ذكرياتي مع السيدة أم العز (نعماء المجذوب)

جمعني الزمن مع سيدة رائعة بكل ما تحمل كلمة رائعة من معاني .. جمعني مع سيدة ما ظننت أن زماننا قادر على أن يجود بمثلها بكثرة .. فقد رأيت فيها التواضع مع الغنى .. القدرة على التعلم من الصغير قبل الكبير مع علمها الغزير .. المحافظة على الأناقة مع التقدم في السن .. اللطف في التعامل حتى مع أصحاب الألسن الطويلة والنفوس الوضيعة .. الرومانسية في زمن شحت المشاعر فيها .. تلك هي السيدة الكاتبة والأديبة والواعظة نعماء المجذوب .. من ذكرياتي معها أنني سألتها يوماً (رحمها الله) عن الغناء فقالت بصوتها الخفيض الرقيق وكأنها تنشد شعراً :

ـ يا بنتي الكون كله يغني .. حفيف الشجر غناء .. هديل الحمام غناء .. زقزقة العصافير غناء .. موج البحر غناء .. المهم القلب يتعلق بالله تعالى ..

كانت تعطي أمهاتنا درساً أسبوعياً في الدين والتجويد .. كنت يومها ضيفة عند الوالدة وذهبت معها أحضر درسها الأسبوعي عند الخالة أم العز .. وقدمت لنا من أصناف الحلويات والموالح الشيء الكثير الأنيق اللذيذ وكله من عمل يدها .. وكانت في تلك الفترة امرأة قاربت السبعين من العمر .. سألتها بإعجاب :

ـ ومتى استطعت أن تعملي هذه الأصناف ؟

بينما سألتها أخرى :

ـ ما هي وصفة البيتزا يا أم العز .. لم آكل بحياتي بيتزا بهذه الطعمة ..

ابتسمت وهي تشير لنا بالسكوت وقالت :

ـ يا قلبي يا عبير .. الآن درس .. بس نخلص درسنا بعطيكم سبعين طريقة لعمل البيتزا مجموعة في كتاب كل مرة أختار صنف منها وأقوم بطبخه ..

ابتسمنا بهدوء يشبه هدوءها .. وكأنما اقتبسنا منها تلك الرقة والعذوبة ..

كنت أعشقها وهي تفسر لنا آيات من الذكر الحكيم .. كانت تتحدث وتسرح بنا في عالم القرآن العظيم وجميل الجنة والخلود .. كان أسلوبها دائماً التبشير .. فهي تغرينا بما عند المولى من نعيم لتدفعنا إلى العمل الصالح دفعاً بحب وقوة .. ولا تذكر النار إلا عند تفسيرها لتلك الآيات العظيمة دون تعمق فيها حتى لا تخوفنا .. كنت أحب فيها تلك الروح المتعلقة بالله المحبة له .. ولازلت أذكر نظرة العتب في عينيها تحت النظارة الطبية عندما تكون تتحدث وتبدأ النسوة بحديث جانبي .. لم تكن ترغب أبداً بإحراج أي سيدة من الموجودات على الرغم من أن الموجودات إما بعمرها أو أصغر منها سناً .. إلا أنها الرقيقة دائماً التي لاتحرج أحداً ولا تجرح أبداً ..

دخلت بيتها كان عبارة عن متحف من الذوق والزرع والأثاث الأنيق المتوسط .. إلى الآن أحاول أن أقلد معلمتي في نظام غرفة الجلوس عندها .. فقد كان لها ركن مخصص فيه قرآنها الحبيب إلى قلبها وكتابها الذي تقرأ فيه يومياً لتنجزه وتبدأ بغيره (فهي قارئة من الصنف الممتاز) ودفترها وقلمها لتكتب أفكارها وأحد كتب التفسير .. ونظارتها الطبية ..

كم كنت أجلس بقربها أشتكي متاعب الحياة .. فما كان منها إلا ابتسامة رقيقة وكلمات عذبة تهون علي كل صعب وتريني الحياة من منظور متفائل فرح .. فأعود إلى حياتي بقلب وعقل جديدين مفعمين بالأمل والتفاؤل ..

كانت لنا صديقة تنظر للخالة كأم ومعلمة وأديبة وداعية .. كانت تلك الصديقة (فادية) تحلم أن يكون لديها منزل فيه من أصناف الزرع ما كان للخالة أم العز .. وكانت أم العز (رحمها الله) تبشرها بخير وتعطيها دفعة تفاؤل أن الله عز وجلّ سيعطيها ما تحب .. وبعد مدة وجيزة حصلت حادثة مؤسفة لفادية قضت نحبها فيها وكلنا فجعنا بفقد تلك الصديقة الطيبة حتى لما توفيت وهي ما تزال في أوائل العشرين من عمرها قلنا أنا ورفيقاتها :

ـ تلك الطيبة لا تصلح أن تعيش في هذه الدنيا القاسية ..

بعد وفاة فادية (رحمها الله) رأت أم العز فيها رؤيا أرجو المولى أن تكون قد حققت فعلاً عند الله عز وجل .. فقد رأت فادية وقد ملكت بيتاً مليئاً بأصناف الأزهار أحلى مما تملك الخالة .. كلنا تفاءلنا خيراً بهذه الرؤيا .. وأذكر أنها كانت صاحبة رؤى صادقة بإذن الله .

كانت الخالة أم العز تتمتع بروح أهل الساحل .. تتمتع برومانسية البحر الذي نشأت وترعرعت بقربه فكانت ذات صوت دافئ هادئ خفيض فيه غموض البحر وجماله وعنفوانه ..

كانت سيدة مجتمع من الطراز الراقي كنت أحبها وأحترمها وأتمنى أن أصل إلى مستواها أو قريباً منها في الخلق والدين والعلم والأدب والرقي والتواضع والأناقة في اللباس والكلام وأسلوب الحياة ..

رحم الله الخالة أم العز وأسكنها فسيح جنانه وجمعنا معها في الفردوس الأعلى من الجنة .

وسوم: العدد 630