منذ متى كان الطريق لتحرير فلسطين يمر بالقلمون؟
لو كانت فلسطين امرأة لأصيبت ولا شك منذ زمن طويل بنوبة قلبية صاعقة أودت بحياتها نتيجة الإحساس بالقهر والغيظ والفجيعة، وذلك لفرط ما تمت المتاجرة بها واستغلال اسمها وقضيتها في تحقيق مآرب ومصالح انتهازية رخيصة لهذه الجهة أو تلك. فمنذ ضياعها، الذي كان بالدرجة الأولى بسبب خيانة وعمالة العديد من الأنظمة التي باعتها بثمن بخس مهما ارتفع، وتلك الأنظمة تتبجح وتزعم أنها لم تتوقف عن بذل التضحيات واحتمال المعاناة وتقديم الشهداء في سبيلها! والحق إنني عاجز تماما عن رؤية تلك التضحيات المزعومة، التي لو كانت حقيقية وجدية، لكانت فلسطين قد تحررت من الاحتلال الصهيوني منذ ستين سنة، ولكان أبناء فلسطين الذين اضطروا للجوء إلى هذه الدولة أو تلك يعيشون حياة كريمة لا ضيم فيها، بدلا من حياة الكلاب التي أجبروا على أن يعيشوها في مخيمات الذل التي نصبها لهم إخوتهم العرب، الذين لم يتركوا مناسبة تفلت للمن عليهم وتعييرهم، بل وربما جمعوا المليارات على ظهورهم، هذا إن لم يتآمروا ضدهم مع الصهاينة ويوجهوا إلى صدورهم نيران البنادق والمدافع بتهمة تهديد الأمن وزعزعة الاستقرار!
من يتشدق ويدعي خلاف ذلك للمزايدة والدفاع عن هذا النظام أو ذاك، يمكن إبراز ما لا حصر له من الوثائق التي تؤكد عمالة وانحطاط نظامه، والمنثورة في الكثير من الدراسات والكتب الأكاديمية الأجنبية الرصينة. وإن كان من الصعب نشر مثل تلك الوثائق على نطاق عربي واسع، ما دامت الأنظمة المستبدة تتحكم بصورة شبه تامة في الفضاء الإعلامي وفي عالم النشر، وتضغط على المنابر الإعلامية والثقافية وتهددها بقطع رزقها وإغلاقها إذا ما تجرأت على نشر ما من شأنه فضح مخازيها وكشف صفقاتها المشبوهة التي تنكس الرأس. لكن من يعيش في الغرب، ويتسنى له الاطلاع على مثل تلك الأعمال بسهولة، دون رقيب أو حسيب، يصدم حقا لهول الجرائم التي ارتكبت وما تزال ترتكب بحق فلسطين وأهلها.
من آخر الصفحات التي انضافت إلى فصول السفر الضخم الذي لا تريد مجلداته أن تنتهي حول الاستغلال الرخيص للقضية الفلسطينية، تلك التي نقرأها في خطاب لحسن نصر الله زعيم ما يسمى بحزب الله، الوكيل عن إيران في لبنان، زعم فيه بأن الطريق إلى فلسطين يمر بالقلمون، وهو ما ذكرني بالمقولة الشهيرة لطيب الذكر «حسني البورزان»، التي تقول : «إذا أردنا أن نعرف ماذا في إيطاليا علينا أن نعرف ماذا في البرازيل»! إذ لم أستطع فهم تلك الأحجية الجغرافية، حيث كنت أظن أن الطريق إلى فلسطين يمر بجنوب لبنان الذي يسيطر عليه حزب الله، أو بالأراضي المحاذية لهضبة الجولان المحتلة، التي يسيطر عليها النظام السوري منذ أن سلبت الهضبة منه منذ عقود، ولم يطلق ما هو أكثر من الشعارات لاسترجاعها، ودع عنك الحديث عن توجهه لتحرير فلسطين. هذا النظام الإرهابي المجرم الذي يستقتل نصر الله في الدفاع عنه، باعتباره العميل الأهم لإيران في الإقليم!
وليت صاحبنا نصر الله اكتفى بتلك المغالطة الجغرافية، إلا أنه أتبعها بمغالطة أخرى أشد فظاعة، تتجاوز الهذيان الجغرافي إلى الهذيان السياسي. عندما صفعنا بالقول «إنك لا تستطيع أن تكون مع فلسطين إلا إذا كنت مع إيران، ولا يمكن أن تكون عدوا لإيران ومع فلسطين، لأن إيران هي الأمل الوحيد المتبقي لتحرير القدس»! كم استفزني كلام الرجل، وجعلني ألعن الأنظمة العربية التي أتاحت له الفرصة، بتآمرها على فلسطين وتعاجزها وتخاذلها عن العمل على تحريرها، لأن يقذفنا بمثل تلك الادعاءات، التي قد لا تخلو مع الأسف الشديد مما يبررها. إذ إن إيران تكاد تكون بالفعل الدولة الوحيدة التي تقدم الدعم العلني لحركات المقاومة الفلسطينية، بينما تناصب الأنظمة العربية العداء لتلك الحركات وتجتهد في تشويهها عبر اتهامها بالإرهاب.
غير أن ذلك الدعم المتذبذب لا ينبغي أن يخدعنا بالرغم من كل شيء، فهو لم يكن يوما لوجه الله أو من أجل عيني فلسطين وتحريرها، بل كان دائما وأبدا أقرب إلى الابتزاز المشروط بالتزام متلقيه بالدوران في فلك السياسة الإيرانية. والدليل على ذلك إيقاف الدعم الإيراني عن حركة حماس عندما اتخذت موقفا أقرب إلى النقدي من جرائم عصابة الأسد في سوريا، وحجب المساعدات الإيرانية عن حركة الجهاد الإسلامي مؤخرا لأسباب مشابهة، تتعلق باختلافها مع السياسة الإيرانية حيال اليمن وسوريا. الأمر الذي يدحض مزاعم نصر الله حول الدور البطولي النضالي لإيران، ويؤكد بوضوح أن شعار تحرير فلسطين هو مجرد ورقة مطاطة تلعب بها إيران وصبيتها لتحقيق أهدافها التوسعية في المنطقة. إذ لو كانت صادقة ومخلصة وجادة في نيتها لتحرير فلسطين، لألقت بكل ثقلها في ذلك السبيل منذ عقود، بدلا من أن استنزاف قواها وقوى غيرها في معارك جانبية تفوح منها رائحة الحقد الصفوي القديم. ولكانت واظبت على دعم حركات المقاومة الفلسطينية المنهكة المنهمكة في صراعها مع الكيان الصهيوني، بغض النظر عن موقفها من سياساتها الأخطبوطية الدموية الخبيثة، التي لا يمكن لمن به بقية من عروبة أو حتى إنسانية أن يقرها.
تمجيد نصر الله لإيران والتنبؤ بأنها ستكون الأمل الأخير لتحرير فلسطين، أعاد إلى ذهني حديثا نبويا شريفا يتنبأ بما معناه أن سبعين ألفا من يهود أصفهان سيكونون من أوائل من سينضمون إلى المسيح الدجال عند ظهوره. والحق إنني بعد متابعة حثيثة لسياسات إيران في المنطقة العربية لا أرى لها دورا يتجاوز ذلك الإطار، أي إطار تصدير أنصار الدجل السياسي والطائفي والعسـكري للمـزيد من إفسـاد المنـطقة وتـمزيقها!
وسوم: العدد 625