الحياة ذكريات
ذكرى الإجازة
كنتُ قبل سنوات خلتْ أسمع رجلًا - غيرَ مكلَّف - يدور في طرقات المدينة وينادي: (الحياة ذكريات).
لا أدري لم كان يكرر هذه الجملة؟ ولا ما تَعني له؟ وهل وعاها قبل أنْ يُسْقطَ اللهُ عنه ما وجبَ باسترداد ما وهب، فظلتْ في ذاكرته، أم سمعها من أحد فعلقتْ بذهنه واستهواه وقع التاءين في الكلمتين فيها؟
على أية حال كانت كلمة معبِّرة مؤثِّرة، وقد سمعتُها من هذا الرجل قبل ثلاثة عقود، وما أزال أذكرها بين حين وآخر، وكلما عرضتْ مناسبةٌ تصدِّقها وتحقِّقها.
واليوم تذكرتُ هذه العبارة ونحن في نهاية العام الدراسي، واقتراب موعد الإجازات والسفر إلى الوطن، للقاء الأحبة، وصلة الأرحام، وتجديد العهد برحابٍ يشد القلبَ إليها خيوطٌ من الشوق عصيةٌ على التعليل...
كنا في مثل هذه الأيام نشدُّ هممَ الأولاد ليقبلوا على امتحاناتهم باستعداد لائق، ونخفِّف عنهم عناءَ الدراسة والمذاكرة بوعود السفر إلى الوطن، والتجوال فيه، والاستمتاع باكتشاف أجزاء جديدة منه، من برِّه وبحره، وسمائه وأرضه، وتاريخه وواقعه...
وكنا نخرجُ في العشيات إلى مراكز التسوق القديمة والحديثة، الحارة والباردة، ونستمتعُ بشراء الهدايا: للوالدة والإخوة، والأخوات، والأخوال والخالات، والأعمام والعمات والى عدد مِن أبنائهم، والأصدقاء المقربين، فهؤلاء -أو بعضهم- سيكونون بانتظارنا في المطار، وسيمتلئ البيتُ بهم مُسلِّمين ومُسامرين ومُؤنسين ليلة الوصول وفي الليالي الآتية...
ومِن لحظات السعادة أنْ يتحلق كثيرٌ من هؤلاء حول الحقائب ويبدأ التوزيع، وعندها لا تسلْ عما يغمر القلوبَ من أنسٍ وحبٍّ وبهجة، ولاسيما الفرح بما يدخلُ على قلوب الأطفال من الفرح...
وفي صباح الوصول سيلتئم شملُ الأسرة من الإخوة والأخوات وعلى رأسهم الوالدة - فالوالدُ رحل قبل أن يلتئم الشمل - وسيشربُ الجميع من قهوةِ خالةٍ حنونةٍ معروفةٍ بالبراعة في إعداد القهوة.
ثم يتناول الجميعُ فطورًا شهيًا وسط تزاحم الأولاد وتنوع رغباتهم... فطورًا شعبيًا يَنقلك بلونه ومذاقه وترتيبِ تناوله إلى سنين مضت، وينشِّط ذاكرتك إلى صور خلت...
ثم تأتي الفاكهةُ الطازجةُ الواصلة لتوِّها من أطراف البلد القريبة...
والضيفُ معفوٌ من العمل في الأيام الأولى، ولكنه يأبى ألا أن يُشارك، ويُشبع نهمه بالخروج إلى السوق القريب ليمتِّع ناظريه بما يَعرضه الباعة من أصناف الفواكه التي تحسها تُسَبِّحُ خالقَها من نضارتها وطراوتها...
وأما الليل.. فلا تسلْ عنه.. وعن جمال ساعاته التي تمر مرَّ السحاب، سواء كنتَ زائرًا أو مزورًا... وسواء كنتَ في مجلس علم أو أدب، أو موسمٍ ثقافي، أو عرسٍ ضاحكٍ من الأعراس البهية التي تكثر في ليالي الصيف...ولاسيما الأعراس التي تقام في مزارع غناء، وتحييها أصوات تسحر الليل، فيرد عليها بسحرٍ مثله تجعله "ليلا ساحرا"...أصوات تخال النجوم تدنو لتصغي إليها.
وما ألطف المناسبات التي تجمعك بمغتربين كثيرين في بلاد الله المختلفة التي لولا الإجازة لما رأيتهم ولا رأوك.
وفي النهارات هناك الجولات - مع الأولاد الذين ولدوا في المغترب، ومع الأصدقاء الودودين - في الحارة التي كان فيها مسقط الرأس، والتجوال في الأزقة القديمة، والآثار العتيقة، وزيارة المساجد الأثرية، والمدارس العلمية، وقصور رجالاتٍ سابقين وقبورهم، والطواف ببقايا سور المدينة، وأبوابها التي ما تزال شامخة تحكي قصصًا من بطولة الأجداد في صد هجمات المعتدين... وقصصًا من زمنٍ حزينٍ تمكَّن فيه مهاجمون من هدِّ السور واقتحام المدينة على أهلها البارين، وإنزال أقسى العقوبات بهم.
وهناك وهناك ما لا يحصيه القلم، ولا تستوعبه الصفحات...
الآن أصبح كلُّ ذلك ذكرى...
فالوطنُ اغتالته أيدي المحن العاتية...
والفرحة معتقلة في سجون الانتظار المجهول...
والأهلُ والأحبةُ والأقرباءُ والأصدقاءُ توزَّعتهم بلادُ الشتات البعيدة أو المجاورة، والمناورة أو المغامرة... ومنهم مَنْ رحل رحلة - لا لقاء بعدها هنا- مِن غير وداع...
فإلى أين السفر؟!
وإلى أين المفر؟!
لا مفر إلا إلى الله...
ولا سفر إلا إلى بيت الله..
ويا أيتها الإجازة لقد كنتِ محطة للبهجة، ننتظرُ أنْ نركبَ في قطارك السريع لينقلنا إلى حدائق الآمال الجميلة...
واليومَ أنتِ محطةٌ للأحزان...
وحين تقتربُ أيامُك تُوقِد في أنفسنا مشاعلَ الشوق من غير نسماتٍ عليلةٍ تطفئها...
وتُثير في جوانحنا الحاجة إلى ما كنا نستمده منكِ من طاقةٍ ونشاطٍ، لنعود بَعدكِ إلى أعمالنا بهمّةٍ متجددة، وعزيمةٍ متوقدة.
الحياة ذكريات.
والإجازة موسم من الحياة.
وهي اليوم ذكرى من ذكرى...
وسوم: العدد 626