ماذا يحدث في سوريا والعراق؟ 2
ماذا يحدث في سوريا والعراق؟
(2) البعث يحكم من جديد
مجاهد ديرانية
-1-
انتهى حزب البعث العراقي نظرياً بقرار الحل الذي كان أحدَ النتائج المهمة للغزو الأميركي، وتكرس هذا القرار بتشكيل "الهيئة الوطنية لاجتثاث البعث" التي تعقّبت البعثيين في مؤسسات الدولة العراقية بالفصل والإقصاء. ولكن الحزب العتيد الذي حكم العراق لمدة ثلث قرن والذي كان يسيطر على الدولة والمجتمع ويُعَدّ منسوبوه بالملايين لم يستسلم، وما إن نُفِّذ حكم الإعدام بقائده السابق، صدام حسين، حتى تداعى كبار البعثيين وأعلنوا إعادة تشكيل الحزب وانتخاب عزّت إبراهيم الدوري أميناً عاماً للقيادة القطرية والقومية لحزب البعث العربي ورئيساً جديداً للعراق.
إن الدوري هو "الأب الروحي وعرّاب حزب البعث الجديد بسبب قدراته القيادية العالية وحنكته السياسية وشبكة علاقاته الواسعة" كما جاء في مقالة نشرتها جريدة التلغراف البريطانية يوم 18/5/2013 بعنوان "عودة عزت الدوري". وتقول بعض المصادر الأميركية إنه بدأ بالتواصل مع إدارة أوباما منذ أيامها الأولى في عام 2009، كما تتحدث مصادر بعثية معارضة (من الجناح الموالي لسوريا، الذي انشق عن الدوري بقيادة عضو القيادة القطرية السابق اللواء الركن محمد يونس الأحمد البدراني) تتحدث عن اتصالات أجراها مندوب عزّت الدوري، العميد الركن عبد القادر علوان الحمد، مع مسؤولين أميركيين في السفارة الأميركية في بيروت.
ربما كانت تلك الأخبار مجرد إشاعات يستحيل إثباتها، ولكن خطابات الدوري المسجلة لا يمكن نفيها، وقد تضمنت منذ بداية عام 2009 عبارات من التزلف الصريح للرئيس الأميركي الجديد وعروضاً واضحة للمصالحة بين حزب البعث والولايات المتحدة، ابتداء بالخطاب الذي ألقاه في العيد الثامن والثمانين للجيش العراقي في السادس من كانون الثاني (يناير) 2009، حيث خاطب الرئيس الأميركي باراك أوباما قائلاً:
"نقول باسم الشعب لهذه الإدارة ولرئيسها بشكل خاص السيد باراك أوباما، التي جاءت وعلى رأس شعاراتها الانسحاب من العراق، نقول: عليك أيها الرئيس، رئيس أقوى دولة في العالم وأكثر دولة تقدماً وحضارة وأكثرها ادعاء بالحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، أن يفي بعهده لله وللشعوب الأمريكية ولضميره ووجدانه، وليحرز بذلك مكانة في التاريخ ترفع ذكره في الحياة الدنيا إلى يوم القيامة. وأقول للرئيس أوباما: إن أردت وأرادت إدارتك المحافظةَ على مصالح الولايات المتحدة الإستراتيجية المشروعة في بلدنا وفي منطقتنا فإن القادر الوحيد على حفظها هو شعب العراق الحر المستقل. نحن في المقاومة الوطنية والقومية والإسلامية وفي القوات المسلحة المجاهدة نتعهد لكم إن أعلنتم الانسحاب الشامل من العراق وتركه لأهله حراً مستقلاً أننا سنتحاور معكم فوراً لإقامة أفضل وأوسع وأعمق العلاقات الإستراتيجية مع أمريكا على أساس المصالح المتبادلة والمشتركة".
لقد فاجأ هذا العرضُ الواضح عدداً كبيراً من العراقيين، حتى إن أحد المواقع العراقية المهمة علق عليه قائلاً إن "مساومات عزت الدوري وعروضه المغرية للمحتلين بلغت درجة الابتذال". وفي الحقيقة فإنّ لنا أن نتخيل أن علاقات أوثق واتصالات أعمق تجري بين الطرفين وراء الكواليس، فإن حزب البعث الذي عُرف بالبراغماتية والميكافيلية لن يدّخر وسعاً للعودة إلى الحكم بأي طريقة كانت، كما أن الولايات المتحدة التي جرّبته في سوريا والعراق لسنوات طويلة سترحب بالتعامل والتعاون معه بدلاً من غيره من الإسلاميين أو من شرفاء الوطنيين.
-2-
ما هي العلاقة بين البعثيين وداعش؟ لكي نبدأ القصة من أولها يتوجب علينا العودة إلى عهد أمير تنظيم دولة العراق السابق، حامد داود الزاوي المشهور بأبي عمر البغدادي، وهو ضابط أمن سابق في نظام صدام حسين، ترك الخدمة وتحول إلى الفكر السلفي منذ أواخر الثمانينيات حيث أنشأ جماعة سلفية صغيرة، ثم انضم إلى فرع القاعدة في بلاد الرافدين بعد تأسيسه، وعندما قُتل أبو مصعب الزرقاوي عام 2006 انتُخب أميراً لمجلس شورى المجاهدين الذي تحول إلى تنظيم دولة العراق الإسلامية في وقت لاحق.
استطاع أحد الضباط البعثيين الكبار أن يتقرب من أبي عمر الذي منحه ثقته الكاملة بعدما حصل منه على أسرار ومعلومات عسكرية مهمة. ذلك الضابط هو العقيد الركن حجي بكر (واسمه الحقيقي سمير الخليفاوي)، وقد أظهر التديّن والتوبة الصادقة من انتمائه لحزب البعث، ولعل هذا كان مدخلاً مناسباً للرجل الذي كان هو نفسُه ضابطَ أمن قبل توبته وتدينه، فإذا قَبِل التوبة من نفسه فلماذا لا يقبلها من أمثاله؟ وسرعان ما قدم العقيد حجي بكر لأبي عمر البغدادي مزيداً من الضباط "التائبين" الذين قدّموا المزيد من الخبرات العسكرية والمعلومات المفيدة للتنظيم.
ثم قُتل أبو عمر في هجوم أميركي على موقع سري كان يضم اجتماعاً قيادياً لكبار قادة التنظيم، وقُتل معه عدد من مساعديه على رأسهم نائبه ووزيره الأول أبو حمزة المهاجر (أبو أيوب المصري) كما أُسِرَ بضعة عشر من القادة الذين نجوا من الموت. كانت تلك حادثةً غامضة لم تنكشف أسرارها حتى اليوم، فالمعلوم أن المكان الذي استُهدف بالهجوم لم يكن معروفاً إلا للقيادات العليا في التنظيم، وقد قُتلوا أو أسروا في العملية، وبطريقةٍ ما نجا الرجلُ الذي قُدِّر له أن يلعب الدور الرئيسي في كل ما سيجري بعد ذلك من أحداث، العقيد الركن حجي بكر.
أعاد حجي بكر بسرعة ترتيبَ البيت الداخلي للتنظيم، فشكل مجلساً قيادياً من زملائه الضباط البعثيين واختار خلفاً لأبي عمر رجلاً يجهله معظمُ قادة الصف الثاني، وكان قائداً صغيراً في الأنبار اسمه إبراهيم عواد، ثم قام باتصالات فردية مع قادة الصف الثاني وأعضاء مجلس الشورى الذين نجوا من القتل والاعتقال واستطاع أن يوهم كل واحد منهم أن البقية مُجمعون على اختيار إبراهيم أميراً جديداً للجماعة. لم يستطع أحدٌ أن يتوثق من ذلك الزعم، كما أن الظروف الأمنية الصعبة التي سيطرت على الموقف لم تسمح بالتشاور الحقيقي بين أهل الرأي في التنظيم. وهكذا نجح العقيد في تولية الرجل الذي أراد، وصدر عن التنظيم يوم 16/5/2010 إعلانٌ رسمي سمّى أبا بكر البغدادي أميراً جديداً لدولة العراق الإسلامية.
ما حصل بعد ذلك كان كارثة يصعب تخيل حجمها؛ باختصار: لقد ضاع التنظيم إلى الأبد. عزل العقيد حجي بكر (الذي صار هو الرجل القوي والقائد الفعلي للتنظيم) أبا بكر البغدادي عن القيادات الوسطى، وأعاد تشكيل مجلس الشورى الذي صار يتكون بشكل رئيسي من الضباط البعثيين، ثم أنشأ جهازاً أمنياً يشبه الأجهزة الأمنية التي أنشأها البعث الحاكم أيام صدام. وقد جمع العقيدُ عناصرَ الجهاز الجديد من عناصر الأمن السابقين في الحقبة البعثية، وكُلّف الجهاز بمراقبة أعضاء التنظيم وتنفيذ الاغتيالات داخلَه وخارجه (على النحو الذي عرفناه في سوريا مؤخراً، حيث استمر الجهاز بتنفيذ مهماته القذرة حتى صار مصدرَ رعب للدواعش أنفسهم، الذين باتوا يخشون أمنيّي التنظيم أكثر ممّا يخشون أعداء التنظيم الخارجيين، وقد تأكد هذا الأمر الخطير في شهادات كثيرة صدرت عن دواعش سابقين منشقين).
حرص العقيد حجي بكر على ربط جهاز الأمن به مباشرة، وبدأ الجهاز بالعمل على الفور، فنفذ خلال الشهور التالية عملية "تنظيف وتطهير" ذهب ضحيّتَها عشراتٌ من المجاهدين في تنظيم الدولة وفي غيره من الجماعات الإسلامية التي كانت تقاتل الأميركيين. وقد عرفنا تفصيلات مذهلة في هذا الخصوص عندما نشرت جماعةُ أنصار الإسلام مراسلاتها مع أمير القاعدة، أيمن الظواهري، وتظلّماتها من غدر تنظيم الدولة وعدوانه واغتياله لعشرات القيادات العسكرية والشرعية في الأنصار، أما ما فقده تنظيم الدولة نفسه من كفاءات بسبب تلك الاغتيالات فقد تحدث عنه جهاديون منشقّون عن التنظيم، وأكثرهم من المخضرمين الذي جاؤوا من أفغانستان.
لقد أدرك كثير من أولئك المجاهدين المخضرمين المجرّبين أن البعثيين "سرقوا" تنظيم دولة العراق الإسلامية بدهاء واحترافية عالية، ولعلهم حاولوا إقناع أنفسهم لوقت طويل بأن ما حصل وَهْمٌ لا حقيقة، ولكنهم اضطروا أخيراً إلى الاعتراف بالكارثة والبكاء على "الدولة الإسلامية المفقودة".
-3-
بدأت الحوادث العراقية الأخيرة بهجوم مفاجئ على الموصل في السادس من حزيران، وقد صار معروفاً الآن أن داعش والنقشبندية التي يقودها عزت الدوري هما مَن بدأ بالمعركة. فأمّا داعش فإننا نعرفها حق المعرفة بعد كل الذي كان، فمَن هي القوة الأخرى؟ إنها "جيش رجال الطريقة النقشبندية" الذي سُمع عنه للمرة الأولى في بداية عام 2007، بعد وقت قصير من إعدام صدام حسين، والذي تطور بسرعة ليصبح واحدة من أقوى الجماعات المسلحة في العراق وأكثرها تنظيماً، وقد صار يُشار إليه دائماً باعتباره الذراع العسكرية لحزب البعث العراقي الجديد.
نشر "معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى" قبل ثلاث سنوات دراسة مثيرة عنوانها "حركة جيش رجال الطريقة النقشبندية والتمرد القادم في العراق". المقالة كتبها الخبير الإستراتيجي في الشأن العراقي مايكل نايتس ونُشرت بتاريخ 22 تموز (يوليو) 2011، وجاء فيها في وصف نشأة الجماعة التي يتكون أكثر عناصرها من جيش صدام السابق وأجهزته الأمنية وضباط وعناصر الحرس الجمهوري: "في البداية تم استقطاب نشطاء لحركة جيش رجال الطريقة النقشبندية من مجموعة مختارة من ضباط المخابرات والجيش السابقين في أيام حكم البعث الذين بلغوا رتباً عسكرية تتراوح بين مقدم وعميد، ويبدو أنه قد تم تجنيد الكوادر الأولى من نشطاء الجيش من الحرس الجمهوري ومن ضباط الاستخبارات العسكرية السابقين".
وماذا عن مستقبل تلك الجماعة؟ هل نستطيع أن نتوقع مشاركتها في أي اتفاق سري لتقاسم السلطة في العراق؟ تقول الدراسة المذكورة: "إن حركة جيش رجال الطريقة النقشبندية -مثل زعيمها عزت إبراهيم الدوري- هي حرباء قادرة على أخذ الشكل الذي يخدم مصالحها على النحو الأمثل في كل وقت. إن المزيج الذي تجمعه الحركة والذي يشمل الخطاب الإسلامي والقومي واستغلالها للحنين إلى عهد البعث يعني أنها منسجمة تماماً مع آراء السكان الذين تعتمد عليهم، لكن المشهد الإستراتيجي في العراق سيتغير لأسباب ليس أقلها السّحْب القادم للقوات الأمريكية، فكيف ستتكيف الحركة مع الأشواك المحتملة في الطريق أمامها؟ تقول حركة جيش رجال الطريقة النقشبندية إنها ستكون مستعدة للتفاوض على وقف إطلاق النار مع حكومة العراق والولايات المتحدة، لكن فقط عندما يتم إلغاء التغييرات التي طرأت في العراق منذ عام 2003، وعلى رأسها عودة نصف مليون من أفراد الأمن لمراتبهم السابقة ونقض الاعتراف بجميع الأجهزة والقوانين الحكومية التي أُدخلت منذ بدء الاحتلال".
-4-
حسناً، بعدما تعرفنا على جيش النقشبندية الذي بدأ المعركةَ الأخيرة مع داعش بقي أن نسأل السؤال المنطقي التالي: ما هي العلاقة بينهما؟ كيف اجتمعت هاتان القوتان معاً وهما نقيضان: طريقة صوفية وسلفية جهادية؟ في سوريا لا تقبل داعش بأن تقاتل مع النصرة وهي تتقاطع معها في مساحة واسعة من الفكر والمنهج، بل إنها تحكم على مخالفيها من الإسلاميين ومن السلفيين بالفسق، بل بالردة والكفر، فكيف قاتلت في العراق مع البعث وكيف قاتلت مع النقشبندية؟ كيف يختلط الزيت والماء؟ أم أنه لا زيت ولا ماء، إنما هي كلها خَلٌّ قارح جارح؟
نشرت جامعة ستانفورد بتاريخ 15/2/2012 دراسة عن "جيش رجال الطريقة النقشبندية"، أشارت فيها إلى تقرير استخباري أميركي يؤكد أن التعاون بين جيش النقشبندية ودولة العراق الإسلامية كان كبيراً جداً خلال السنوات الأخيرة، وأن الجيش كان يموّل تنظيم الدولة بالمال ويقدم له الخطط العسكرية ويكلفه بتنفيذ العمليات التي يحرص على عدم الظهور العلني فيها، ولا سيما أعمال القتل التي كان تنظيم الدولة يُسَرّ بنسبتها إليه.
كما ورد تأكيد لهذا المعنى في دراسة معهد واشنطن التي أشرت إليها آنفاً، حيث يؤكد كاتب الدراسة أن جيش النقشبندية استعمل داعش كمقاول بالباطن: "إن حركة جيش رجال الطريقة النقشبندية تستعين بمصادر خارجية، حيث تعهد ببعض العمليات لحركات متمردة كالجيش الإسلامي وحماس العراق وأنصار السنة وجيش محمد. ويبدو أن الحركة توظف تنظيم القاعدة في العراق للقيام بهجمات على العراقيين يسهل إنكارها، وتحديداً ضد أهداف مدنية. وفي مثال مشهور اتفقت الحركة مع تنظيم القاعدة على تفجير سيارة في مركز التحكم المشترك في الدور في كانون الأول (ديسمبر) عام 2006، كجزء من إستراتيجية ناجحة للقضاء على منافسي قبيلة الدوري في المنطقة. وكذلك كانت حركة جيش رجال الطريقة النقشبندية على علاقة بتفخيخ سيارات قام بها تنظيم القاعدة في العراق في محافظات الرمادي وكركوك وتكريت".
إن هذا كله ينسجم تماماً مع نظرية اختراق البعث العراقي لداعش وسيطرته عليها، فإذا كان هو مؤسس جيش رجال الطريقة النقشبندية وهو المسيطر على تنظيم داعش فإن من المنطقي تماماً أن ينسّق بين القوتين وأن يشركهما في المعركة معاً وصولاً إلى تحقيق هدفه الأعلى، وهو الوصول إلى الحكم وإعادة الدولة البعثية من جديد.
النظرية السابقة لا تمنع أن تكون داعش مخترَقة بواسطة النظام السوري أيضاً، بل لا بد أن للنظام فيها عدداً كبيراً من العملاء والجواسيس كما ينبغي أن نتوقع، فهو متمرس في اختراق كافة أنواع الجماعات والتنظيمات منذ أيام الطاغية البائد حافظ الأسد. وفي الحقيقة فإن النظام السوري ليس وحيداً في هذا الاختراق، فإن من الحكمة أن تفترض الثورة السورية أن أجهزتها العسكرية والثورية كلها مخترَقة من قِبَل عشرات الأجهزة الاستخباراتية العربية والإقليمية والعالمية، ولا أبالغ لو قلت إن العملاء والجواسيس ينتشرون في تلك الأجهزة مثل السوس.
عندما ندرس الحوادث اعتماداً على هذه النظرية فإننا لن نستغرب من اشتراك القوتين (المتناقضتين في الظاهر) في المعركة ذاتها، وكما جاء في مقالة نشرتها جريدة نيويورك تايمز بتاريخ 18/6/2014 فإن "دور البعثيين في المعارك الأخيرة هو العامل الخفي الذي يفسر الانتصارات السريعة التي حققها عدد قليل من مقاتلي داعش لا يتجاوزون بضعة آلاف، وأكثرهم بلا خبرة قتالية ذات شأن". ثم تنقل المقالة عن الخبير الإستراتيجي في الشأن العراقي والباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، مايكل نايتس، قوله: "ما كان بوسع داعش تحقيق معشار ما حقّقته من إنجازات لولا الدعم الذي حصلت عليه من جيش رجال الطريقة النقشبندية، وهو جيش منظم يضم الآلاف من ضباط وجنود الجيش العراقي السابق والحرس الجمهوري وأجهزة المخابرات العراقية".
-5-
قد أكون مخطئاً، يمكن جداً أن أكون كذلك، ولكنه ظن مُلِحٌّ ما يزال يطرق باب عقلي منذ بداية الحوادث العراقية الأخيرة حتى لم أجد بُدّاً من قَبوله. أعترف بأني بِتّ على قناعة من هذه النتيجة المحزنة: لقد عاد البعث إلى الحكم من جديد، ولكن ليس على أكتاف القوميين الذين حملوه قبل ثلثَي قرن، وإنما على أكتاف المسلمين، بل على جثث مَن كان ينبغي أن يكونوا من صَفوة مجاهدي الأمة في الزمان الأخير.
نشرَت داعش صورةً لجرّافة تهدم حاجزاً ترابياً على الحدود كما زعمت، فرقص طرباً كلُّ مغفل من أتباعها وأنصارها وقالوا: انظروا كيف تتمدد دولة الإسلام وتزيل حدود المستعمرين؟ لا سايكس بيكو بعد اليوم.
أرأيتم إلى الخراف وقد أُعِدَّت للذبح في يوم عيد، فجاء الجزار فقطع بسكينه الحبلَ الذي يربطها في أعناقها، ففرحت بسكينه وطربت وهلّلت لها، وما درت أنها هي السكين التي ستذبحها بعد قليل؟ كم بينَنا من خراف ترقص طرباً للسكين التي فكت الحبل ولا تدري أنها السكين التي ستفكّ رقابها عن أبدانها عمّا قريب!
قبل مئة عام ارتدى عميلٌ بريطاني لباسَ البدو وتحدّث لغة العرب، ثم قاد في البادية جموعاً من الغوغاء الهائجين فرسموا بدمائهم الحدودَ السياسية للدول الجديدة التي ورثت آخر إمبراطورية إسلامية عرفها التاريخ. اليوم، وبعد تلك المأساة بقرن كامل، يخرج من البادية عميلٌ جديد، تنظيمٌ لم ينطق بالعربية فحسب، بل رفع راية إسلامية أيضاً، ثم كرر القصة نفسها، فجمع جموعاً من الغوغاء الهائجين الذين يرسمون بدمائهم الحدودَ السياسية الجديدة لسادة القرن الجديد، المستعمرين الجدد الذين ورثوا إمبراطوريات القرن الغابر.
(التتمة في المقالة الآتية "حروب التقسيم وحدود الدم")