مصر التي نعرفها
عندما نتكلم في هذا المقال عن مصر، فلسنا نتكلم عن مصر الأرض والتراب، أي أننا لا نتكلم عن مصر من منطلق مفهوم الوطنية، ذلك المفهوم المنحط الذي لا يصلح أن يربط الإنسان بالإنسان إذا أراد أن يسير في طريق النهوض، لا نتكلم عن مصر من منطلق مقولة "حب الوطن من الإيمان" التي أراد البعض أن يدلسها على الناس، ويجعلها زوراً وبهتانًا من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليرسخوا في أذهان المسلمين فكرة الوطنية التي ما أنزل الله بها من سلطان، وكانت من الأفكار التي أدخلها الاستعمار في أذهان المسلمين ليضرب وحدتهم التي كانوا عليها، فصار المصري يتعصب لمصريته، بل أكثر من ذلك يفتخر بفرعونيته وتاريخه السابق على الإسلام، وصار السوري يفتخر بآشوريته والعراقي ببابليته والمغربي ببربريته والتونسي بقرطاجيته وهلمَّ جرا، وصرنا شتاتا بعد أن كنا أمة واحدة من دون الناس تربطنا رابطة العقيدة والأخوة الإسلامية. ذلك التعصب للأرض والتراب تعصب مذموم ذمّه الرسول الكريم واعتبره من دعاوى الجاهلية التي أمرنا أن ندعها فإنها منتنة!
إذًا، نحن نتكلم عن مصر كمجتمع يقوم على علاقات دائمة تربط بين أبنائه، تقوم هذه العلاقات على أفكار معينة عن الحياة ومشاعر، تنطلق هذه الأفكار والمشاعر من قاعدة فكرية وقناعات ومفاهيم خاصة ويحكمها نظام يتواءم مع هذه الأفكار والمفاهيم والمشاعر. ولو نظرنا إلى مصر اليوم من خلال هذا المنظور لوجدنا أن هذه ليست مصر التي نعرفها، فمصر التي نعرفها لها تاريخ يمتد لأكثر من ثلاثة عشر قرنًا، ولا يمكن لمصر القرن الأخير أن تقضي على مصر العريقة عراقة كل تلك القرون، مصر التي نعرفها ويعرفها كل مسلم في العالم هي مصر الفتح الإسلامي، هي مصر عمرو بن العاص، وعبدالله بن سعد، وصلاح الدين الأيوبي، وقطز، وبيبرس وبن طولون، وليست مصر التي يحكمها طواغيت نصبهم الكافر المستعمر على رقابنا، طواغيت لا يرقبون فينا إلا ولا ذمه، يتباهى أحدهم أن اعتقل في ليلة واحدة ثلاثون ألفا من أبنائها! ويتباهى آخر بأنه فض اعتصام بعض أبنائها فقتل وجرح وحرق واعتقل ألوفًا منهم! دون أن يرف له جفن أو يهتز له قلب، بل يرى أنه لم يفعل أكثر مما فعلته أمريكا في حربها ضد فيتنام أو في الحرب العالمية الثانية!!
مصر التي أعرفها هي مصر التي يحكمها رجال يضعون نصب أعينهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لكل غادر لواء عند اسْتِهِ يوم القيامة يرفع له بقدر غدره، ألا ولا غادر أعظم غدراً من أمير عامة» [رَوَاهُ مُسْلِمٌ]. وكذلك حديثه صلى الله عليه وسلم: «ما من راع يسترعيه الله رعية لم يحطها بنصيحة إلا لم يدخل معهم الجنة» فتراهم لا يغدرون بأمتهم، بل يشفقون عليها ويرفقون بها، فرضي الله عنهم وأرضى الناس عنهم.
مصر التي نعرفها هي مصر التي قاتلت الصليبيين وأخرجتهم من بيت المقدس، وأوقفت زحف التتار وقضت عليهم، وليست مصر التي أضاعت سيناء والجولان والضفة وغزة والقدس الشرقية في ستة أيام، دُمِّر طيرانها وهو رابض على أرضه في ست ساعات! تلقينا الضربة ونحن نائمون، وزعيم مصر حينها يجعجع ويهدد كيان يهود بالويل والثبور وعظائم الأمور! ولا مصر التي أبرمت اتفاقية سلام مع كيان مغتصب لمسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أولى القبلتين وثالث المساجد التي تشد إليها الرحال، بل وأصبح شغل حكامها الشاغل تأمين يهود على جبهة سيناء، فتضرب بيد من حديد كل من تسول له نفسه أن يقوم بأي عمل قد يؤذي يهود، بل وينسق حكامها مع أمريكا وربيبتها "إسرائيل" لحفظ الحدود وغلق الأنفاق ومطاردة المجهادين.
مصر التي نعرفها قد تكون ولاية، ولكنها ولاية عظيمة في دولة عظيمة، هي دولة الخلافة الإسلامية التي كانت ملء السمع والبصر، مصر التي "ولايتها جامعة تعدل الخلافة" كما وصفها عمرو بن العاص، أو "سلطانها سلطان الأرض" كما قال أبو بصرة الغفاري. مصر التي لا أعرفها قد تكون "دولة"، ولكنها دولة عاجزة خانعة تابعة لا وزن لها في المسرح الدولي، بل هي ألعوبة في يد أمريكا، أمريكا التي تخلت عن رئيس سمسار وأتت بآخر ثم انقلبت عليه، ومن ثَمَّ سلمتها لسمسار رخيص آخر، يسوم أهلها سوء العذاب! أويعقل وهذا حالنا أن نفتخر بأننا "دولة"؟! فهو مجرد اسم خال من أي مضمون.
نعم! كانت مصر ولاية في الدولة الإسلامية، وليس هذا انتقاصا لدورها التاريخي ولمكانتها! بل إنها عندما كانت ولاية في دولة الخلافة العظيمة كانت قلب العالم الإسلامي النابض، وكانت الصخرة التي تكسرت عليها كل أطماع المستعمرين، سواء أكانوا الصليبيين الكاثوليك الذين شنوا "حربا مقدسة" ضد الأمة الإسلامية وقتلوا أيضاً من المسيحيين الأرثوذكس، أم كانوا التتار الذين عاثوا في الأرض فساداً وأهلكوا البشر والحجر والشجر. فإذا كان البعض ممن يدعون الوطنية الزائفة ينزعج ولا يرضى أن نجعل من مصر ولاية في دولة حضارية عظيمة لها كلمتها في المسرح الدولي، فهل يرضى أن تكون مصر دولة مدنية علمانية لا قيمة ولا وزن لها في المسرح الدولي كما كانت في العقود الأخيرة وكما هو حالها الآن؟! بل كانت ومازالت تابعة للعم سام تنفذ ما يُطلب منها، ولم يكن لها من الهيبة شيء إلا أنها سميت زوراً وبهتاناً "بالدولة المستقلة"!
مصر التي نعرفها هي مصر التي عاش في ظلها الأقباط: لهم ما لنا وعليهم ما علينا، لم يشعروا بالظلم ولم يقهروا، مصر التي أعادت بابا الأقباط بنيامين الأول إلى منصبه... بعد أن ظل متخفيا وهاربا في الصحراء ثلاثة عشر عاما بعد أن قتل البيزنطيون أحد إخوته أمام عينيه، فأرسل عمرو بن العاص رسالة إلى أرجاء مصر تقول: "الموضع الذي فيه بنيامين، بطريرك النصارى القبط، له العهد والأمان والسلام، فليحضر آمنا مطمئنا ليدبر شعبه وكنائسه"، وما أن وصلت أخبار عهد الأمان إلى "الأنبا بنيامين" حتى عاد إلى الإسكندرية وإلى منصبه البابوي، ومعه عاد القساوسة إلى أديرتهم، فقاموا بترميمها وإصلاح ما عبث فيها من خراب الفرس والبيزنطيين، وهذه الرواية وفق ما يرويه كتاب تاريخي مهم للأقباط أنفسهم، اسمه "السنكسار" الموصوف بأنه "جامع لأخبار الأنبياء والرسل والشهداء والقديسين". أما مصر التي لا أعرفها، فهي التي يلعب حكامها على وتر الفتنة الطائفية، ويشعلونها كلما أرادوا التغطية على فشلهم، أو على مخططات أسيادهم، ولنا في تفجير كنيسة القديسين في الأسكندرية في عهد المخلوع مبارك دليل على ذلك.
مصر التي نعرفها هي مصر الأزهر، منارة العلم والعلماء الذين تصدوا لتجديف الشيخ علي عبد الرازق، الذي ابتدع فأنكر أن الإسلام دين ومنه الدولة، كما تبجح بذلك في كتابه "الإسلام وأصول الحكم"، فأخرجوه من زمرة العلماء...
وليست مصر الأزهر الذي أصدر وثيقة يؤسس فيها للدولة المدنية الديمقراطية العلمانية لينفخ الحياة فيما ابتدعه علي عبد الرازق منذ نيف وثمانين عامًا، فعوقب على ذلك من علماء كانوا بحق ورثة الأنبياء آنذاك، وليست مصر الأزهر الذي يشارك شيخه الانقلابيين انقلابهم ويدعمهم، بل ويبرر بعض علمائه قتل الناس بوصفهم "خوارج" يستحقون القتل. مصر التي نعرفها هي التي أنجبت الليث بن سعد إمام أهل مصر في الفقه، والعز بن عبد السلام سلطان العلماء. وما زالت تنجب أمثالهم ولكنهم منبوذون، مُبعدون، معتّم عليهم لا يسمع بهم أحد، فهم ليسوا من الضيوف المرحب بهم في الفضائيات، التي تُفتح على مصراعيها لأنصاف المتعلمين، أو لعلماء السلطان الذين باعوا دينهم بدنيا غيرهم.
مصر التي نعرفها هي سلة غذاء العالم بحق، فهي التي أرسلت في عام الرمادة للمدينة المنورة النجدة، قافلةً أولها في المدينة وآخرها في مصر، وليست مصر التي يفتخر حكامها اليوم أنهم يتسولون من هنا وهناك، يتسولون من أمريكا كل عام مليار و300مليون دولار، تُقدم مصر مقابلها خضوعا وذُلا لا يليقان بكنانة الله في أرضه! يتسولون من دول الخليج: السعودية والإمارات والكويت وغيرها لينقذوها من إفلاس محقق، تصوروا معي: سلة غذاء العالم تعاني الفقر والحرمان وحتى الموت جوعا أحيانا! فهل تعرفون مصر هذه؟ أظنكم أيضا لا تعرفونها!
مصر التي نعرفها هي مصر التي تُحكم بالإسلام في كل شئونها، هي التي تتبع شرع ربها وتلتزم به في كل تصرفاتها، هي التي تدرك معنى الحكم بما أنزل الله، وأن عدم الحكم بما أنزل الله يوقع في الكفر أو الظلم أو الفسق، ويولّد الخزي والذل وضنك الحياة.
وليست مصر التي نعرفها هي التي تُنحي شرع ربها جانبا وتتسول دستورها من الشرق والغرب، ليست مصر التي نعرفها هي التي ترفض أن تجعل أحكام الشريعة الإسلامية المصدر الوحيد للتشريع، ليست هي من يشكل لجنة تأسيسية لوضع دستور لها، جلّ أعضائها إن لم نقل كلهم لا يستحقون مثل هذا الشرف، فضلا عن أنهم غير مؤهلين لهذه المهمة، قلوبهم ممتلئة حقدا وغلا وبغضا لكل ما هو إسلامي بحق.
فإلى مصر التي نعرفها ندعوكم أيها المسلمون في أرض الكنانة! إلى مصر التي نتمنى أن تكون، ونسعى لنعيدها لمكانتها التي كانت عليها، وهي كائنة إن شاء الله عما قريب، عندما تقام الخلافة الإسلامية، تكون مصر نقطة ارتكازها بإذن الله، فتسعى جاهدة لتوحيد أبناء الأمة في ظل خلافة على منهاج النبوة، يرضى عنها ساكنُ السماء وساكنُ الأرض، ويرضى عنها خالقُ السماواتِ والأرض قبل ذلك، فلا تُبقي الأرضُ في ظلّها خيراً إلا أخرجته، ولا تُبقي السماءُ من قطرها شيئاً إلا أنزلته، ويلقي الإسلام فيها بجرانِه على كل المعمورة، وما ذلك على الله بعزيز!
وسوم: العدد 630