حين حطم الغربيون أنموذجهم الحضاري كمصدر إلهام

اورينت

" الرافضون للحضارة المعاصرة " هذا هو العنوان الذي يصر أهل التعصب من الغربيين أن يحشروا الشعوب العربية والإسلامية تحته . ومع أنه لا أحد ينكر أن التجلي الأخير للحضارة الإنسانية في ثوبها المعاصر هو غربي بامتياز ، ومع أن كل رجال الفكر والثقافة من المؤسسين لمشروع نهضة الأمة العربية المسلمة على مدى أكثر من قرن ظلوا يجهرون بضرورة الاستفادة من كل المعطيات الإيجابية في كليات وجزئيات الحضارة الإنسانية ؛ إلا أن الإطلاق المشوِه المقصود يصر على المراوغة والتدليس وحشر أصحاب مشروع ( الاستئناف الحضاري ) في خانة العداء والرفض للمشروع الحضاري المعاصر ، في لبوسه الغربي كما أسلفنا.

وليس تزلفا للغرب ، ولا خضوعا له نؤكد أن ما يؤمن به السواد العام من أبناء الأمة أولا ، هو وحدة السياق الحضاري للإنسانية جمعاء . فالحضارة الإنسانية في تجليها الأخير ما هي إلا جُماع الفكر والجهد الإنساني على مدى عمر الإنسان على الأرض . والانتماء إلى هذه الحضارة ، والتمسك بكل منجزاتها ضمن أطر الخصوصية الذاتية حق مباح لكل الأمم ، ومحاولة البعض الاحتكار أو الادعاء أو الاستتباع الشمولي هي محاولة مرذولة حضاريا ، ومرفوضة سياسيا بكل الوعي المنجز للاستقلال العقلي والنفسي اللذين هما بعض معطيات الحضارة التي يتنافس على الالتصاق بها المتنافسون.

إن الفصام الحاد الذي فضحته ثورات الربيع العربي في كل الأقطار ، وفي سورية منها بشكل خاص ، بين المنظومة القيمية لما يتذرع به الساسة الغربيون عادة من دفاع عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وبين واقع المواقف السياسية المنحازة عمليا إلى قوى الشر ، والمتواطئة معها ، أو بأحسن الأحوال الصامتة على جرائمها ؛ لم تكن أخطر انعكاساته في سياق الصراع على الأرض ، وما تسببت به هذه المواقف من قتل للإنسان وتدمير للعمران ، على خطورة ذلك ، بل كان في تحطيم الأنموذج الحضاري المعاصر وعزله عن أن يكون مصدر إلهام لبناء مجتمعات ودول عصرية على قواعد قيمية تحرص في جملتها على خير الإنسانية والإنسان.

سقط الأنموذج الغربي المعاصر بسقوط مصداقيته ، وانكشاف ذرائعيته ، وإضعاف موقف الدعاة إليه والمؤمنين به منهم بشكل خاص . ولم يبق أمام الشعوب الثائرة غير تجارب تاريخية ، وهي وإن كانت جميلة وألقة في عصور ازدهارها ، لا تصلح أن تكون ( أنموذجا ) بقدر صلاحيتها لأن تكون مصدر وحي وإلهام وتعزيز الثقة بالذات.

لم أصبح من الصعب على المثقف العربي الصادق مع نفسه ومع شعبه أن يعيد التبشير بعناوين ( قيم ) اكتشفت الجماهير العربية ، والجمهور السوري منها بشكل خاص سقوط هذه القيم في نفوس أصحابها ، وعلى أجنداتهم وفي سياساتهم . الخسارة اليوم لا تصيب شعوب الربيع العربي وحدها ، ولاتصيب الشعب السوري وحده ، الخسارة اليوم ليست في أعداد البشر وأوابد العمران فقط ، الخسارة اليوم في إنسانية الإنسان ، وفي ثقافته ، وفي المشروع الحضاري الكوني الموحد ، بل الذي يجب أن يكون موحدا ...

من السهل على المثقف أن يفصل بين النظرية والتطبيق ، وأن يتفهم أن فساد أهل السياسة لا يمس نضارة المبادئ فيتمسك مثلا بأن ميثاق حقوق الإنسان ميثاق جميل يحمي جوهر الإنسانية وحقيقتها ، ولكنه من الصعب على مواطن سوري عادي مارست عصابات بشار الأسد كل أنواع التعذيب والامتهان وهو مايزال يرى ممثلي هذا المجرم في النادي الدولي حيث يجب أن تتمثل وتحمى حقوق الإنسان.

قد لا يدرك الغربيون اليوم حجم الارتداد السلبي لإسقاط أنموذجهم كمصدر إلهام حضاري ، على مستوى التطور الحضاري لنشاط المجتمعات وبناء الدول ، وقد لا يتصورون ما هي النماذج البديلة التي ستملأ الفراغ الذي سيتسبب به لسقوط هذا الأنموذج . وبالتالي فهم لا يتصورون وهم يستخفون بتطلعات الشعوب ويهدرون القيم التي طالما بشروا بها أنهم يرتكبون خطأ حضاريا تاريخيا ، وليس مجرد خطأ سياسي عابر يجبره تغير إدارة أو ذهاب رئيس .

مدير مركز الشرق العربي

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 633