركا الجنوبية وهي باتت جزءا" من استراتيجيات هذا المحور، في حين أنّ دولا" عربية أخرى ما زالت تشكّل جزءا" من استراتيجية المحور الممتدّ من واشنطن إلى تل أبيب مرورا" بعواصم الغرب الأوروبي.

عوامل انهيار الدولة القطرية ومؤشراته

العصبيّات

الدولة القطرية تتنازعها العصبيات المحلية والطائفية والمذهبية والعشائرية.  هذه العصبيات هي التي تتحكّم بطبيعة العلاقة بين الدولة ومكوّنات المجتمع لا بل أكثر من ذلك إنّها تقدّم تعريفا" موضوعيا" للدولة القطرية التي منذ تشكّلها تحمل مسبّبات إخفاقها في التحوّل إلى دولة وطنية فبقيت مجرّد سلطة تلتقي فيها مجموعة مصالح متقاطعة مع مصالح دول وشركات  أجنبية تتمتّع بكامل القدرة على استتباعها وتوظيفها والتلاعب بمصيرها ما أفقدها مفهوم الدولة الوطنية القائمة على فكرة السيادة الشعبية وعلى المواطنة والمشاركة وفاعلية المجتمع وتحوّلاته من مجتمع أهلي إلى مجتمع مدني عبر التنمية والتحوّل الديموقراطي والعدالة الاجتماعية.

التخلّف الاستبداد والفساد

الدولة القطرية ضحيّة التخلّف والاستبداد والفساد وجميعها يولّد التناقضات والنزاعات والتصدّعات والانهيارات في البنية المجتمعية وإنتاج سلطات استبدادية فتزول معها فكرة المواطنة التي هي التعبير الفعلي عن وجود الدولة الوطنية. التخلّف الاجتماعي وانعدام الوعي السياسي والانجرار وراء العصبيات جميعها يقف حائلا" دون قيام الدولة الوحدوية العضوية الديموقراطية. المجتمعات القطرية ما زالت تعيش في مرحلة ما قبل الدولة فالتكامل بين المكوّنات مفقود والصراع المكنون فيما بينها هو السائد في ظلّ الدولة القمعية.

ارتباط المكوّنات بأجندات خارجية

من عوامل انهيار الدولة القطرية ارتباط مكوّنات مجتمعها بأجندات خارجية متباينة. تفكك الدولة القطرية وتشظّيها على مكوّنات ما دون وطنية مرتبطة بالخارج ينعكسان سلبا" على الهوية القطرية كما على الهوية القومية. ما يصيب الهوية القطرية من تشظيات يصيب في الوقت نفسه الهوية القومية. إذا كان الاندماج بين مكوّنات القطر الواحد متعذّرا" بسبب عجزها عن تحرير نفسها من الارتهان للخارج (أو عدم رغبتها في ذلك) فكيف له أن يتحقّق بين مكوّنات الأقطار مجتمعة؟! 

الحدود المصطنعة

حدود الدولة القطرية حدود مصطنعة فهي حدود فارقة نظريا" بين أبناء مكوّن واحد موزّعين على غير قطر سواء كان هذا المكوّن طائفيا" أو مذهبيا" أو سلاليا" (عشائريا" أو قبليا" أو عائليا") وهذه ظاهرة تكاد تكون عامة في العراق وبلاد الشام والخليج العربي. وهي حدود صنعها الاستعمار بمقياس نفوذه ومصالحه وهي تبعا" لهذا المقياس غير مستقرّة وخاضعة للتعديل بما يلبّي تلك المصالح. إنّها حدود لا تستند إلى أيّ أساس علمي تقوم عليه حدود الدول الطبيعية (الهوية والشخصية الحضارية والإرادة العامّة).  إنّها حدود وضعت بإرادة أجنبية فحملت الدولة القطرية "لاوطنيتها " سمة لازمة لها منذ نشوئها. وهذا عطب تكويني لم يجد له علاجا" بالرغم من محاولات الأنظمة فاستمرّت الحدود القطرية تعيش في أزمة المشروعية.

إن حدود الدولة القطرية الراهنة خصوصا" في بلاد الشام أصبحت مفتوحة بضغط من ضرورات المواجهة وطبيعتها الإقليمية والدولية ما سمح بالتمدّد الإيراني إلى المتوسّط عبر العراق وسوريا ولبنان وتمدّد "الدولة الإسلامية" (داعش) بإزالة الحدود بين العراق وسوريا، وتمدّد المقاومة الإسلامية من جنوب لبنان باتّجاه سوريا وتوحيد جبهتي الجنوب اللبناني والجولان السوري مع الكيان الصهيوني.

الفشل في التنمية والتبعية

التنمية المستقلّة مشروع فاشل أصابته إخفاقات أودت بها إلى التبعية الاقتصادية مشفوعة بتبعية سياسية وثقافية وأمنية للرأسمالية العالمية المتوحّشة. الصيغ القطرية في عالم مترابط اقتصادياً ومالياً أثبتت فشلها في التنمية المستقلّة. فنظام السوق سمته الاحتكار والاستغلال يمارسهما الأقوى على الأضعف والأغنى على الأفقر خصوصا" وبنية الاقتصاد العربي لم تقم يوما" على التكاملية فالأقطار العربية الغنية لم تلتفت يوما" إلى الأقطار الفقيرة إلاّ عن طريق المساعدات الظرفية وليس عن طريق الاستثمار والتوظيفات البعيدة المدى وفق سياسات ومشروعات واستراتيجيات تكاملية.

تداعيات "الفوضى البنّاءة"

"الفوضى البنّاءة" مخطّط أميركي/إسرائيلي لتفكيك الدولة القطرية وإنتاج الدولة الطائفية والإثنية تنفيذا" للمشروع الذي تقوده الولايات المتّحدة لولادة شرق أوسط جديد لا مكان فيه لأيّ شكل من أشكال الدولة الوحدوية الوطنية أو القومية. تداعي آليات فرض الانتظام العام، شلل المؤسسات العامة، اهتزاز السلم الأهلي، النزوح والفرز السكاني، الهجرة القسرية جميعها من تداعيات "الفوضى البنّاءة"

الصراع الطبقي

تشهد الدولة القطرية تدهوراً في أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية ما أضاف إلى الصراعات الداخلية صراعاً طبقياً تلاشت معه الطبقة الوسطى ضامنة الاستقرار وقاعدة التطوّر الاقتصادي والاجتماعي. العدالة الاجتماعية ظلّت الغائب الدائم عن برامج الحكم في الدولة القطرية فكثرت المظالم وتعمّقت الشروخ بين الطبقات الاجتماعية وازدادت درجات الفقر والتفاوت المعيشي بين فئات المجتمع.

الدولة مجرّد سلطة فاسدة

الطغمة الحاكمة حوّلت الدولة إلى مجرّد سلطة لتقاسم المغانم فعمّ الفساد جميع مفاصلها وضاعت فرص التنمية البشرية فازدادت حدّة التناقض بين الطبقات والمصالح.

سياسة التخادم الريعي

أرباب الرأسمالية المتوحّشة استغلّوا هذه السياسة فاستتبعوا الدولة فنهبوا ثرواتها. إنّ هيمنة الرأسمالية العالمية المتوحشة على الثروات العربية أسهمت إلى حدّ بعيد في تعميق الشروخ الاجتماعية في بنية المجتمعات القطرية ما أصاب وحدة الدولة بالتفكّك.

السيادة المنقوصة

لا سيادة لأيّ دولة بدون وحدة داخلية. مفهوما السيادة والوحدة متلازمان. السيادة والوحدة واجبا الوجود معاً. يوجدان معاً أو ينتفيان. التفكّك الداخلي جعل سيادة الدولة القطرية سيادة منتفية الوجود ما جعلها مباحة للتدخّلات الخارجية، تدخّلات الدول بأشكالها كافة، من الإملاء السياسي حتى الاحتلال العسكري، كما شركات النهب الرأسمالي فضلاً عن الجماعات الدينية التي لا تؤمن أصلاً بسيادة دول وحدود. 

وجود القواعد العسكرية الأجنبية على أراضي الدولة القطرية انتقاص فاضح من سيادتها الوطنية وأمنها الوطني مشفوعاً بالإنفاق الغير مجدي على القوات العسكرية والأمنية. اقتصادات التسلّح على المستوى القطري استنزاف هائل للثروة لأنّه لم يأت تلبية لمقتضيات الأمن الوطني أو تنفيذاً لمعاهدة الدفاع العربي المشترك أو في سياق حماية الأمن القومي العربي أو لإحداث توازن استراتيجي في الصراع العربي الصهيوني.

غياب الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان

آليات التداول الطبيعي والسلمي للسلطة، احترام الحريات الخاصة والعامة وتامين حقوق الإنسان وضمان كرامته وتوفير شبكات الأمان الاجتماعي والعدالة الاجتماعية ومكافحة الفقر والبطالة والجريمة والهجرة خصوصاً هجرة الأدمغة مفردات وصيغ منعدمة الوجود في معاجم الأنظمة والحكّام. الأنظمة الحاكمة تنقصها الشرعية الشعبية وهي تسوّغ "شرعيتها الدستورية" بالمبايعة أو بديمقراطية 99،99/100 فالديمقراطية الحقيقية بدت حالة مستعصية في الدولة القطرية.

الحركات الانفصالية

الهويات الفرعية أو "المقموعة" المذهبية والإتنية بدأ بعضها يتحوّل إلى حركات انفصالية كما هي الحال في العراق وسوريا واليمن وليبيا والمغرب والجزائر والسودان (النزاع في دارفور) وعي الهوية الفرعية، بدأ في إطار ثقافي، وانتقل إلى إطار سياسي لا مركزي ثمّ اتحادي وبات يؤشّر بفعل الحروب الراهنة للانتقال إلى كيان سياسي انفصالي.

الإسلام السياسي

الدولة القطرية الواحدية والمركزية الصلبة قبل التحوّلات الحاصلة في الوطن العربي: (العراق – سوريا – مصر - الجزائر – اليمن)، بدأت تشهد حركات احتجاجية متنامية طابعها فئوي طائفي ومذهبي وإتني جاءها الإسلام السياسي فعمّق الانقسامات بين مكوّناتها ورسّخ فروقات بنيوية وثقافية حادّة. الإسلام السياسي كما تمارسه بعض الحركات هو حكماً إسلام مذهبي من شأنه تعميق الانقسامات بين مكوّنات المجتمع القطري وفرض سلطة حاكمة فئوية وتغييب مفهوم الوطنية عن الدولة والمجتمع أفراداً وجماعات ما أوجد تناقضاً بين الوطنية والإسلام. قبائل وطوائف وأعراق ومذاهب ولغات لم يستطع الإسلام كدين وثقافة بما له من قوّة تأثير أن ينجز تكاملها الوطني ما يثبت أنّ الدين ليس عاملاً توحيدياً بالضرورة بل له من يستغلّه لجعله عامل تفرقة. منظومة القيم العربية والإسلامية تعرّضت لاختراقات واسعة بفعل العولمة الثقافية ما أفقد المجتمعات العربية منعتها في صراع الهويات الحضارية.

غياب دولة الحقّ وحكم القانون

فقدان التجانس الاجتماعي له آليات ضبط وفي رأسها القوانين العادلة التي تضعها دولة الحقّ وشبكة علاقات إنسانية ومصالح ومنظومة قيم وعادات تبسط التوازن والتكامل بين مكوّنات المجتمع. الدولة القطرية لم تعرف حكم القانون العادل ما انعكس سلباً على شبكة العلاقات ومنظومة القيم. الدولة القطرية بفضل أنظمة الاستبداد والحكم الفئوي فشلت في تحقيق التكامل الوطني..السلطة المركزية المطلقة والمتغوّلة توظّف مؤسسات الدولة لحسابها الخاص وتمنع مؤسسات المجتمع من تشكيل السلطة البديلة. هنا المجال العام يتحوّل إلى ملكية خاصة يتصرّف بها الحاكم كيفما شاء. التناقض بين الدولة/السلطة الاستبدادية والمجتمع من أهمّ الديناميات التاريخية الفاعلة في انهيار الدولة القطرية.

عدم الكفاءة في إدارة التنوّع والتعدّد

التعدّدية في المجتمعات القطرية ليست مفتعلة بل هي من طبيعة تكوينية وجودية. تكون مصدر قوّة وغنى ثقافي وحضاري وتماسك وطني في دولة تحسن إدارة التعدّد أو التنوّع وتكون مصدر نزاع وتفكّك في دولة نظام حكمها لا يعترف بالتعدّد والمشاركة كما كانت عليه أنظمة الحكم في الدولة القطرية. بعض هذه الأنظمة راهن على نجاحه في خلق اندماجات أو انصهارات مصطنعة سرعان ما انكشف زورها فتصدّعت فور ضعف الأنظمة أو انهيارها.

مجتمع أهلي لا مدني

غلبة معايير المجتمع الأهلي على معايير المجتمع المدني مسألة سهل رصدها في المجتمعات القطرية آخذاً بالاعتبار التفاوت النسبي بين مجتمع وآخر. المجتمع الأهلي مفكّك بطبيعة تكوينه والمجتمع المدني يقوم على فرضية التماسك بشرط الاستقلال عن السلطة والتمتّع بثقافة مقاومة التوظيف والتمويل الخارجي. إنّ بعض التجارب (خصوصاً في مصر لبنان) لا تؤشّر إلى إمكان التعويل على مؤسسات المجتمع المدني لبلورة متّحد اجتماعي فاعل وقادر على بناء دولة متماسكة.

الدولة ومكوّنات المجتمع القطري، تفاعلات التهميش السياسي/الاجتماعي

انعدام مفهوم المواطنة في تحديد علاقة الدولة بالمواطنين وعلاقة المواطنين ببعضهم البعض ظاهرة تكاد تكون عامة في مجمل الدول العربية. وهو أحد أهمّ عوامل عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي فيها، فالتهميش بأشكاله كافة خصوصاً التهميش السياسي وإلغاء الحقّ في المشاركة بفعل تحكّم العوامل الإيديولوجية بالسلطة أيّا" كان شكلها أو عقيدتها  لعدم اعترافها أصلا" بتعدّدية المكوّنات السياسية في المجتمعات العربية إذ إنّ الفكرة الاندماجية (كما كانت عند التيّار القومي) أو السلطوية المطلقة (كما هي عند الحاكم الفرد) كانت هي المسيطرة على المنهجين الفكري والعملي ما اشعر بيئات الإسلام السياسي وبيئات الشباب العربي الليبرالي بأنّها المستهدفة من هذين التهميش وإلغاء الحقّ في المشاركة.

هذا الخلل البنيوي في تركيب السلطة الوطنية مشدوداً إلى خلل بنيوي آخر من طبيعة اجتماعية طبقية رافق الدولة القطرية حتى انهيارها أو حتّى وصولها إلى شفير الانهيار أو هي في الطريق إليه بفضل ما أنتجه من هويات وطنية منقوصة ومتصادمة.

بدأت تفاعلات التهميش السياسي/الاجتماعي باحتجاجات قابلة للاستيعاب فتمكّنت منها السلطات القائمة وفق تدابير خاصة تراوحت بين حدّي القمع والاستجابة.

في السنوات الأربع من عمر "الربيع العربي" تحوّلت تفاعلات التهميش إلى "ثورة" قادتها في البداية حركات شبابية متحرّرة وطنية نزيهة عربية وحدوية سيادية حضارية سلمية ثمّ التحقت بها واستغلّتها تنظيمات إسلامية بدعم خارجي أميركي/غربي/تركي واضح وفق أجندات تقود إلى تسلّم السلطة في غير قطر عربي.

في مصر واجهتها ثورة شعبية مضادّة حظيت بدعم الجيش المصري. في تونس دخلت في ائتلاف حاكم لتمرير المرحلة الانتقالية. في سوريا انكفأت لصالح تنظيمات إسلامية مسلّحة. في اليمن تحوّلت إلى ثورة حوثيّة. في ليبيا تحوّلت من أطلسية إلى قبلية/إسلامية إلى حروب مركّبة. أمّا في البحرين فالقيادات الشيعية تقود حركات الاحتجاج والتظاهر.

كيف لهذه التفاعلات أن تعود إلى المسار الطبيعي "للثورة الشعبية" التي بشّرت بإطلالة "الربيع العربي" وحالها انتهى إلى ما انتهى إليه من تدمير وفوضى واحتراب ما أدخل الدولة القطرية في مصير مجهول.

لقد عملت التدخّلات الخارجية الدولية والإقليمية على تغذية التفاعلات الضدّية في المجتمعات العربية باسم العدالة وإنصاف الطوائف والقوميات وإقامة الأنظمة الديمقراطية فعمّمت العنف والإرهاب وأغرقتها في الحروب الأهلية فأصاب التفكّك بعض الدول العربية فأعيد تركيبها على أساس طائفي (لبنان) أو على أساس طائفي/إتني (العراق) أو على أساس ديني (السودان) ما يعني أنّ الدول المرشّحة للتفكّك سيعاد تركيبها وفق هذه النماذج، ما يعني تالياً أن الوحدات الوطنية القطرية لن تبنى على أساس وحدة الشعب. فكيف لمشروع الوحدة العربية أن يعبر إلى حيّز الواقع ومنه إلى مساحة الوطن العربي كلّه والشعوب القطرية لم تقم لها وحدة؟!

من هنا نفهم أنّ الأسس التي ستبنى عليها الوحدات الوطنية تؤشّر إلى عدم إمكان إنجاح المشروع الوحدوي  أو توفير فرص إنجاحه.

فضلاً عن التدخّلات الخارجية العاملة على إعادة صياغة الدول القطرية دينامية التفاعلات الذاتية داخل الأقطار تغذّي بدورها أرجحيّة التفكّك والانهيار. إذا كانت مصر قد نجحت في إنقاذ وحدتها بتلاحم الجيش وأكثرية شعبية موصوفة، وإذا كانت تونس قد نجحت في إنقاذ وحدتها بائتلاف وطني واسع وبدستور إصلاحي مدني متقدّم وبانتخابات نيابية حرّة ونزيهة فالأمر نفسه قد لا يصحّ في ليبيا واليمن وسوريا ما يقدّم أطروحة التفكّك على أطروحة الوحدة.

* تماهي الدولة القطرية بالنظام السياسي، مصير الدولة القطرية من مصير الأنظمة، العراق نموذجاً

تماهي الدولة بالنظام يختلف بين دولة عربية وأخرى. الدولة في مصر وتونس لم تتفكّك بانهيار النظام أو تغيير الحاكم على خلاف ما هي عليه الدولة في ليبيا واليمن والعراق.

في مصر وتونس لا مؤشرات لوجود نزعات انفصالية على خلاف ما هي عليه الحال في شرق ليبيا وجنوب اليمن وشمال العراق.

الأنظمة الاستبدادية الفئوية (كل نظام استبدادي مدني هو حكما" فئوي، وكلّ نظام استبدادي ديني هو حكما" مذهبي) تقسّم المجتمع إلى أديان وطوائف ومذاهب وسلالات وقبائل وعشائر وقوميات وأقليات للسيطرة عليه، تحتكر الهوية الوطنية وتوزّع على مكوّناته الهويات الفرعية وتغذّي تناقضاتها فيتعذّر بناء الدولة الوطنية الديمقراطية، دولة الحقّ والمشاركة المتاحة لجميع المكوّنات، وتبقى سلطة الاستبداد الفئوي قائمة. سلطة قويّة ومجتمع ضعيف تلك هي المعادلة الناتجة عن تطبيقات الأنظمة الاستبدادية.

النظام العراقي السابق تمكّن من ضبط التناقضات البنيوية في المجتمع العراقي وتفاعلاتها فأنجز وحدة قسرية لم تندمج فيها جميع مكوّناته الدينية والقومية ولم تتعامل معها على أساس المساواة في الحقوق وفي الواجبات فقامت الدولة واستمرّت بقوّة النظام لا بقوّة المجتمع. لذلك ما أن سقط النظام حتى انهارت الدولة وعمّ الانقسام وراح كلّ مكوّن يبحث عن الصيغة الضامنة لحقوقه ومصالحه الذاتية.

الصيغة الفيدرالية كرّسها الدستور العراقي الحالي والتزمتها المكوّنات الأساسية المنخرطة في العملية السياسية منذ الاحتلال حتى اليوم.. ولكن التطوّرات الميدانية بعد إعلان "الدولة الإسلامية في العراق والشام" وبروز دور إقليم كردستان العراق في مواجهتها مدعوماً من جهات إقليمية ودولية تجعل السؤال مشروعا" عن مصير الصيغة الفيدرالية.

الصيغة الفيدرالية على مستوى مكوّنات الدولة القطرية تؤدّي إلى كيانات سياسية مفكّكة وهزيلة ومرتبطة بأجندات خارجية ما يلغي إمكان تجاوز هذه الصيغة إلى صيغة الدولة الوطنية المستقلّة القويّة بقوّة مجتمعها وليس بقوّة نظامها. قوّة الأنظمة ما لم تستمدّ قوّتها من قوّة المجتمع تدمّر الدولة والمجتمع معا".

وعليه،

تغيير الأنظمة يصاحبه دائما" البحث عن الدولة بحيث يبدو أنّ المطلوب هو إعادة بنائها لذلك تبدو الدولة القطرية في وضع تشكّلي دائم. اللاّ استقرار هو الصفة الملازمة لها. مصير النظام الحاكم يحدّد مصير الدولة. تلك مفارقة خاصة بالدول العربية. من طبيعة الأمور أن تتغيّر الأنظمة السياسية وتبقى الدولة (الكيان السياسي) ثابتة. هذا في الدول التي اكتسبت شرعية وجودها من إرادة أبنائها، في حين أنّ الدول العربية اكتسبت شرعية وجودها إمّا بإرادة استعمار وإمّا بإرادة حاكم. من هنا جاء هذا الربط العضوي بين نظام الحكم والدولة. تفكّك النظام ينذر بتفكّك الدولة هذه هي القاعدة المستمدّة من تجارب تغيير الأنظمة في الدول العربية، فأمسى النظام أكبر عدو للدولة.

"الربيع العربي" الذي كان له أنّ يغيّر أنظمة الاستبداد والفساد والتبعية انتهى إلى مكان آخر بات يطرح فيه مصير الدول المعنية ومصير الدول المنتمية إلى الإقليم الجغرافي نفسه بداعي التداخل بين مكوّنات الإقليم الديموغرافية والجيو/سياسية. بهذه الوظيفة التفكيكية يرى بعض المحلّلين إلى "الربيع العربي" ولأجلها لاقت قواه الأساسية (الإسلامية) الدعم الإقليمي والدولي الساعي إلى تغيير منطقة الشرق الأوسط فزعزعة استقرار الأنظمة تمهيدا" لإسقاطها تخطّت الرغبة في إسقاطها إلى إسقاط الدولة (العراق، ليبيا، اليمن، سوريا..)    

مصر تمكّنت من تخطّي إسقاطها. والنظام الحالي يستقرّ تدريجيا" بنسج علاقات دولية متوازنة وبعملية سياسية داخلية متاح دخولها أمام جميع القوى المؤمنة بالديمقراطية، وبالتشدّد في ضرب الإرهاب في سيناء وسواها فضلا" عن الدعم الاقتصادي الذي توفّره لها السعودية والكويت والإمارات. هذا لا ينفي وجود القبضة العسكرية والأمنية على مفاصل النظام لأنّ مصر لم تعد تتحمّل أيّ معارضة مسلّحة أو عنفيه تقودها إلى انهيار أمني واقتصادي وسياسي.

من هنا إنّ احتمالات تمكّن مصر من مواجهة الفوضى المسلّحة التي قد تأتيها من الحدود الليبية أو من سيناء قويّة للغاية. هذا والولايات المتحدة حتى اليوم لم تجد في علاقات مصر الإقليمية والدولية ما يتهدّد مصالحها الحيوية ما يعدّ عاملاً مؤاتياً لاستقرار النظام.

تونس بدورها تمكّنت من تخطّي الانقسام الداخلي والحرب الأهلية في مرحلتين مرحلة الحكم الائتلافي الانتقالي ومرحلة إقرار الدستور الجديد وإجراء الانتخابات الرئاسية. أصلاً تونس كدولة لم تكن مستهدفة من أيّ مخطّط تفكيكي لا داخلي ولا خارجي. الهدف منذ البداية كان واضحاً: إسقاط النظام الأمني. وإسقاط النظام في تونس لا يمكن أو يفضي إلى انهيار الدولة لأنّ مكوّنات الشعب التونسي هي أقرب إلى التجربة المدنية الحديثة في إدارة النزاعات والتنوّع.

سوريا

أما سوريا فنظامها ما زال يقاوم السقوط وثمّة تعادل في موازين القوى قد يسمح لاحقاً للنظام بأن يسجّل بعض النقاط الإيجابية لصالحه خصوصا" بعد سيطرة مقاتلي "الدولة الإسلامية في العراق والشام" على مناطق واسعة من سوريا. لقد تمكّن النظام من إدارة الحرب في الاتجاه المعاكس: من حرب كونية عليه إلى حرب كونية على داعش من دون التخلّي عن خطّة إسقاطه فالتبدّل أصاب الأولويات ما يشير إلى أنّ النظام لن يسقط في المدى المنظور. هذا لا يعني أنّ الخطر على وحدة الدولة السورية قد زال. فتقسيم سوريا مشروع حيّ ومستمرّ بصرف النظر عن إرادة الشعب السوري سواء منه المؤيّد للنظام أو المعارض.

"... علينا إحراق سوريا من الداخل.. وهذا ما يحدث الآن.." (كيسينجر، من مقابلة له مع صحيفة نيويوركر، آب 2012

لقد دخلت سوريا في مرحلة لم يعد فيها النظام قادرا" على حماية نفسه من تفاعلات العوامل الداخلية والخارجية بما فيها التدخّل العسكري الدولي (إنّه ضدّ داعش في المرحلة الراهنة. من يضمن ألاّ يتحوّل ضدّ النظام في مرحلة لاحقة؟) وخطر هذه التفاعلات على  وحدة الدولة السورية يتعاظم ما دامت المواجهة قائمة على أرضها بين المحور الأميركي/الصهيوني/الغربي والمحور الروسي/الصيني/الإيراني وحلفائهما الإقليميين والمحلّيين.

هذه التفاعلات جعلت الوضع في سوريا معقّدا" ومركّبا" لدرجة بات فيها وضع بلاد الشام برمّته أمام خرائط جيو - سياسية جديدة يرتاح لها الكيان الصهيوني.

اليمن، من القبلية إلى المذهبية إلى الحروب المركّبة

العملية السياسية التي أعقبت سقوط علي عبد الله صالح وضعت اليمن على أبواب حرب أهلية وعرّضته لحرب تشنّها عليه قوى التحالف بقيادة المملكة العربية السعودية.  الوضع الراهن في اليمن ينذر بمزيد من التفكّك وانهيار الدولة وليس أمام اليمنيين سوى خيارين إمّا العودة إلى الحوار بإشراف الأمم المتّحدة والتفاهم على إعادة تركيب الدولة ونظامها السياسي وإقامة سلطة شرعية تمثيلية وإمّا الدخول في حرب أهلية معقّدة التركيب والولاءات والأهداف يستحيل معها اجتناب مغامرات التقسيم والانفصال.

مخرجات مؤتمر الحوار الوطني واتفاقية السلم والشراكة يؤكّدان حق الشعب اليمني بمكوناته السياسية والاجتماعية والثقافية كافة في العودة إلى الحوار والتصدّي لما يهدد وحدة اليمن وأمنه واستقراره وتماسكه في وجه المؤامرات الخارجية التي تريد الزج باليمن في حروب أهلية.

وحدة اليمن لن تتحقّق بدون تسوية سلمية والعودة إلى طاولة الحوار وإشراك جميع القوى في العملية السياسية.

ليبيا

"الربيع الأطلسي" دمّر ليبيا نظاماً ودولة وقادها إلى احتمالات السقوط النهائي. القوى السياسية مفتّتة. الثروة منهوبة والاقتصاد ينزف. والشعب الليبي يبدو أنّه العدو الأكبر لنفسه. سلطة حكومية لا سيادة لها وجيش ليبي يقاتل تنظيم الدولة الإسلامية وحوار لتسوية شاملة على قاعدة الوحدة الوطنية مؤشّرات نجاحه تبدو ضئيلة: صراعات بين القبائل، صراعات بين قوى الثورة، بين عرب وأفارقة، بين سلفيين جهاديين والجيش الليبي...

السعودية

السعودية ليست في مأمن من تفاعلات (الحرب على اليمن وفيه)، وليست في مأمن من تفاعلات الحروب في العراق وبلاد الشام فاستقرار نظام الحكم فيها العائد أصلا" إلى قوّة اقتصادها يواجه تحديات تأتيها من خارج حدودها لتجد في الداخل ما يحدّ ويضعف إمكان التصدّي لها: الفجوات التي هي على اتساع مطّرد بين الطبقات الاجتماعية، الحراك الشيعي في المنطقة الشرقية قد يخرج عن "الطاعة" إلى الثورة في حال لقي الدعم الكافي من إيران على شاكلة ما هو قائم في اليمن والبحرين، الدعوات الليبرالية الآخذة في التصعيد خصوصا" لجهة حقوق المرأة والتعبير السياسي. زد إلى كلّ ذلك الخلافات البينية التي قد تنشأ داخل الجيل الثالث للعائلة الحاكمة. هذا لا يعني بالطبع أنّ النظام السعودي مهدّد بالسقوط ولكنّه سيرتبك بالطبع نتيجة الحرب التي يقودها في اليمن والحروب الدائرة في جواره  ما لم يعمد إلى وقفها والإسهام الفعلي في إنهائها وإيجاد الحلول السلمية التي تؤمّن الاستقرار الإقليمي الشامل.

ما أردنا قوله هو أنّ معادلة سقوط النظام  وتفكّك الدولة صحيحة حتى في الدول العربية المستقرّة التي لم تصبها تداعيات "الربيع العربي".

الدولة القطرية وصيغ الحكم القومي، جدلية الانهيار

إنّ أخطر ما يواجه مشروع الوحدة العربية هذا السؤال: لماذا انهيار الدولة القطرية (أو ملامحه) أصاب الدول التي قامت فيها صيغ الحكم القومي كالعراق وسوريا والسودان واليمن ومصر والجزائر؟

صيغ الحكم القومي للدولة القطرية انهارت وبانهيارها انهارت الدولة أو هي فقدت تماسكها الداخلي. من يتحمّل المسؤولية؟ صيغ الحكم القومي أو بنية المجتمع القطري؟ أسوء إدارة أم عطب في الصيغة؟ أعدم التزام للفكر القومي أم عدم صلاحية هذا الفكر للتطبيق في الواقع القطري؟

نسأل وقد تتعدّد الإجابات بتعدّد وجهات النظر عند أصحاب الفكر القومي وعند خصومه إنّما الثابت واقعيا" أنّهما معا" (الصيغة والدولة) في جدلية انهيار متبادل.

الإيديولوجيا القومية القائمة على فكرة الوحدة لم تهزم وهي تغطّي مساحة الوطن العربي.

الأحزاب والحركات القومية التي حكمت باسمها لم تتمكّن من تغطية ما يتجاوز حدود دولتها القطرية فارتدّت إلى الداخل القطري وصرفتها عن مشروع الوحدة العربية موجبات تثبيت سلطتها في مجتمعات معقّدة التركيب ومتعدّدة الانتماءات الما فوق والمادون وطنية (الانتماء الديني والانتماء العشائري فضلا" عن الإتني) وما يرافقها من نزاعات متأصّلة في بنياتها الفكرية والعقيدية والقيمية فاستخدمت "عنف الدولة" تحت عنوان حماية الوحدة والسلم الأهلي.. العنف يستجرّ العنف في مجتمعات لا تنطبق عليها مواصفات المجتمع السياسي ما أدّى إلى عسكرة الأنظمة وقيام سلطة الاستبداد المطلق.

التفاعلات الضدّية في المجتمع القطري والعربي عموما" يقوّيها تياران: التيّار القومي بمكوّناته كافة والتيّار الديني بمكوّناته كافة على الرّغم من محاولات التنسيق والتعاون التي قامت بها مكوّنات من الطرفين. مثال تلك التفاعلات الأدعى والأظهر ما حصل منها والحاصل راهنا" في مصر وسوريا منذ عهدي الرئيسين جمال عبد الناصر وحافظ الأسد امتداداً حتى اليوم.

بهذا المعنى بنية المجتمع القطري لا تتقبّل بسهولة الصناعات الإيديولوجية الجاهزة والمسقطة عليها من بنية ثقافية طموحة أو انقلابية على السائد. بالنظر إلى هذه المسألة المعقّدة في العلاقة بين بنية المجتمع القطري وبنية الإيديولوجيا وصيغ ترجمتها إلى أنظمة حكم تمّت استدراكات على المستويين العملي والنظري لإيجاد مساحة ائتلاف وتوافق أو مصالحة بين التيّار القومي من موقع السلطة والقيادة والتيّار الديني من موقع المعارضة، خفّت في إثرها حدّة التباينات ولكنّها عادت وطفت على سطح الواقع مع قدوم "الربيع العربي" على قاعدة أنّ "الإسلام هو الحلّ البديل".

ذهب البعض إلى تحميل صيغ الحكم القومي في الدول التي حكمتها مسؤولية التردّي السياسي والاجتماعي والاقتصادي والعسكري والأمني وذهب البعض الآخر إلى أبعد من ذلك حين تجاوز صيغ الحكم واعتبر أن الإيديولوجيا القومية القائمة على فكرة الوحدة العربية تحمل في ذاتها عطباً تكوينياً بتخطّيها مكوّنات المجتمعات والدول القطرية.

بسلاح الديمقراطية ووجهت صيغ الحكم القومي.. وفشلها في إدارة شؤون الدولة والمجتمع أعاده البعض إلى طبيعة الحكم الاستبدادي. هذا الرأي صحيح ولكنّه لا يمتلك كلّ الحقيقة لأنّ قراءة حفرية سوسيو/ثقافية في قاع المجتمعات القطرية تظهر كمّية التراكم التسلّطي المتحكّم بمفاصل الحياة العامة والمركون في أذهان القيّمين عليها. هذه المقاربة العلمية لا تبتغي تسويغ الحكم الاستبدادي بل لتظهر أنّ السلطة من خارج الحكم لا تقلّ شراسة عن السلطة في الحكم.

* الدولة القطرية وتداعيات "الربيع العربي"

تحركات شبابية وشعبية بلا قيادة موحّدة ولا برنامج ولا خطة استراتيجية ولا إيديولوجيا ثورية أو انقلابية، مكتفية بإطلاق بعض الشعارات المتبدّلة وعسكرة التحرّك بالإرادة المسبقة أو بالوقوع في فخّ الاستدراج، قادت بعض المجتمعات العربية إلى الفوضى ودولها إلى الفشل في ضبط الساحات وأظهرت ضعف مؤسسات المجتمع المدني لا بل تلاشيها كما ضعف وهشاشة مؤسسات الدولة بما فيها، في بعض الدول، المؤسسة العسكرية والأمنية (حال اليمن وليبيا) التي هي المؤسّسة الأقوى لا بل عليها قامت واستمرّت لعقود الدولة القطرية.

طاقة الشباب العربي الثوري الديمقراطي بدّدتها حركات الإسلام السياسي كما الجهادي وأطبقت عليها مجاميع مصلحية ووصولية كانت جزءا" من الأنظمة الحاكمة واحتوتها مؤسّسة الجيش بشعار حماية الثورة.

من "أخونة" الحراك الشعبي إلى "أخونة الدولة" في مصر هو المسار الذي سلكه الإخوان المسلمون معتمدين نهج الإقصاء والتفرّد في قيادة الدولة والمجتمع ما كاد أن يذهب بمصر إلى حروب أهلية لو لم تقع أحداث 30 يونيو بعنوان الثورة المضادّة التي قادتها الجماهير ووضعتها أمانة بيد الجيش المصري. فمصر، والحالة هذه، فضلا" عن إعلان قيام ما يسمّى ب "ولاية سيناء" الموالية ل "داعش" والأعمال الإرهابية التي تقوم بها بعض الحركات الإسلامية في الداخل المصري ما زالت الدولة قويّة وقادرة على حماية وحدتها.

من حركة إحتجاج سلمية في سوريا إلى تكوين إئتلاف معارض في الخارج لا إسناد شعبيا" لبعض أطرافه ومنه إلى "داعش" و "النصرة " وسائر التنظيمات الإسلامية المسلّحة فضلا" عن تدفّق المسلّحين الأجانب هو المسار الذي فقدت فيه الحركة الإحتجاجية السورية فاعليتها باستثناء ما يعرف بمعارضة الداخل المؤمنة والعاملة للحلّ السلمي والرافضة منذ البداية لاستخدام السلاح والمناهضة للتدخّل الأجنبي والمقيّدة بعاملين إثنين: إستعصاء إسقاط النظام وعدم قدرة النظام على تحقيق انتصار عسكري حاسم في المدى المنظور فتكتفي بالتجاوب مع المبادرات المطروحة للحلّ السلمي والتي حتى الساعة لم تؤشّر فعليا" إلى إمكان إستعادة وحدة الأرض والمجتمع. فسوريا، والحالة هذه، فضلا" عن "طموحات" الأكراد في الشمال السوري ما زالت مهدّدة بوحدة الأرض والشعب والدولة.

أمّا اليمن فوضعه يبدو أشدّ سوءا" ممّا كان عليه قبل اشتداد قوّة الحوثيين وتحالفهم مع الرئيس السابق علي عبدالله صالح وسيطرتهم على العاصمة صنعاء وفرضهم لواقع جيو-سياسي جديد. يقابله واقع آخر تسيطر عليه "القاعدة" وواقع آخر في الجنوب أوجده عبد ربه منصور هادي بعد لجوئه إليه ومغادرته إلى الرياض، فاليمن، والحالة هذه، فضلا" عن الحراك الجنوبي الذي ما زالت بعض قواه السياسية تطالب بالإنفصال وبعضها الآخر يعترف لعبد ربّه منصور هادي بشرعية رئاسته على كلّ اليمن، وفضلا" عن المشروع الفيدرالي الذي كانت قد توافقت عليه معظم القوى السياسية اليمنية والقاضي بتقسيم اليمن إلى ستّ فدراليات،  زد إل ذلك الحرب التي يشنّه عليه تحالف عربي واسع بقيادة المملكة العربية السعودية ،ما زال آخذا" دربه إلى  التفكّك والإنهيار.

ليبيا كما يبدو من ظاهر الحال وباطنه بفضل حروبها المركّبة خصوصا" القبلية و"الداعشية" منها وعدم قدرة شعبها على إقامة سلطة فيها إئتلافية ومستقرّة فضلا" عن التدخّل الأطلسي المكشوف وأطماع دوله بالثروات باتت مصنّفة كالصومال في عداد الدول الفاشلة.

أمّا العراق ومنذ الاحتلال الأميركي وقانون بريمر وسياسة الحكومات المتتالية فقد نشأت فيه مقاومة عراقية كان لها إسهام قوي في طرد الاحتلال وفي رفض نتائجه وقوانينه ورفض ما سمّي بالعملية السياسية برمّتها. جاءت ممارسات الإقصاء واللاّعدالة بين المناطق والمكوّنات العراقية وتدخّلات الجوارين الإيراني والسعودي لتسهم إلى عوامل خارجية أخرى في خلق "داعش" التي باتت القوّة الأساسية المسيطرة على مساحات واسعة من أراضي العراق والمزيلة للحدود إمتدادا" في اتّجاه سوريا فضلا" عن تمدّدها السريع صوب الحدود الأردنية والسعودية والتي تعدّ من أخطر ما يهدّد أقلّه راهنا" وحدة العراق وسوريا. فكيف للعراق أن يستعيد وحدة أرضه وشعبه ما دام وضعه كما هو باد على يد "داعش" فضلا" عمّا هو عليه وضع كردستان العراق وواقع التدخّلات الخارجية الإقليمية والدولية؟!

لبنان بدوره ليس بعيدا" من هذا السيناريو التفكيكي. فبلاد الشام مقبلة وفق تدحرج الأوضاع في العراق وسوريا وفلسطين المحتلّة على وضع- جيوسياسي جديد: إمّا أن ينتصر محور المقاومة وفي ذلك ترتيب جيوي-سياسي وحدوي مختلف عمّا هو قائم. وإمّا أن ينتصر المحور الأميركي-الصهيوني وفي ذلك ترتيب جيو-سياسي تفكيكي وتفتيتي مختلف عن الإثنين معا". وفي الحالين يبدو أنّ دول سايكس- بيكو ذاهبة إلى ترسيمات وخرائط جيو-سياسية جديدة. 

هذا هو الواقع الجيو-سياسي في بعض الدول العربية الناتج عن تداعيات "الربيع العربي" ما يشرّع الكلام على مخاطر تفكّك الدولة القطرية وتداعياته على مشروع الوحدة العربية.

ما بعد "الدولة الإسلامية في العراق والشام"

بعيدا" من نظرية المؤامرة في إيجاد داعش وإظهارها بهذه القوّة للقيام بوظائف إقليمية متعدّدة، وبعيدا" من سردية الأسباب التي كانت في أساس قيام هذه "الدولة" ومقارباتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والجهادية، ومن منظور آخر، طبيعة البحث تقتضي مسألة أخرى: 

تنظيم القاعدة لم يطلق عمله في العراق كما ادّعت زورا" الإدارة الأميركية في زمن بوش الإبن ووزير خارجيته كولن باول واختلاقا" لسبب إضافي لتدمير الدولة العراقية بل إنّ تنظيم القاعدة بدأ ينشط مع انهيار الدولة العراقية على يد الاحتلال الأميركي. انهيار الدولة العراقية إذا" كان مخطّطا" أميركيا" مدروسا" كمقدّمة لتنفيذ مؤامرة "الفوضى البنّاءة" واستجلاب مقاتلي القاعدة أتى في هذا السياق.

على النحو الذي انتهى في أفغانستان بدأ تنظيم القاعدة بمقاتلة جيش الاحتلال ثمّ انخرط في الحرب الأهلية بقيادة أبو مصعب الزرقاوي في مواجهة مفتوحة مع "قوات بدر" و"الصحوات". تنظيم القاعدة وسّع حركة نشاطه بدءا" بجيش الاحتلال وانتهاء بأطراف العملية السياسية سنّة وشيعة ما أشعل مسلسل الحروب الداخلية. والهدف هو الإمعان في تدمير الدولة العراقية.

هذه الحروب بلغت حدّها الأقصى في عهد المالكي الذي لم يتمكنّ من إقامة حكم متوازن بين مكوّنات الشعب العراقي في نظام سياسي قائم على المحاصصة الطائفية.

عدم إقامة حكم متوازن أسهم في المزيد من الانهيارات في مؤسسات الدولة خصوصا" المؤسسة العسكرية ما مكّن التنظيم من الاحتلال السريع لعدد من المحافظات حتى إزالة الحدود مع سوريا ودخولها ووصوله إلى الحدود التركية والأردنية والسعودية.

تنظيم القاعدة بمسمياته المتعدّدة لم يطلق أعماله في سوريا إلاّ بعد توسّعه في العراق وبعد نجاح الجيش العربي السوري في استرجاع العديد من المواقع من أيدي التنظيمات العسكرية المسلّحة، وبالسرعة نفسها تمكّن من السيطرة على مساحات واسعة من سوريا فأعاد التوازن إلى الميدان وهو توازن مراقب ومحفوظ إقليميا"(تركيا وإسرائيل) ودوليا" (قوات التحالف). والهدف تدمير الدولة السورية.

هذا التمدّد السريع في العراق وفي سوريا أنتج معطيات تفكيكية وتفتيتية إضافية عمّا كان موجودا" في أصل البنية العراقية والسورية. فالسلطات المركزية لم تعد قادرة على بسط سيادتها الوطنية على كامل ترابها الوطني فضلا" عن طموحات استقلالية لدى الأكراد وجدت فرصتها التاريخية في تعزيز استقلاليتها عن حكومات مركزية عاجزة عن حمايتها فلجأت إلى وسائل حماية خاصة عسكرية وسياسية فلاقت دعما" إقليميا" ودوليا" ما جعلها تنتصر في أمّ المعارك "كوباني" وفي مواجهات أخرى في الشمال العراقي.

فشلت العملية السياسية في استيعاب السنّة بالرغم من أنّ نظام الاحتلال قام على المحاصصة الطائفية/الإتنية ما قدّم فرصة ذهبية لإعادة تكوين التنظيم فتمكّن من استجماع قواه العسكرية مضافا" إليها قوى مسلّحة نشأت في مناطق سنّية ساءها تصرّف حكومة المالكي فضلا" عن قيادات عسكرية عليا من الجيش العراقي السابق.

هذه المكوّنات عملت تحت عنوان: "تنظيم الدولة" وتمكّنت خلال أيام من احتلال ما يقارب الستين بالمئة من مساحة العراق وبدأت تشكّل خطرا" حقيقيا" على بغداد وإقليم كردستان العراق.  

 بعد تمدّده في العراق وفي مناطق سورية كانت خارج سيطرة الجيش العربي السوري تمكّن تنظيم الدولة الإسلامية من إزالة الحدود بين العراق وسوريا وإحداث خروقات واسعة في الداخل حيث وجد له بيئات حاضنة.  وفي سياق الحرب على سوريا وفيها لقي التنظيم دعما" واضحا" من تركيا.

ضربات التحالف حدّت من توسّع التنظيم لا بل ساعدت على انتزاع مناطق منه في العراق وساعدت الأكراد على طرده من كوباني وحصر امتداده وحربها معه يبدو أنّها ستمتدّ لسنوات ما يعني أنّ الدولة السورية والدولة العراقية ذاهبتان إلى مزيد من التفكّك ما لم يستطع الجيشان السوري والعراقي من تحقيق انتصارات حاسمة على المدى المنظور.

الأكراد حسموا مصير كركوك من جانب واحد وحدّدوا الأراضي الكردية وأعلنوا البيشمركة جيشا" للدفاع عن سيادتهم عليها.

الأزيديون بعد تحرير جبال سنجار لم يتأخّروا في إعلانها منطقة أزيدية.

المسيحيون وأقليات أخرى هجّروا إلى دول مجاورة وبعيدة .

هذا في العراق أمّا في سوريا فالأكراد استعادوا كوباني ويقاتلون على جبهات الحسكة.

دخل العراق منذ احتلاله في العام 2003 مرحلة الانفجار بين مكوّناته ففقد هويته الوطنية وتنازعته الهويات الطائفية والإتنية فانفتح على المجهول:

العملية السياسية التي ترعى مسيرتها أميركا وإيران معرّضة للانهيار في لحظة افتراق أو خلاف أميركي/إيراني على مدى النفوذ. عامل «الدولة الإسلامية في العراق والشام» يحظى باهتمام الفريقين لجهة توظيفه في الضغط والضغط المضاد. حدود تمدّده لن تتجاوز حدود المصالح الأميركية. ومن المحلّلين من يذهب إلى أنّ وظيفته لن تتجاوز سنوات معدودات بدأت بعشر لتنخفض إلى ثلاث كما جاء على ألسنة مسؤولين أميركيين .

عامل الدولة الإسلامية في العراق والشام يشكّل عبئاً على إيران ويهدّد مصالحها في عراق وجدت في الاحتلال الأميركي فرصة تاريخية لإدخاله في حيّزها الجيو-سياسي. فمهما كان الموقف على وفاق أو على خلاف مع أميركا فالحرب على تنظيم الدولة في العراق وسورية بدعم إيراني مباشر وغير مباشر مستمرّ.

هذا الواقع الميداني في حال استمراره بين كرّ وفرّ بين دعم خارجي وتردّد ثمّ توجيه ضربات مدروسة تقوم بها قوى التحالف لهذا الطرف وذاك وفق مقتضيات المصالح ينذر بأن بلاد الشام كلّها باتت في فوهة بركان لن يوفّر في حال استمراره دول الخليج العربي ودولتي الجوار تركيا وإيران فضلاً عن دولة الكيان الصهيوني.

تمدّد الدولة الإسلامية داخل العراق وسورية، فضلاً عن وجوده في مناطق من ليبيا والجزائر وتونس ومصر واليمن، يجعل مستقبل الدولة القطرية موضع تساؤل. فتداعيات هذين التمدّد والوجود السياسية والدينية ستتعدّى الحيّز الجغرافي لكلّ من هذه الأقطار إلى مساحة الوطن العربي كلّه، بكلّ تأكيد، وربّما إلى دول الجوار الآسيوي والأفريقي والأوروبي.

لقد أحدثت الدولة الإسلامية بركاناً سياسياً ودينياً في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لن يهدأ ما لم تنفّذ المخططات الأميركية في إشعال حروب ثابتة ومتنقّلة هدفها تفكيك الدولة القطرية وإنهاء التفكير بمشروع الوحدة العربية.

مآل الدولة القطرية: من النموذج الوحدوي الاستبدادي إلى الفيدرالي التقسيمي

نظام الحكم الوحدوي الاستبدادي في معظم الدول العربية يبقى واحداً ولو تعدّدت تسمياته. وظيفته ضبط مكوّنات المجتمع وإدامة السلطة بيد الحاكم. يحافظ على وحدة الكيان القطري ويسلب من المواطنين، أفراداً وجماعات، حرّياتهم الأساسية ولكنّ الكيان مهما اشتدّت قبضة الاستبداد يبقى مفتوحاً على التشظّي.

نظام الحكم الفيدرالي التقسيمي وظيفته توزيع السلطات المركزية والمحلّية محاصصة على مكوّنات المجتمع وإدامة السلطة رهن التجاذبات والتقاطعات المصلحية ويفتح على تعميق التناقضات حتى حدود الانفصال. يحافظ على حرية المكوّنات ولكنه يفرّط بوحدة الكيان القطري.

في المشهد السياسي الراهن يبدو أن الدول العربية التي تجتاحها نار الفتن والحروب الداخلية ذاهبة إلى نظام الحكم الفيدرالي التقسيمي العراق، ليبيا، اليمن، سورية، لبنان..

بين هذين النموذجين يسجّل غياب النموذج الديمقراطي ضامن وحدة المجتمع والدولة وحريات المواطنين.

معظم مجتمعات الدولة القطرية تتّصف بالتعدّدية التي كان من الطبيعي عبر التدرّج التاريخي والوعي المصلحي أن تعبّر عن نفسها بأنظمة ديمقراطية وأن تكسر أطواق انتماءاتها الفرعية لتأخذ المواطنة هوية أصلية واحدة ولكن أنظمة الاستبداد الفئوي بمسمّياته كافة أدخل المجتمعات في حروب «الهويات القاتلة».

هذه الحروب القاتلة فعلاً ليس فقط لأبنائها ومجتمعاتها ودولها القطرية فقط بل لأيّ إمكان مفتوح لإنجاح مشروع الوحدة العربية المتطلّع إلى بناء الدولة الوطنية بشروطها التامة عبوراً منها إلى الدولة القومية بدستورها الاتّحادي. الولايات المتّحدة العربية أو الاتحاد العربي .

انهيار الدولة القطرية وإشكالية الدولة/الأمّة في مشروع الوحدة العربية

من بديهيات الفكر القومي حتمية قيام الوحدة العربية استناداً إلى وحدة الأمّة.

انهيار الدولة القطرية بسبب التفاعلات الضدّية بين مكوّنات المجتمع يدعو إلى مراجعة بديهيات الفكر القومي المترسّبة في الأذهان والحائلة دون التفكير الواقعي والموضوعي ودراسة المعطيات الاجتماعية والثقافية باعتماد مناهج العلوم الحديثة في الاجتماع التركيب المجتمعي والحضارة والثقافة التكوين الجمعي أو تكوين الأمّة والبيئة والتاريخ المكان والزمان والاقتصاد التنمية والإناسة الإتنولوجيا أو علم الأقوام كي يتكوّن لدينا بناء فكري متماسك بشأن الوحدة العربية. إنّ مناهج العلوم الحديثة تعيد البديهيات والمسلّمات إلى نصابها التاريخي وتخضعها لتدقيق علمي يكشف العوامل المواتية وغير المواتية لوضعها أو عدم وضعها في مصاف الحقائق الثابتة ولحتمية تحوّلها أو إمكان تحوّلها إلى وقائع.

فكرة الوحدة العربية لها في «ثقافة الأمّة» الثقافة من حيث هي تجسيد لما هو معنوي في الأمّة من المقوّمات ما يعزّز إمكان تحوّلها إلى واقع. ولها في «حال الأمّة» الحال من حيث هي تجسيد لما هو مادي في الأمّة من الأدلّة ما يعزّز عدم إمكان تحوّلها إلى واقع.

هذه هي إشكالية الوحدة العربية المعبّر عنها بالمشروع أي بما ينبغي أن يقوم أو يحقّق أو ينجز. إنّها إشكالية العلاقة بين «معنويات الأمّة» و«مادياتها»، بين «ثقافتها» و«حالها».

انهيار الدولة القطرية مظهر من مظاهر حال الأمّة… وهو مظهر تفكيكي.

اللغة أو الدين أو التاريخ والتراث من مقوّمات ثقافة الأمّة. وهي مقوّمات توحيدية.

إذا كانت «معنويات الأمّة» هي البنية الفوقية للمجتمعات العربية فإنّ «مادّياتها» هي بنيتها التحتية. جدلية التكوين والتأثّر والتأثير بينهما تخضع مشروع الوحدة العربية لتناقضاتها الحادّة. والمشروع لن يجد طريقه إلى الإنجاز ما دام هذا التناقض إلى ازدياد. وما انهيار الدولة القطرية سوى الدليل القاطع على هذا الازدياد.

إنّ إشكالية الدولة القطرية التي طالما فهمت إشكالية نظام أو حاكم باتت في واقعها الراهن إشكالية بنيوية ليس فقط في طبيعة النظام السياسي-الأمني-البوليسي الفاسد أو في مزاجية الحاكم المستبدّ المستتبع بل إشكالية بنيوية في طبيعة المجتمعات العربية وطبيعة مكوّناته الدينية والمذهبية والإتنية. وهذا هو الأساس في إشكالية الوحدة العربية. فالوحدة تبقى افتراضية ما دامت مشدودة إلى «المتخيّل السياسي» المتفلّت من أحكام الزمان والمكان ومن المعطى الملموس المتحوّل فيهما وتصبح ممكنة التحقّق أو غير ممكنة متى فهمت في ضوء «المعقول السياسي» الذي لا يخرج عن الحيّز الواقعي المتحوّل في الزمان والمكان. واقع الدولة القطرية المتحوّل يفرض نفسه على «المخيال السياسي» الذي طالما نادى بوحدة عربية تبنى على «معنويات الأمّة» أو الثابت فيها الدين، التراث، اللغة، الهويّة العامة فبدّل المعادلة في اتّجاه بنائها على «ماديات الأمّة» أو المتحوّل فيها تعدّديات مكوّنات المجتمع والهويات الخاصّة، شبكات المصالح، مستويات التنمية، منظومات القيم والمعارف والأفكار أو الإيديولوجيات، الفوارق الطبقية، الأنظمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

هذه الماديات ليست واحدة وليست ثابتة لا في المستوى القطري ولا في المستوى القومي. فالأقطار التي تعرّضت لتداعيات « الربيع العربي» برزت فيها «التناقضات المادية والمعنوية» وخرجت من الكمون إلى العلن بصورة واقعية يبدو معها إيجاد «تسويات تاريخية وطنية» أمراً غير متيسّر في المدى المنظور.

القسم الثالث: التسوية التاريخية على الدولة الوطنية ومنها إلى الوحدة العربية

صيرورة الأحداث الجارية تحمل على الاعتقاد بأنّ سايكس- بيكو جديداً نتيجة «الفوضى الخلاّقة» التي أحدثها «الربيع العربي» سيلغي بعض الدول القطرية القائمة لينشئ مكانها دولاً أخرى تتّسع للتكتّلات الطائفية والمذهبية والإتنية.

إن صحّ ذلك فالسؤال المطروح ماذا تبقّى من مرتكزات موضوعية لمشروع الوحدة العربية؟

الوحدة العربية لا تقوم بين دول طائفية ومذهبية وإتنية أو سلالية بل بين دول وطنية متماسكة تتكامل فيها المكوّنات وفق آليات تنظيم المجال العام الدستور، القوانين، مؤسسات الحكم والتشريع والقضاء، المؤسسات العسكرية والأمنية، المؤسسات والإدارات العامة.. فضلاً عن وجود منظّمات مجتمع مدني وقيادات وأحزاب ونقابات ذات أفكار وبرامج وممارسات وطنية وحركة شعبية تواكب وتحاسب.

تنظيم المجال العام وفق هذه الآليات يحفظ للدولة قوّتها وتماسكها وقدرتها على إقناع مواطنيها، مهما تباينت انتماءاتهم، بجعل الولاء لها فوق أيّ ولاء آخر.

هنا الدولة لم تعد قوّة إكراه بل صارت قوّة إقناع، لم تعد قوّة تهميش وإقصاء بل قوّة جذب واستيعاب، لم تعد قويّة بالتفرّد والتسلّط بل بالتعدّد والمشاركة.

التعدّدية الاجتماعية والثقافية حالة قائمة في المجتمعات العربية. تنظيم المجال العام يحوّلها إلى تعدّدية سياسية فيستقيم أمر الدولة والمجتمع وتستوي العلاقة بينهما.

وسوم: العدد 623