رسالة إلى سيّد قطب
ما أخطأ من وصفك بعملاق الفكر الاسلامي ، وما جانب الصواب من أطلق عليك لقب الشهيد ، فقد نلت الوصفيْن باستحقاق عندما مزجت مداد العلم بدم الشهادة ، فأبدعت هنا وهناك ، شغلتَ الناس وأنت حيّ وشغلتهم وأنت ميّت ، بفكرك وجهادك في سبيل إعلاء كلمة الله أمام الجاهلية بكل أشكالها .
لقد عشتَ في ظلال القرآن الكريم تتعامل معه وكأنه أُنزل عليك ويخاطبك أنت ، ففتح الله عليك من أسراره وألهمك فهمًا نافذا لآياته ، فأبدعت في تجلية خصائص التصوّر الاسلامي أي فلسفة هذا الدين ورؤيته الكلية لله والكون والحياة والانسان ، التي أفسدتها الفلسفة الغربية الوضعية المنقطعة عن الدين بل المعادية له ، فذكرت خصائص الربانية في وجه الإنسية الطاغية ، والثبات ردّا على التطوّر الدائم المزعوم ، والشمول بدل ما ألِفَتْه العلمانية – ومعها الفكر لقاصر المنتسب للإسلام - من حصر الدين في زاوية الضمير وأماكن العبادة المقصاة من الحياة ، والتوازن مكانَ طغيان المادة والجسد والدنيا على حساب القيم والروح والآخرة ، والايجابية التي يتميّز بها الاسلام ويغرسها في نفوس أتباعه ليتحركوا ويعملوا ويصنعوا الحياة ويشيدوا الحضارة خلافا لما تشيعه بعض الرؤى من ربط الدين بالسلبية والعجز والانسحاب من المعترك ، والواقعية خصيصة أخرى بيّنتَ أنها أصيلة في الاسلام الذي لا علاقة له بالمثالية الحالمة والتجريد الفلسفي لأنه دين الانسان بقوته وضعفه وجانبيْه المشرق والمظلم ، والمسلمون بشرٌ ، منهم ظالمون لأنفسهم ومقتصدون وسابقون بالخيرات كما نصّ القرآن الكريم .
بهذا صحّحت تصوّرا أصيلا ناله ما ناله من الغبش منذ عصور الانحطاط ، وقد أبدعت في تناول العقيدة عندما تركت المقاربة الكلامية التاريخية والمماحكات اللفظية الجافّة وربطت بين العقيدة والحيوية والحركة في عالم الأفكار والعواطف والسلوك لتعود هذه العقيدة كما هي في الأصل دافعا للبذل والعطاء والجهاد في جميع الاتجاهات : النفس والشهوات والأعداء ، ومنهجا للحياة كلّها .
لقد حملت همّ الاسلام في زمن الغربة والتضييق وعتوّ الجاهلية فأكدتَ دون هوادة أن المستقبل لهذا الدين وبيّنت قسمات النظام الرباني وطبيعة المجتمع الاسلامي حين ظنّ الكثير أن التاريخ قد انتهى ورست سفينته نهائيا على الأنظمة الوضعية ، فألهمتْ كتاباتك الشباب والشيوخ من علماء ومصلحين ودعاة ورجال ونساء في كلّ مكان فواصلوا التنظير والحركة حتى خرج النموذج من عالم الأفكار والتجريد إلى واقع تجسّد – ولو جزئيا – في أكثر من مكان رغم المكر الكُبَار وتنادي اللادينيّين من كلّ صوب بإفشاله حتى لا يستوي على سوقه لأنهم يعرفون خطره على باطلهم ، وهذا ما نبّهت عليه بإسهاب حين قمت بتشريح مشكلات الحضارة ووضعت اليد على إسهام النظام المادي في تدمير الانسان – وهو يزعم العمل على رفعته وإسعاده - وكشفت قيام هذا النظام العالمي الكوني على التخبّط والتيه رغم استناده النظري إلى " العلم " ، لأنه أسّسَ حضارة لا تلائم الانسان فأصابتها عقوبة الفطرة ، و لا خلاص في العلاجات النابعة من داخلها لأنها تحمل التشويه ذاته ، فكيف تُجدي العلوم الانسانية في تصحيح مسار يكمن الخطأ والخطر في منطلقه حين أُبعدَ الدين والأخلاق عن صناعة الحياة والمساهمة في تأسيس أنظمتها وحراسة مسيرتها ، وإنما يأتي الخلاص من الرجوع إلى الفطرة وقوانينها وتطعيم العلم بالإيمان وتناول الروح والمادة معا ، حتى لا تنفصل الصناعة عن الصلاة والسياسة عن الدعاء والبحث العلمي عن الذكر.
عرف أعداء الاسلام خطر هذا التصوّر على مناهجهم الوضعية المنحرفة ولم يستطيعوا مقاومته بفكرهم الضحل فعمدوا إلى إعدامك في 29/8/1966حتى يموت فكرك ، فكان ذلك سببا لانتشاره في القارات الخمس ، وغزت الظلال والمعالم الأسواق والعقول والقلوب وأسّست لعهد جديد من الأدبيات الاسلامية القوية الحاسمة التي تأبى الترقيع وأنصاف الحلول وإلباس الدين ملابس الخَدَم ، وقد انضمّ إلى مناوئيك طائفة تنتسب للإسلام بل تحتكر الحديث باسمه ، درجت على الدوران في فلك الحُكام تسوّغ لهم أنواع الظلم والطغيان وتحرّم على الأمة إنكار منكرهم والصدع بكلمة الحق في وجوههم ، استنادا إلى نصوص دينية جزئية متشابهة تصادم محكمات الوحي ومقتضيات الكرامة الانسانية ، هؤلاء اصطفوا مع غلاة اللادينيّين في نقد فكرك وتوجّهك الأصيل تناسوا الأصنام البشرية التي صنعوها ووقعوا لها ساجدين ، ورسموك – أنت الرجل الوديع الذي لا يملك في يده إلا قلما سيّالا – صورة وحْش ضارٍ ، نجا من ألسنتهم عُتاة الكفار والظالمين ولم تنجُ منها أنت ، بالغوا في الافتراء عليك ، أتدري لماذا ؟ لأنك حرّ تدعو إلى الحرية ، وهم عبيد بلا أغلال ، فسدت فطرتُهم فاستحسنوا القبيح واستقبحوا الحسن ، انتظموا في " مواكب الفارغات - " بحسب تعبيرك أنت - وإصّلوا لما أسميتَه في خمسينيات القرن العشرين " الاسلام الامريكاني " ، فغدوا مع الأسف معول هدم لكلّ فكر صحيح وتوجّه أصيل ، يصطفون مع الجلادين ويلعنون الضحايا ويمنعون عليهم التأفّف فضلا عن الإنكار ولو كان سلميا ، هم أولئك المتاجرون بالدين الذين طالما وصفتَ حالهم وحذّرت من مسعاهم ، لكنّ الأمة تعرفك وتعرفهم ، وشباب الاسلام الواعي يدور مع أدب القوة لا مع أدب الخضوع لغير الله.
أنت على حق فيما كتبت ونظّرت يا سيّد ، والحركة الاسلامية تنهض من غير شكّ من كبوتها وتتجاوز بليّتها لتستوي على طريق التجديد والإحياء والارتقاء بالأمة روحيا وماديا ، والتمكين لمشروع الشعوب المؤمنة المستمسكة بدينها رغم العولمة الطاغية وأدواتها القمعية ، وقد علمّتَنا ألا نعيش لأنفسنا فنكون صغارا في حياتنا وموتنا ، وإنما أن نعيش لقضية كبيرة ضخمة خالدة هي قضية الاسلام لنكون مثْله كبارا يلفّنا الخلود حتى بعد بلاء أجسادنا ، ولم تكتفِ بقول هذا بل جسدته بالتضحية بنفسك ليحيا المبدأ وينتصر الدين ، فكيف يقدر على هذا الرافضون للدين والمتاجرون به ؟
وسوم: العدد 631