عثمان بن عفّان.. المُفترى عليه في بلد الأزهر

يا ذاكر الأصحاب كن متأدبا         واعرف عظيم منازل الأصحابِ

هم صــفوةٌ رُفـــعوا بصحبة أحمدَ       وبـــذاك قد خُصـــوا من الوهـــابِ

هم ناصروا المختارَ في تبليغهِ        فجزاهم الرحمن خير ثوابِ

ما بال أهل الغي طال لسانهم      وتجرأوا ..ورَمَوْهُموا بسبابِ

عندما يغيب صوت الحق وتُكمم أفواه أنصاره، ويلتمع الباطل برعاية الظالمين من أهل السطوة والغلَبة، حينئذ يجد الأقزام مجالا رحبا للتطاول على عمالقة الإسلام بغير رادع أو محاسبة.

في إحدى حلقات مسلسل الهجوم على ثوابت الإسلام من قِبَل إعلام مسيلمة أحد أعمدة الانقلاب في مصر، انبعث أشقى القوم ليمارس الدور البغيض المعتاد في التطاول على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.

فعلى صفحات جريدة المصري اليوم التابعة للانقلاب، كتب الصحفي المصري خالد منتصر مقالا يتّهم فيه الخليفة الراشد عثمان بن عفان بصناعة الإرهاب، والتكريس للعُنف وإراقة الدماء عبر تاريخ ممتد إلى واقعنا المعاصر.

وكعادتهم في الكذب والتدليس، استند الكاتب إلى مقولة لعثمان رضي الله عنه إبّان أحداث الفتنة، والتي طالبه خلالها أعداؤه القادمون من مصر والعراق وغيرهما، بالتنازل عن الخلافة، فأبى عثمان رغم الحصار المضروب عليه، قائلا: "لا أنزع سربالا سربلنيه الله".

اقتطع الكاتب هذه المقولة دون ذكر مناسبتها، وبدون التطرُّق إلى الدوافع الشرعية التي جعلت الخليفة عثمان يُصرّ على موقفه ولا يخلع عن عُنُقه رِبقة الخلافة.

وبنى الكاتب على هذه المقولة عدة أمور:

ادعى أن العبارة بمفهومها ودلالتها غيرت تاريخ المسلمين وجعلته منذ تلك اللحظة ساحة معركة لمذاهب متقاتلة متطاحنة.

زعم أن العبارة كانت حجر الأساس في (تأليه الحاكم) الذي لا يُسأل عما يفعل ولا يُحاسب عما يقترف.

اتهم عثمان بأنه أصّل لنظرية السربلة الإلهية والخلط بين الدين والسياسة واعتبر أن هذا الخلط كان أول عصا توضع في تروس العجلة الإسلامية.

زعم أن مقولة عثمان هي من صنعت الفكر المتطرف، وقال ما نصه: "الجملة كانت عابرة، ولكنها عبرت السنين والقرون والقارات لتستقر مثل الرصاصة في قلب وكبد وعقل الأمة، ويموت في سبيلها عشرات الآلاف من المسلمين ما بين مفخخ ومفجر ومبتور ومبقور وغارق ومارق ومشوي على طريقة داعش، أو مذبوح على سنة البغدادي والزرقاوي والظواهري".

* ابتداء.. لن أناقش هذه الفرية أو أردّ عليها من خلال بيان قوانين الأدب في الحديث عن الصحابة رضوان الله عليهم، فهو أمر لا تتسع له هذه الصدور التي امتلأت أحقادا، وتعيش من أجل قضية إقصاء الدين عن شؤون الحياة، وإنما أتناولها من زاوية بيان التزييف وعدم التزام الدقة والأمانة العلمية في النقولات التاريخية، ومن زاوية التعسّف في توجيه العبارة والربط المتكلف بينها وبين نشأة الأفكار المتطرفة.

* ولمن لا يعلم، فإن الذين ثاروا على الخليفة الراشد عثمان بن عفان، كانوا أصحاب فتنة تولّى كبرها عبد الله بن سبأ اليهودي، رائد التشيع، والذي ألّب على عثمان وأسقط أحقيته بالخلافة، ولم يكن في الذين حاصروه وقتلوه أحدٌ من الصحابة، سوى محمد بن أبي بكر، والذي دخل دار عثمان فكلمه الخليفة الراشد بكلام، فخرج من البيت ولم يشترك في قتله، كما ذكر ابن عبد البر والمزي وغيرهما.

* تغافل الكاتب عن الدافع الذي جعل عثمان بن عفان يأبى التنازل عن الخلافة، وأوهم القارئ أنه مجرد (حِرص) على السلطة.

وإلى هذا المغرض أسوق حديثا صحيحا يفصل بيني وبينه في دعواه، وهو يُعتبر من دلائل النبوة حيث أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فيه عن أمر مستقبلي بوحي من الله، فقال لعثمان: (يا عثمان! إن الله مقمّصك قميصا فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه حتى تلقاني).

إذن فهو أمر مباشر صريح من النبي صلى الله عليه وسلم، وكما يقول علماء الأصول فإن الأمر يقتضي الوجوب، ولم يكن رغبة في التمسك بالسلطة كما أراد هذا الكاتب أن يصوّر للقُرّاء غير المُطّلعين.

* فلماذا لم تذكر هذا المُتعَلّق أيها المُغرض في دعواك؟

حتما أنت قرأت عن السياق بأكمله، فلمَ اجتزأت هذه المقولة مما يتعلق بها، وتجاهلت هذا الدافع الشرعي لدى عثمان؟

أجيبك أنا: لأنه أمر دُبّر بليل، ورغبة مُلحّة في تحميل رموز الإسلام المسئولية المعاصرة عن الكوارث التي صنعتها أنظمة ديكتاتورية قمعية علمانية كنت أنت وأمثالك جزءًا أساسا فيها، وهو يحمل في طياته دعوة لنبذ المنهج الإسلامي الأصيل.

يا هذا لو كان عثمان مُسعّر نيران الفتنة وصانع الإرهاب، لقبل بأن يقاتل الصحابة وأبناء الصحابة عنه، لكنه قد أبى، وتمسك بأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وفي نفس الوقت فدى المسلمين بنفسه، ورفض أن تراق دماؤهم.

* يقول ابن عبد البر في الاستيعاب: "روى سعيد المقبري عن أبي هريرة قال : إني لمحصور مع عثمان رضي الله عنه في الدار قال : فرُميَ رجلٌ منا فقلت : يا أمير المؤمنين الآن طاب الضراب.. قتلوا منا رجلا قال: عزمتُ عليك يا أبا هريرة إلا رميت سيفك فإنما ترادُ نفسي وسأَقي المؤمنين بنفسي".

لقد كان مع عثمان في داره ساعة الحصار جمع من الصحابة منهم عبد الله بن عمر، وعبد الله بن سلام، وعبد الله بن الزبير، والحسن بن علي، وأبو هريرة، وزيد بن ثابت وغيرهم، وهو ثابت في الكتب التاريخية، لكنه أبى أن يقاتل هؤلاء عنه، فهل مثل عثمان يُتّهم بأنه صانع الإرهاب؟

* هذا الكاتب الذي يوصف بأنه تنويري، ليس بأكثر من عقلية ظلامية، تشكّلت وتحجّرت على نبذ التراث وقطع الصلة به، ولو كان لديه قليل من الإنصاف، لما تجرّأ على رشق الخليفة الثالث بهذه التهمة، ولو أراد لنظر إلى الحسن بن علي رضي الله عنهما، والذي تنازل عن الخلافة لمعاوية لتجتمع عليه الكلمة، فلماذا لم يتأثر الحسن بن علي بما أسماه (نظرية السربلة الإلهية التي وضعها عثمان) كما زعم الكاتب؟ يقينا كان عثمان سيتنازل ، لولا أنه امتثل لأوامر نبيه صلى الله عليه وسلم.

فلماذا تُحمِّل عثمان بن عفان جرائم تُرتكب لم يصنعها سوى الأنظمة والحكومات التي صنعت الإرهاب بالسياسات القمعية والتبعية لأمريكا؟

* ينزع الكاتب في مقالته إلى الخلط بين منصب الخلافة في الإسلام، وبين الحكم الثيوقراطي الكنسي الذي ثارت عليه أوروبا، لينسف حُلم او فكرة الخلافة من أذهان المسلمين.

الحكم الثيوقراطي كان يعطي قداسة للحُكّام باعتبارهم ينوبون عن الله، وهيمنوا على حياة الناس باعتبارهم أصحاب الحق الإلهي، وقمعوا الكلمة والفكرة، ونهبوا ثروات الشعوب، فخضعت حتى النظريات العلمية لموافقة الكنيسة، ولم يكن للشعوب أدنى الحق في مراجعة الحُكّام.

وأما منصب الخلافة في الإسلام، فلم يتجاوز أن يكون هذا الخليفة القائم بأحكام الإسلام ورعاية المسلمين سوى موظفا لدى الدولة، تزيد همومه عن هموم الناس، ويقوم الشعب باختياره وتعيينه، وبعزله إن اقتضى الأمر ووُجدت الدوافع ووفق الضوابط الشرعية.

* وفي مقالته يكشف الكاتب عن وجهه العلماني عندما يقول:

" نظرية الحكم الرداء وعبارة السربلة الإلهية التي خلطت الدين بالسياسة....".

فهو كشأن العلمانيين يفصل الدين عن شؤون الحياة ومناحيها، فالدين عند المعتدلين منهم (إن صحت التسمية) مكانه في المسجد، وفي علاقة الإنسان بربه، واختزلوا الدين كله إلى مجموعة من القيم الروحية، وأما السياسة والاقتصاد والإعلام والقضاء والدساتير.....، فلا يجب أن يتدخل فيها الدين.

يا هذا، عثمان بن عفان لم يصنع الذبح والحرق والشيّ والتكفير، إنما صنعه الذين أجبروا الشباب على سلوك مسالك العنف وإراقة الدماء..

 صنعه الذين أودعوا خيرة أبناء الأمة في السجون، وحاربوا الناس في أرزاقهم وأفكارهم، وقدموهم قرابين لنيل رضا الشرق والغرب.

هذا التطاول كما أسلفت، حلقة في سلسلة الطعن في ثوابت الإسلام والنيل من الصحابة حمَلَة هذا الدين، والتي انتهجها الإعلام الانقلابي، بعد أن أخرس زعيمهم كل صوت معارض، وأغلق الفضائيات الإسلامية، وقام بإقصاء واعتقال وإخماد أصوات أهل العلم الذين لا يتحدثون باسم السلطة، فصار الميدان رحبا للناعقين والرويبضة، لكي يطعنوا في عثمان وغير عثمان، وفي ظل صمت الأزهر الذي أصبحت مُهمّته من بعد 3 يوليو 2013م شرعنة الانقلاب وسياساته.

رضي الله عن الصحابة أجمعين، وعن الخليفة الراشد عثمان، والذين لم نولِهم حقهم في الدفاع عنهم، لكنه جهد المُقل.

وسوم: العدد 632