نُكتة مصرية بطعم الذل
يقول الكاتب حبيب سروري: "النكتةُ في الحقيقة، ثابتٌ إنسانيٌّ جوهري، شأنه شأن القصص والحِكَم والأساطير. درسَها فرويد في كتابه: "كلمات الروح وعلاقاتها باللاوعي" ملاحظا تشابهها الكبير مع الحلم.
كلاهما تعبيرٌ مكثّفٌ عما يدور في سراديب اللاوعي. يستخدمان نفس أساليب الانزياحِ عن الواقع أو قلبِه، ونفس الإرباكِ لِمنطق الأحداث وسيرورتها، يخرجان معا من نفس المنبع في اللاوعي. هدفهما الرئيس: التمرّد على الرقابة الذاتية".
وإذا تحدثنا عن النكتة، فلا ينبغي بأي حال من الأحوال أن نفعل إلا بعد المرور على الشعب المصري، والذي اشتهر أبناؤه بإلقاء النكات (أو النكت وكلاهما صحيح).
قرأتُ في أحد الأعداد القديمة لجريدة مصرية أن المصريين يتمتعون بتراث عريق للنكت، حتى إن أول نكتة مدونة في تاريخ البشر المكتوب، بحسب دراسة حديثة أجرتها كارول أندرو وهي باحثة بقسم المصريات بالمتحف البريطاني، كانت نكتة سياسية مصرية عن فرعون يرغب في الصيد فلم يجد شيئا يصطاده، فألقي بمصري في النيل لكي يصطاده.
كنتُ ولا زلتُ أتابع تفاصيل الحياة في مصر باستمرار، فهي البلد التي نحب، ورغم تسلّط الطغاة، وسقوط الأقنعة، وضبابية الرؤية، إلا أنه لا يزال فيها من نحب من شرفاء القوم.
وكلما طالعتُ الشأن المصري وجدت النكتة قد غابت، والبسمة قد اختفت، في ظل القتل والاعتقال والتشريد، وتحت سطوة الفقر وغيبة الضمير.
وكيف تسري النكات على شفاه الشبيبة وقد أُجهضت أحلامهم، وكفّوا عن التطلع إلى الآفاق بعد أن استبدّ الضباب وغابت نجوم الأمل.
فليس هناك في مصر من يبتسم ويضحك سوى الطغاة والقتلة الذين التمسوا الشعور بنشوة الظفر في حصد رقاب الأبرياء، وأذنابهم الذين باعوا الدماء الطاهرة بعرض من الدنيا قليل، وسوى الأقلام الرخيصة العميلة للنظام.
ولا مرحبا بتلك الأقلام التي خط أحدها للديكتاتور:
"ما شئت.. لا ما شاءت الأقدار
فاحكم فأنت الواحد القهار
فكأنما أنت النبي محمد
وكأن أنصارك الأنصار"
تلك الكلمات التي نقلها الكاتب المصري أكرم السعدني عن أحد شُعراء الخليفة الحافظ (كان من العُبيديين، الفاطميين) .. ووجّهها لعبدالفتاح السيسي ..
*أمعنتُ النظر في واقع المصريين عبر الصحف والمواقع الالكترونية، فرأيت أن النكات قد أخذت شكلًا آخر وقالبا مختلفا.
أصبحت القيادة الحكيمة الواعية تُلقي النكات تترا عبر قراراتها السياسية وتصريحاتها الرسمية، حيث أصبح كل ما يصدر عن الزعيم الملهم والملأ من حوله وإعلامه النزيه، بمثابة نكتة مضحكة مبكية.
مضحكة في تجاوزها حدود المنطق والمعقول، ومبكية فيما تحمله من دلالات على استخفاف بهذا الشعب وديكتاتورية ما بعد الربيع.
لا بأس يا قوم أن ألقي عليكم بعض النكات ذات النكهة الفرعونية الديكتاتورية تعيد مشهد فرعون وهو يقول (أنا ربكم الأعلى)، ومشهد المُغيّبين وهم يسجدون للفرعون الإله.
السيسي في احتفالية ليلة القدر يعيد ما افتتح الحديث عنه بالعام الماضي من تجديد الخطاب الديني، ويفاجئ القوم بنادرة الدهر، ويقول: "كتير من الشباب ألحدوا.. يعني مخرجوش من الإسلام".
فالذين ألحدوا لم يخرجوا من الإسلام، فهل هذا هو التجديد الديني الذي ينشده السيسي؟
ومن تتمة النكتة، أن عمائم الأزهر الذي يُفترض أنه منارة العلم، ظلوا يصفقون له على هذا الاكتشاف العبقري، فهل تؤيدون يا مشايخ الأزهر هذا القول؟
يبدو أننا سنشهد عهدا غير مسبوق من التجديد الديني على أرض مصر، يصبح الإلحاد فيه وجهة نظر محترمة، ومذهبا آخر يُستساغ قبوله.
*السيسي سيحول اسم ميدان رابعة إلى ميدان "هشام بركات" وهو النائب العام الذي اغتيل الشهر الماضي.
إنما وصفتُ ذلك القرار بأنه نكتة، لأنه من المضحك أن يظن هذا الطاغية أنه سيمسح رابعة من القلوب، رابعة يا هذا ليست بُقعة ولا موضعا، إنما هي دماء تسري في شرايين الأحرار وصورٌ طُبعت في أذهان الشرفاء وليست قابلة للنسيان أبدا..
فلتتجول في العالم بأسره، ستجد هذه الشارة الصفراء في كل مكان في الشرق والغرب، في العالم العربي والغربي، فلن تموت رابعة ولو أردتّ وسعيت.
ومما جعلها نكتة، أنه سيطلق على الميدان اسم النائب العام هشام بركات والذي سبق وأن أصدر قرار فضّ اعتصامي رابعة والنهضة بناء على طلب من الحكومة.
*قانون الإرهاب المُزمع إصداره من قبل نظام السيسي هو أبرز النكات المصرية، وأي قانون يحتاجه وهو الذي هنأ شعبه في يوم عيدهم بقتل ستة من المتظاهرين السلميين بالرصاص الحي؟
وأي قانون يريد أن يستصدره وهو يتوسع في بناء السجون لتستوعب عشرات الآلاف من الأبرياء؟
وأي قانون يسعى لفرضه وهو الذي كمّم الأفواه وساق الناس كما القُطعان؟
كما فعلها في البداية عندما طالب الشعب بتفويضه لقتل العُزّل الأبرياء، يريد الآن غطاء قانونيا لمزيد من الضحايا، ومزيد من الظلم والقهر والاستبداد.
*آخر النكات في مصر، أن وزارة الأوقاف منعت الشيخ المقرئ محمد جبريل من إمامة الناس في الصلاة، لماذا يا ترى؟
لأن الشيخ دعا على الظالمين، قالوا بأن الدعاء على الظالمين لا يكون في مساجد المسلمين.
ذكروني بمشركي قريش، اتّهموا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه كاذب ومُدّعٍ وساحر ومجنون، وأنهم أهدى منه وأتباعه سبيلا، ومع ذلك ارتعدت فرائصهم عندما دعا عليهم.
ما بال نظام السيسي يخاف الدعاء على الظالمين؟!
*هم يعلمون جيدا أنهم هم الظالمون ويخاف – من كان في قلبه بقيّة إيمان بالله منهم – أن تصيبه دعوة مظلوم.
ومن جهة أخرى، فإن الدعاء على الظالمين في بيوت الله، هو استمرار لرفض الظلم والجور، ويُبقي في الصدور تلك الجذوة التي اشتعلت يوما ما، وهي ترى هذا الواقع المؤلم.
*ومن النكات الاقتصادية التي يُصدرها النظام الحاكم في مصر، مُلاعبة الشعب المصري بانخفاض أسعار الإنترنت، وكأن مشكلات الشعب قد انحصرت في فاتورة الإنترنت.
لكن ما جعلها نكتة بحق ، أن الناس قد اكتشفوا تلاعب الحكومة بهم، وأن نظام الباقات الجديد لم يأتِ في صالحهم، وطالبوا بعدم تطبيقه.
هو الفُتات الذي يُلقونه للشعب المطحون، وإن أعطوا باليمين يأخذون مرة أخرى بالشمال، عبر ارتفاع أسعار الوقود وفواتير الكهرباء والغاز والمرافق كما حدثني كثير من إخوتي في مصر.
*ومن النكات التي تختص بالجيش المصري، الأنباء المتتالية عن إنجازات القوات المسلحة والأجهزة الأمنية في سيناء: قتلنا عشرة إرهابيين من داعش، عشرين، خمسين..
منذ فترة وتقرأ مثل هذه الأخبار عن سيناء، في الوقت الذي يقولون أن عدد عناصر تنظيم الدولة الإسلامية داعش في سيناء يقدر ببضع مئات فقط.
ألم تنتهي هذه المئات بعد كل عمليات التصفية التي تُشيرون اليها باستمرار؟!!
وإذا كان الحال كذلك، كيف تعجز قواتكم بعتادها وعُدّتها وطائرات الشبح عن القضاء على بضع مئات؟!
*تحدثتُ يوما لقُرّائي عن أنهم يريدون لسيناء أن تظل مُشتعلة، والهدف واضح:
سيناء تزداد اشتعالا..
تنطلق دعوات لتدخّل دولي في سيناء (وقد حدث بالفعل من الجانب الإسرائيلي مؤخرا)..
تنفيذ خطة (إيلاند) لتصفية القضية الفلسطينية وإقامة دولة فلسطينية في سيناء وغزة، عبر مُقايضات مع مصر.
ولك الله يا مصر..
وسوم: العدد 625