علاقة الدعوة بالدولة في الإسلام
(شهادات تاريخية)
محمد أفقير(صهيب)
باحث في تاريخ الإسلام
لتحديد علاقة الدولة الإسلامية بالدعوة([1]) إلى الله، يحتاج الأمر إلى معرفة التصور الإسلامي الصحيح لعلاقة الدولة بالدين والدعوة له. وتحديد مسؤولية الدولة الإسلامية عن الدعوة إلى الله. فما وجه العلاقة بين الدعوة والدولة؟.
الدليل من القرآن الكريم ومن السنة النبوية ومن أقوال العلماء المسلمين على أن "الإسلام دين ودولة" معا، واضح وصريح. وقد "أجمع الفقهاء والمؤرخون زمنا طويلا على القول بمضمون هذا المبدأ، الذي بين بإيجاز كيان الدولة الإسلامية، فجميع كتب الفقه والمدونات التاريخية لا تحيد عن فكرة الجمع بين الحقلين الروحي والزمني"([2]). إلا ما شذ عن الإجماع، والشاذ لا يعتد به في الفقه.
حقيقة التكامل بين الدعوة والدولة اعترف بها المنصفون من المستشرقين، أيضا، وبين أيدينا أدلة على ذلك. وتقديم الدليل من أقوال غير المسلمين حول هذا المبدأ يزيد الدليل قوة إلى قوته الذاتية. توصل فتزجرالد/Fitzgerald (ت1901م) إلى أن "الإسلام ليس دينا فحسب، ولكنه نظام سياسي أيضا (يقول:) وعلى الرغم من أنه قد ظهر في العهد الأخير بعض أفراد من المسلمين، ممن يصفون أنفسهم بأنهم عصريون، يحاولون أن يفصلوا بين الناحيتين، فإن صرح التفكير الإسلامي كله قد بني على أساس أن الجانبين متلازمان، لا يمكن أن يفصل أحدهما عن الآخر"([3])، واعترف كارلو ألفونسو نلينو/Garlo Alfonso Nallino (ت1357هـ/ 1938م) أن رسول الله "أسس في وقت واحد دينا ودولة، وكانت حدودها متطابقة طول حياته"([4]). وعبر يوسف شاخت Joseph Schacht (ت1969م) عن الدور السياسي للإسلام بالقول: "إن الإسلام يعني أكثر من دين، إنه يمثل أيضا نظريات قانونية وسياسية"([5])، ويضيف: "أنه نظام كامل من الثقافة يشمل الدين والدولة معا"([6]). وبالوضوح نفسه يعبر ستروتمان/ Strootman على أن "الإسلام ظاهرة دينية وسياسية، إذ أن مؤسسه كان نبيا، وكان حاكما مثاليا خبيرا بأساليب الحكم"([7]). ويعزز قوله توماس وُوكَرْ آرنلد Thomas Walker: Arnold (ت1349هـ/ 1930م). قال: "كان النبي-- رئيسا للدين، ورئيسا للدولة"([8]).
ولقد كان هذا موقف الكثير من الغربيين (الموضوعيين) أمثال: مرمادوك بكتال / Marmaduke Pickthall/ (ت1936م)، أميل درمنجهم /Emile Dermenghem (ت1971م)، أناتول فرانس/ Anatole France (ت1924م)، توماس كارليل Thomas Carlyle (1881م)، والباحثة الإيطالية لورافشيا فاغليرى /Laura Vagliere (1989م)، الفيلسوف الأمريكى أرثر كين/Arthur James Cain/ (1999م)، اللادى إيفلين كوبولد/Eveline Kobold، والألمانية فاطمة سي لامير، البرفسور الإنجليزي هارون مصطفى ليون/ Haroun lion، الباحثة المسيحية مارى أوليفر/Mary Oliver، دي لامارتين/ Alphonse de Lamartine(ت1869م)، الشاعر الألماني يوهان غوته/ Johann Wolfgang von Goethe (ت1832م)، الكاتب الأمريكى مايكل هارت/Michael Heart، ليبولد فايس(محمد أسد)/ Leopold Weiss (1992م). المؤلف الأمريكى لوثرب ستودارد/ Lothrop Stoddard (ت1950م)، والألمانية منى عبد الله ماكلوسكى/ Mc Cluskosy، ول ديورانت/ William James Durant (ت1981م)([9])، والمسيحي اللبنانى نصرى سلهب الذي قال: "إن الغربي لا يفهم الإسلام حق فهمه، إلا إذا أدرك أنه أسلوب حياة تصطبغ به معيشة المسلم ظاهرا وباطنا، وليس مجرد أفكار أو عقائد يناقشها بفكره"([10])، وويلز/Herbert George Wells (ت1946م)الذي قال: "كل دين لا يسير مع المدنية فاضرب به عرض الحائط، ولم أجد دينا يسير مع المدنية أنّى سارت سوى دين الإسلام"([11]). وكذلك هنرى دي شاميون/ CHAMION henry de الذي تحدث عن مدنية الإسلام، وأسف على توقف الفتوحات عند مشارف فرنسا. قال: "لولا انتصار جيش شارل مارتل/ Charles Martel(ت741م) الهمجى على العرب في فرنسا، فى معركة تور/ معركة بلاط الشهداء(732م) على القائد الإسلامي عبد الرحمن الغافقى(ت114هـ/ 732م)، لما وقعت فرنسا فى ظلمات العصور الوسطى، ولما أصيبت بفظائعها، ولما كابدت المذابح الأهلية الناشئة عن التعصب الدينى، ولولا ذلك الانتصار البربري لنجت إسبانيا من وصمة محاكم التفتيش، ولما تأخر سير المدنية ثمانية قرون بينما كنا مثال الهمجية"([12]).
الدولة في الإسلام تقوم على الدين والدعوة إليه، وتطبيق أحكامه وحدوده، وحراسة أهله وبلادهم، وبين الدعوة والدولة علاقة تلازمية نموذجية (مثالية) تختلف عن كل النظم السياسية والدينية قديمًا وحديثًا، مما ينبغي أن يكون واضحًا لا لبس فيه، حتى لا تستعار مصطلحات غير إسلامية، فيقع الخلط، وتطبق النظريات الغربية على مجتمعات إسلامية. الدعوة إلى الله عز وجل غاية الدولة الإسلامية، وتطبيق أحكام الشرع هو الغرض المنشود. وشكل النظام الإسلامي هو الذي يميزها عن غيرها من الدول والحكومات. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الأساس المتين الذي بنيت عليه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية(ت728هـ/ 1328م): "إذا كان جماع الدين وجميع الولايات هو أمر ونهي، فالأمر الذي بعث الله به رسوله هو الأمر المعروف، والنهي الذي بعثه به هو النهي عن المنكر، وهذا نعت النبي والمؤمنين"([13]). ويقول: "وجميع الولايات الإسلامية إنما مقصودها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، سواء في ذلك ولاية الشرطة، وولاية الحكم، أو ولاية المال، وهي ولاية الدواوين المالية، وولاية الحسبة"([14])، ويضيف: "والولايات كلها الدينية مثل إمرة المؤمنين، وما دونها من ملك ووزارة وديوانية سواء كانت كتابة خطاب أو كتابة حساب المستخرج أو مصروف أرزاق المقاتلة أو غيرهم، وبكل إمارة حرب وقضاء وحسبة، وفروع هذه الولايات إنما شرعت للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"([15]). قال القرطبي(ت671هـ/ 1273م): "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كان واجبا في الأمم المتقدمة، وهو فائدة الرسالة وخلافة النبوة"([16]). وقال أيضا: "ثم إن الأمر بالمعروف لا يليق بكل أحد، وإنما يقوم به السلطان؛ إذ كانت إقامة الحدود إليه، والحبس والإطلاق له، والنفي والتغريب، فينصب في كل بلدة رجلا صالحا قويا عالما أمينا ويأمره بذلك، ويمضي الحدود على وجهها من غير زيادة. قال الله تعالى: )الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر(([17])"([18]).
ولقد اقترنت دعوة التوحيد بالوحدة السياسية في حياة نبيّ الرَّحمةِ ، وكان للدعوة الإسلامية أثرها الكبير في بسط سلطان الإِسلام على شبه الجزيرة العربية كاملاً وتاماً. وكان لها أثرها على قوة نظام الدولة وقوة رجالها. وقد رأى ابن خلدون(808هـ/ 1406م) أن الدولة التي تقوم على الدعوة تكون قوية البناء شديدة التماسك مهيبة الجانب، بحيث إن الدعوة الدينية تزيد الدولة في أصلها قوة على قوة العصبية، التي كانت لها من عددها، قال: "والسبب في ذلك... أن الصبغة الدينية تذهب بالتنافس والتحاسد، الذي في أهل العصبية وتفرد الوجهة إلى الحق. فإذا حصل لهم الاستبصار في أمرهم لم يقف لهم شيء، لأن الوجهة واحدة والمطلوب متساو (عند جميعهم)، وهم مستميتون عليه، وأهل الدولةـ التي هم طالبوهاـ وإن كانوا أضعافهم فأغراضهم متباينة بالباطل، وتخاذلهم لتقية الموت حاصل، فلا يقاومونهم ـ وإن كانوا أكثر منهم ـ بل يغلبون عليهم ويعاجلهم الفناء بما فيهم من الترف والذل"([19])، فالأولى التي هي الدعوة، تجمع الناس على الله وتجعلهم على قلب رجل واحد، والثانية التي هي العصبية، تجمعهم على الدنيا فيتنافسوها. وهذا ما وقع للمسلمين مع الكفار في كل المعارك. كانت جيوش المسلمين قليلة العدد والعتاد وجموع المشركين كثيرة العدد والعدة، فكانت الدولة في المال والحرب والنصر للمسلمين، لما كان المسلمون أصحاب دعوة دينية، اتحدت وجهتهم وصغرت الدنيا في أعينهم، وطلبوا الشهادة، أما المشركون فحرصهم على الدنيا ينشر في صفوفهم الخذلان والخوف من الموت.
هكذا كانت قوة التوحيد السياسي لشبه الجزيرة في العهد النبوي من أعظم نتائج الدعوة، فقد حدث ذلك من خلال تلك المعارك التي خاضها المسلمون ضد أعداء الدعوة، رغم عدم تكافؤ القوة العسكرية بين الطرفين. وقد ذكر الله في القرآن الكريم المعارك المصيرية في العهد النبوي، وأولها غزوة بدر(2هـ)([20])، أول صدام ديني وسياسي بين الإِيمان والكفر. وغزوة أحد(3هـ)([21])، وغزوة الأحزاب(5هـ)([22])، وغزوة حنين(8هـ)([23])، ليبين الله للمسلمين العبر الجليلة من تلك الأحداث، ويؤكد على الدور السياسي لرسالة الإسلام. لقد قدمت قيادة الرسول للحملات الجهادية دليلا على اقتران الدعوة إِلى الله بالوحدة السياسية، التي تحققت فيما بعد، ودليلا على أن "العقيدة هي القاعدة الصلبة، التي تتأسس عليها الوحدة السياسية للأمة"([24]). كما ذهب إلى ذلك لؤي صافي، وأن "الأمة هي القاعدة التي يقوم عليها البناء السياسي الإسلامي"([25]). في تكامل وترابط وثيق.
لقد قامت الدولة بشبه الجزيرة العربية على عناصرها القانونية؛ الشعب، والأرض، والسلطة، والدستور. وكل نظمها الأساسية مستمدة من القرآن الكريم، ومن أحاديث الرسول وسيرته المطهرة، على شكل قواعد كلية تنظم شؤون الحياة كلها؛ علاقات الناس بعضهم ببعض، وعلاقتهم بالدولة والمجتمع، وعلاقة المجتمع المسلم بغيره من المجتمعات التي تسالمه أو تحاربه.
لا شبهة في قيام الدولة الإسلامية الأولى على الدين، ولا شبهة في أن أهم واجباتها كان الدعوة إلى الله. كانت الدعوة إلى سبيل الله، هي التنظيم الاجتماعي الجديد في هذه الدولة، من أجل أن يكون المسلم في هذا المجتمع، هو الإنسان الذي شرفه الله تعالى بالخلافة في الأرض، لعبادة الله وحده دون شريك، وتعمير الأرض بالحق والخير والسلام، ولقد كان إمام الدعاة ، هو الذي تولى تربية المجتمع الإسلامي الأول وتعليمه، وعلى يده الشريفة تعلم الصحابة، وجعلهم أهلا لحمل رسالة الدعوة وأعباء الدولة. في السنوات العشر التي أقامها الرسول الكريم في المدينة، نما المجتمع الإسلامي نموًّا كبيرا، بحسب أصدق مقاييس النمو البشري ماديًّا وروحيا، واتسعت المدينة المنورة وزاد العمران فيها. واتضحت ملامح الحضارة الواعدة من شبه الجزيرة العربية.
(رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ). البقرة:201.
([1]) ـ انظر الوثيقة 2: خطاطة تبين تكامل الدعوة والدولة في الإسلام، ص. 35.
([2]) ـ محمود عبد المولى، أنظمة المجتمع والدولة في الإسلام. ط.1، مؤسسة الرسالة، بيروت ـ لبنان 2006م، ص. 53.
([3]) ـ محمد ضياء الدين الريس، النظريات السياسية الإسلامية. ط.1، دار إحياء التراث العربي، بيروت ـ لبنان 1417هـ/ 1996م، ص. 24- 25. بتصرف .
([4]) ـ المكان نفسه. (بتصرف).
([5]) ـ المكان نفسه. (بتصرف).
([6]) ـ المكان نفسه. (بتصرف).
([7]) ـ أحمد عارف، الحكم في الإسلام. ط.1، مكتبة القلم، حلب ـ سوريا 1996م، ص. 121.
([8]) ـ المكان نفسه. (بتصرف).
([9]) ـ انظر: حسين حسيني معدى، الرسول في عيون غربية منصفة. ط.1، دار الكتاب العربى، دمشق ـ سوريا 1419هـ، ص. 74 وما بعدها.
([10]) ـ نفسه، ص. 79ـ 80.
([11]) ـ نفسه، ص. 74 وما بعدها.
([12]) ـ المكان نفسه.
([13]) ـ أحمد ابن تيمية، الحسبة في الإسلام أو وظيفة الحكومة الإسلامية. ط.1، دار الكتب العلمية، بيروت ـ لبنان (بدون تاريخ)، ص. 11.
([14]) ـ نفسه، ص. 11.
([15]) ـ نفسه، ص. 14 ـ 15.
([16]) ـ القرطبي، الجامع لأحكام القرآن. 20 جزءا، ط.2، دار إحياء التراث العربي، بيروت ـ لبنان 1985م، 8: 203.
([17]) ـ الحج: من الآية 41.
([18]) ـ القرطبي، الجامع لأحكام القرآن. مصدر سابق، 4: 47.
([19]) ـ ابن خلدون، ديوان المبتدأ والخبر. مصدر سابق، 1: 198.
([20]) ـ انظر: الآية 123 من سورة آل عمران.
([21]) ـ انظر: الآية 36 من سورة الأنفال.
([22]) ـ انظر: الآية 22 من سورة الأحزاب.
([23]) ـ انظر: الآية 25 من سورة التوبة.
([24]) ـ لؤي صافي، العقيدة والسياسة. مرجع سابق، ص. 79.
([25]) ـ نفسه، ص. 83.