الخوارج تاريخ وعقيدة، الحلقة (33)
أشهر شعراء الخوارج
الشاعر عمران بن حطان
هو عمران بن حطان بن طبيان.. بن سدوس بن شيبان بن ذهل.. بن بكر بن وائل. ويكنى أبا شهاب. شاعر فصيح من شعراء (الشراة) ودعاتهم والمقدمين في مذهبهم. وكان من القعد - القاعدون عن القتال - لأن عمره طال فضعف عن الحرب وحضورها، فاقتصر على الدعوة والتحريض بلسانه.
وكان قبل أن يفتن بالشراة مشتهرا بطلب العلم والحديث، ثم بلي بذلك المذهب فضل وهلك.. وقد أدرك صدرا من الصحابة، وروى عنهم، وروى عنه أصحاب الحديث.
وأصل عمران من البصرة، فلما اشتهر بهذا المذهب طلبه الحجاج فهرب إلى الشام، فطلبه عبد الملك فهرب إلى عمان، وكان يتنقل إلى أن مات في تواريه.
تزوج عمران بن حطان جمرة بنت عمه ليردها عن مذهب الشراة فذهبت به إلى رأيهم، فجعل يقول فيها الشعر.
اجتمعت الشعراء عند عبد الملك بن مروان فقال لهم: أبقي أحد أشعر منكم ؟ قالوا: لا. فقال الأخطل: كذبوا يا أمير المؤمنين، قد بقي من هو أشعر منهم. قال: ومن هو ؟ قال: عمران بن حطان. قال: وكيف صار أشعر منهم ؟ قال: لأنه قال وهو صادق ففاقهم، فكيف لو كذب كما كذبوا.
اجتمع عند مسلمة بن عبد الملك ناس من سماره، فيهم عبد الله بن عبد الأعلى الشاعر، فقال مسلمة: أي بيت قالته العرب أوعظ وأحكم ؟ فقال له عبد الله قوله:
صبا ما صبا حتى علا الشيب رأسه … فلما علاه قال للباطل أبعد
فقال مسلمة: إنه والله ما وعظني شعر قط كما وعظني شعر ابن حطان حيث يقول:
فيوشك يوم أن يقارن ليلة … يسوقان حتفا راح نحوك أوغدا
فقال بعض من حضر: والله لو سمعته أجل الموت ثم أفناه، وما صنع هذا غيره. فقال مسلمة: وكيف ذاك ؟ قال: قال:
لا يعجز الموت شيء دون خالقه … والموت فان إذا ما ناله الأجـل
وكل كرب أمام الموت متضـع … للموت، والموت فيما بعده جلل
فبكى مسلمة حتى اخضلت لحيته، ثم قال: رددهما علي، فرددهما عليه حتى حفظهما.
طلب الحجاج عمران بن حطان السدوسي، وكان من قعد الخوارج، فكتب فيه إلى عماله وإلى عبد الملك.
وخرج عمران بن حطان هاربا من الحجاج، ولم يزل يتنقل في أحياء العرب، ثم لحق بالشام فنزل عند روح بن زنباع الجذامي، فقال له روح: ممن أنت ؟ قال: من الأزد، أزد السراة.
وكان روح مرة يسمر عند عبد الملك، فقال له ليلة: يا أمير المؤمنين، إن في أضيافنا رجلا ما سمعت منك حديثا قط إلا حدثني به وزاد فيه ما ليس عندي. قال: ممن هو ؟ قال: من الأزد. قال: إني لأسمعك تصف صفة عمران بن حطان، لأنني سمعتك تذكر لغة نزارية وصلاة وزهدا ورواية وحفظا، وهذه صفته. فقال روح: وما أنا وعمران ! ثم دعا بكتاب الحجاج فإذا فيه: (أما بعد، فإن رجلا من أهل الشقاق والنفاق، قد أفسد علي أهل العراق، وحببهم بالشراة، ثم إني طلبته، فلما ضاق عليه عملي تحول إلى الشام، فهو يتنقل في مدائنها، وهو رجل ضرب طوال أفوه أروق. قال روح: هذه والله صفة الرجل الذي عندي. ثم أنشد عبد الملك يوما قول عمران يمدح عبد الرحمن بن ملجم بقتله علي بن أبي طالب رضي الله عنه:
يا ضربة من كريم ما أراد بها … إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأفكر فيه ثم أحسبــه … أوفي البرية عند الله ميزانـــا
ثم قال عبد الملك: من يعرف منكم قائلها ؟ فسكت القوم جميعا، فقال لروح: سل ضيفك عن قائلها. قال: نعم، أنا سائله، وما أراه يخفى على ضيفي ولا سألته عن شيء قط فلم أجده إلا عالماً به. وراح روح إلى أضيافه فقال: إن أمير المؤمنين سألنا عن الذي يقول:
يا ضربة من كريم ما أراد بها…
ثم ذكر الشعر، وسألهم عن قائله، فلم يكن عند أحد علم. فقال عمران: هذا قول عمران بن حطان في ابن ملجم قاتل علي بن أبي طالب. قال: فهل فيها غير هذين البيتين تفيدنيه ؟ قال: نعم:
له در المرادي الذي سفكت … كفاه مهجة شر الخلق إنسانا
أمسى عشية غشاه بضربتـه… مما جناه من الآثام عريانــا
فغدا روح فأخبر عبد الملك، فقال: من أخبرك بذلك ؟ فقال: ضيفي. قال: أظنه عمران بن حطان. فأعلمه أني قد أمرتك أن تأتيني به. قال: أفعل. فراح روح إلى أضيافه، فأقبل على عمران فقال له: إني ذكرتك لعبد الملك فأمرني أن آتيه بك. قال: كنت أحب ذلك منك، وما منعني من ذكره إلا الحياء مني، وأنا متبعك، فانطلق. فدخل روح على عبد الملك فقال له: أين صاحبك ؟ فقال: قال لي إني متبعك. قال: أظنك والله سترجع فلا تجده. فلما رجع روح إلى منزله إذا عمران قد مضى، وإذا هو قد خلف رقعة في كوة عند فراشه، وإذا فيها يقول:
يا روح كم من أخي مثوى نزلت به … قد ظن ظنك من لخم وغسـان
حتى إذا خفته فارقت منزلــــه … من بعد ما قيل عمران بن حطـان
قد كنت ضيفك حولا لا تروعـني … فيه الطوارق من أنس ولا جان
حتى أردت بي العظمى فأوحشني … ما أوحش الناس من خوف ابن مروان
فاعذر أخاك، ابن زنباع، فإن لــه … في الحادثات هنات ذات ألـــوان
يوما يمان إذا لاقيت ذا يمــــن … وإن لقيت معديا فعدنــــــاني
لو كنت مستغفرا يوما لطاغيـــة… كنت المقدم في سري وإعلانــــي
لكن أبت ذاك آيات مطهــــرة… عند التلاوة في طه وعمـــــران
ثم أتى عمران بن حطان الجزيرة، فنزل بزفر بن الحارث الكلابي بقرقيسيا، فجعل شباب بني عامر يتعجبون من صلاته طولها، وانتسب لزفر أوزاعيا. فقدم على زفر رجل من أهل الشام قد كان رأى عمران بن حطان بالشام عند رح بن زنباع، فصافحه وسلم عليه، فقال زفر للشامي: أتعرفه ؟ قال: نعم، هذا شيخ من الأزد. فقال له زفر: أزدي مرة وأوزاعي أخرى ! إن خائفا أمناك، وإن كنت عائلا أغنيناك. فقال: إن الله هو الغني، وخرج من عنده وهو يقول:
إن التي أصبحت يعيا بها زفــر … أعيت عياء على روح بن زنباع
أمسى يسألني حولا لأخبــــره … والناس من بين مخدوع وخداع
حتى إذا انجذمت مني حبائلــه … كف السؤال ولم يولع بإهلاعي
فاكفف لسانك عن هزي ومسألتي … ماذا تريد إلى شيــخ لأوزاع
أكرم بروح بن زنباع وأسرتــه … قوما دعا أولهم للعلا داعــي
جاورتهم سنة فيما دعوت بـــه … عرضي صحيح ونومي غير تهجاع
فاعمل فإنك منعي بحادثــــة … حسب اللبيب بهذا الشيب من ناعي
ثم خرج ابن حطان فنزل بعُمان بقوم يكثرون ذكر أبي بلال - مروان بن مرداس بن أدية - ويثنون عليه، ويذكرون فضله، فأظهر فضله ويسر أمره عندهم. وبلغ الحجاج بن يوسف الثقفي - والي العراق - مكانه فطلبه، فهرب فنزل في روذ ميسان، فلم يزل به حتى مات.
كان عمران زاهدا عابدا، من الخطباء المعدودون عند الجاحظ، وقد اشتهر أيضا بالفقه والحديث، وهناك رواية تقول: أن لحجاج قبض على ابن حطان، وهم بقتله، ولكنه عفا عنه بعد حوار دار بين الرجلين، وكان الحجاج يشتمه، فيرد عليه عمران قائلا: بئس ما أدبك أهلك يا حجاج، كيف أمنت أن أجيبك بمثل ما لقيتني به ؟ أبعد الموت منزلة أصانعك عليها ؟ ويقدر الحجاج الموقف فيعفو عنه ويطلق سراحه.
وسوم: العدد 629