العقل السياسي الايراني المعاصر (12)

د. عبد الستار الراوي

منطق الحركة وسبل العمل

يبدو أن فكرة وحدة قوى الثورة أو العمل الجبهوي لم تخطر على بال الإمام الخميني الذي أعد مشروعًا خاصًّا بطموحاته متمسكًا بأيديولوجيته العقائدية، وبمنهجه السياسي ذي البعد الواحد، فسعى إلى فرض نموذجه اللاهوتي على الواقع الإيراني سواء في فلسفة الحكم أو في بنية  نظام الدولة . وهو يعتقد بأن تطلعاته السياسية لها رصيد متراكم لاينفد بين الأوساط الحوزوية، وكبار تجار البازار وبدرجة أعلى الالتفاف الشعبي حول شعاراته الثورية، والانبهار المتعاظم بشخصيته الكارزمية وقوة حضورها في وجدان الجماهير، وفي قدرة مريديه وأنصاره أيضا على تحريك الشارع وتعبئة الرأي العام للمضي معه وتحت قيادته إلى آخر الطريق. وبسبب مراكز القوى والمزايا التي يتمتع بها الفقيه في البلاد فإنه لم يعر اهتمامًا كبيرًا للقوى الوطنية من الأحزاب العلمانية الليبرالية واليسارية والقومية، التي لم يكن بمقدور أي منها إعلان معارضتها لمشروع الدولة الدينية أمام المد الذي أحدثه الإمام القائد ؛ وقد مكن هذا الوضع من ترتيب أولويات الخط اللاهوتي، بتنظيم برامجه الآنية واللاحقة كانت أولوياتها  الانقضاض على قوى المعارضة من دون رحمة، وتصفية قياداتها الرأسية والوسطى، لتنزل مقاصل محكمة الثورة الموت بآلاف الضحايا، ولتستمر الماكنة الدموية في الدوران لتطيح برؤوس الشعراء والكتاب والثوار، ومن مجازر سجن (إيفين) إلى سلسلة مذابح عرب الأحواز وبأمر من الإمام المرشد نفسه  كانت لجان الثورة الإسلامية تواصل مهماتها في محق المعارضة بنشر فرق الموت وكتائب الإعدام من جنوب البلاد في عربستان إلى تبريز ومنها إلى كردستان إيران، ومن عام 1979 إلى عام 2011  كان إقتناص رؤوس المعارضة في كل اتجاه وعلى كل المستويات.

من هنا كان الإمام المرشد بحكم موقعه الديني كمرجع أعلى، قد أعد سلفًا القنوات التنظيمية وهيأ لها وسائل عملها ورسم أهدافها ومراميها، واعتبر أنصار ولايته رصيدًا سياسيًّا وفيرًا، داخل وخارج إيران. وفي ضوء ذلك تتوالى  وصايا المرشد وتتواصل  نداءاته  الحركية في تحديد الوسائل العملية، وتوصيف أساليب التبليغ الواحدة تلو الأخرى ويعين بموجبها  نقطة الشروع وعلى النحو التالي:

1 ــ الاجتماع من أجل نشر المبادئ: إن الإجابة بالطبع قد أعطيت في العنوان، فالخميني يشدد على ضرورة انتهاز فرص تجمع المسلمين واحتشادهم في أيام الجمع بالمساجد وفي موسم (الحج)، ليس بقصد التوجيه والتوعية، أو الإرشاد إلى الصلاح  ونشر قيم  المحبة بين الناس، وإنما لغرض  “أن نجني في هذه المواسم  أطيب الثمار بالدعوة إلى نشر مبادئ الثورة    بين الناس كافة  وفق فقه الولاية “، إزاء ذلك يوصي المرشد أنصاره وحملة فكره بضرورة اعتبار هذه الاجتماعات “فرص ذهبية لخدمة المبدأ والعقيدة،  فعلينا أن نفيد من موسم الحج [1] وقد عمد أنصار الولاية إلى قلب  شعائر الحج على رأسها ، بتحويلها إلى نسخة سياسية، كان من مظاهرها إثارة وترويج الدعاية لولاية الفقيه عبر  شعارات الصخب والعنف، وتواصل  تكرار المشهد الدموي مرة أخرى وأخرى.

أما بخصوص صلاة الجمعة المركزية في جامعة طهران،  بإمامة السيد علي خامنئي ومن ينيبه من مسؤولي الصف الاول،  فإن الخطبة الثانية  تعد هي الأصل، ويكون للشأن السياسي الاسبقية الاولى، لذلك يوصي الإمام الخميني بأن الجمعة العبادية، هي جمعة الثورة، التي يجب أن يصل صوتها إلى المستضعفين في جهات العالم كافة، وعلى منبر الجمعة أن يؤكد على أهداف الجمهورية الإسلامية ويبين مقاصدها الكبرى ورسالتها الثورية، وأن لاننسى  بأن إيران هي أرض الوعد الإسلامي، وهي أول دولة في العالم تقيم ميزان العدل على أرضها بعد حكومة النبي (صلى الله عليه وسلم) ـ

 وكثيرا ما يستغل منبر الجمعة للإثارة السياسية، ولتوجيه النداءات الحركية، وقد كرس الخطباء الإيرانيون الجمع العشر الأخيرة من عام 2011  للتدخل في شؤون الوطن العربي، مستغلين ظروف الحراك السياسي، وكان الخليج العربي عنوانًا رئيسيًّا في التدخل السافر، تهديدًا ووعيدًا، ويجري ذلك من بداية الكلام إلى خاتمة الخطاب، فالجمعة العبادية على النحو الذي تظهره الخطبة المركزية في طهران أقرب ما تكون في بعض الأحيان إلى الصلاة المسلحة، بما تحمله من عبارات التحامل وكلمات التهديد.

2ــ عاشوراء جديد: تنتقل من (الإستذكار) إلى (الإستنفار) فيعيد الفقيه الإيراني إنتاج واقعة كربلاء بصياغة إسقاطية وتأويلية تسجيب لمرئياته ومراميه ، فالوقائع تتنقل من الطف إلى طهران ، ويحل (صدام حسين) بدلا من (يزيد) ، وتنقلب الاحداث التاريخية إلى نسيج الاحاجي والاساطير على نحو يجعل من الحج منبرا ايديولوجيا دعائيا لترويج فقه الولاية ، فيتجاوز الفقيه الإيراني ، رمزية الواقعة الكربلائية  وما تنطوي عليه من دلالات إنسانية ومثل  أخلاقية ، في الفداء والتضحية والإيثار[2] ليتأول واقعة ألطف على وفق مقاصده، فيسقط عليها ما شاء له مزاجه الذاتي، من الرؤى التي درج عليها أصحاب التأويلات المفرطة تطرفًا وغلوًّا، فالتاريخ عند الإمام الخميني كما الخط المستقيم متصل تنتظم عصوره وحلقاته بقضية واحدة لا غيرها، هي (المظلومية) وهي واحدة من المقولات التي ابتدعها الغلاة، وأشاعتها أحزاب ولاية الفقيه في الوطن العربي، وهي رصيد خائب لا صلة له لا بالتاريخ ولا بالإمام الحسين، وانما ذريعة  لسياسيي الصدفة الامريكية  لترويج  النزعة الانقسامية، وتنفيذ البرامج التجزيئية والمحاصصات المذهبية والعرقية التي يحيا بها ويعيش عليها (حكام العراق الجديد) الذين قدموا إلى العراق برفقة قوات المارينز، المتحالفون مع الاحتلال، وعلى رأس هذا الحزب الإيراني فرع العراق (أحمد الجلبي، موفق ، المالكي، مجلس الحكيم، الجعفري..) هؤلاء ومن على شاكلتهم نموذج الحزب الإيراني الذي يعلن ولاءه لولي نعمته السيد خامنئي ويعد إيران وطنه الحقيقي، كما يصرح بذلك ويفخر حزب الله الإيراني في لبنان. وهو إعلان موثق في خطب وأدبيات الحزب نفسه ومبثوث صورة وصوتا على مواقع الإنترنت.

 يقول السيد الخميني: (المصائب جرت على دين الإسلام من أول يوم إلى يومنا هذا.. لتكن عاشوراء جديدا تحيون ذكراه باستمرار) [3]

الشيء المثير للاستغراب في كلام السيد المرشد وهو أستاذ للفلسفة- أنه يكتفي بالسطح الخارجي للمشهد، منتقيا وجها واحدا للمسألة، ويهمل الوجوه الأخرى، ليعبر في النهاية عن رؤيته العدمية للتاريخ، متجاهلا عواقب تفسيره والمغالطات التي تترتب على (وثوقيته القاطعة) وهو بلا شك يدرك بأن التاريخ الإسلامي الذي يمتد ألفا وأربعمائة سنة لم يكن حلقة مغلقة على حادثة بعينها، كما يستحيل أن نفسر التاريخ بكل عصوره المظلمة والمشرقة وفق أهوائنا، ونحن نعلم أن لكل حادثة عللها طبقا لعنصري الزمان والمكان. هنا نضع أيدينا على مفارقة هائلة المديات بين الذكرى الإسلامية الممتلئة بالسجايا النبيلة، المتجهة نحو تحقيق المثل والاعتبارات الإصلاحية، وبين إحيائية الخميني الهشة، والسلبية، التي تدعو المسلمين أن يتمثلوا الذكرى في دائرة العذاب المقيم، الذي يجعل المسلم بمقتضى تفسير الفقيه في شغل شاغل وهو البحث عن معادل سيكولوجي (تطهيري)، وهو الانتقام من التاريخ.

ويرى كاتب السطور أن تمثل دور الحسين لن يتحقق بجلد الذات، ولا بالثأر من التاريخ ولا بثقافة اللعن، بشتم الأمة العربية الإسلامية وفق الدعاء الذي يردده الإيرانيون والقائل (لعن الله أمة قتلتك !!) ولا أظن أن عربيًّا أو مسلمًا يعرف دينه ويقدر مقام أمته، يطاوعه لسانه على شتم أمة القرآن والحسين سيد شبابها حيًّا وشهيدًّا، وجده النبي (صلى الله عليه وسلم)[4]

3 ـــ المقاومة على المدى الطويل: من الدعوة إلى استثمار الطقوس الدينية الجماعية وتوظيف مناسباتها لصالح الفكر الأيديولوجي إلى دعوة “للمقاومة” وتصعيد معدلات النشاط المناهض  لأنظمة الحكم  في عموم البلدان الإسلامية، يواصل الخميني بناء جهاز حركته صوب إقامة دولته المنتظرة، جاعلا (المقاومة) ومعاداة السلطات، عملية متدرجة وطويلة المدى إذ “لا نتوقع أن تؤتي تعليماتنا وجهودنا أكلها في زمن قصير؛ لأن ترسيخ دعائم الحكومة الإسلامية يحتاج إلى وقت طويل وجهود مضنية”. [5] وهذه الدولة لا تكون إقامتها في يوم وليلة، ولا تتحقق بمجرد الحوار الهادئ وإنفاق الأموال، وإنما يمكن إقامتها فقط عن طريق توفير المناخ النفسي أولا بين المستضعفين وتقوية وعيهم السياسي، بحيث يتحررون فكريًّا ويستطيعون الاندماج في الحركة.. ثم تأتي المقاومة كوسيلة لإقامة الدولة.. الغاية الأولى والنهائية التي يبحث عنها الخميني. والتي توضحت أبعادها العملية عقب قيام (الجمهورية). حيث كرس “الآيات” جهودهم لتفسير المنطلقات النظرية لولاية الفقيه، عبر سلسلة من المفاهيم والمصطلحات، كان في مقدمتها إنقاذ معذبي الأرض، وتصدير الثورة.. الخ.

4 ـــ إصلاح الهيئات الدينية: في ظل الشروط التي يهيئ مقدماتها كاتب الولاية، فإنه يتابع برنامجه الفكري بحماس منقطع النظير عبر مراجعاته النقدية للمؤسسة الدينية وأساليب عملها، ففي رأيه أن قيادة التغيير، والأخذ بيد الأمة إلى الصلاح ومعرفة الإسلام على وجهه الصحيح، يستلزم صلاح أهل العلم وحملة الشريعة. ويفسر الترابط بين الطرفين بقوله “ضرورة تكامل نشاطهم التعليمي والاعتماد على النفس والثقة بها، واجتناب الكسل والوهن والضعف ومحاولة محو آثار ما ينشر في الناس من أباطيل، وتهذيب الأفكار المتحجرة، وطرد فقهاء القصور الذين باعوا دينهم بدنيا غيرهم.. وإبعادهم عن زينا وتعريتهم وفضح أعمالهم”. [6] ولو لم تكن الثورة الإيرانية، ولو لم تنبثق دولة الفقيه فيها ويتولى الفقهاء الحكم، لبقيت شعارات ثورة الخميني في الحرية والوحدة الإسلامية والعدالة، موضع تقدير كبير من المسلمين.. لولا أنها انقلبت على عقبيها، بعد أن اكتشف العالم أن الوسائل (النضالية) تعني فرض النموذج السياسي الإيراني على البلدان الآمنة.

5 ــ إزالة آثار العدوان الاستعماري: إزاء الرفض المطلق للأفكار والنظرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في العالم، فإن ولاية الفقيه هي الأيديولوجية المتفردة القادرة على إسعاد الأمم وازدهار الأوطان، وإن ما عداها من الأيديولوجيات والنظريات يعد باطلا وشرا مستطيرا، من هنا توصد الحاكمية الإيرانية كافة أبواب التعايش مع العالم، وترفض اللقاء بين ثقافتها والثقافات العالمية، وعند هذا الموقف الذي يدعو فيه السيد المرشد إلى مقاطعة الشرق والغرب، تمتنع الجمهورية الإسلامية عن التواصل الحضاري مع الأمم الأخرى، انطلاقًا من التصنيف العقائدي المسبق القائم على مبدأ قرب أو بعد هذه الدولة أو تلك من الشيطان الأكبر. وقد ذهب الإمام الخميني إلى أبعد من ذلك عندما طالب بـ”اجتثاث جذور الأفكار السقيمة الوافدة من الخارج”.[7]ورغم أهمية التأكيد على الهوية الإسلامية ورفض ذوبانها في وعاء بديل، ومع أهمية نقد (الاستغراب)، إلا أن نفي وإقصاء كل ما هو غربي، مثل النظم البرلمانية والمجالس النيابية والاتجاهات الديمقراطية والحركات الليبرالية والثورة، [8] يجعل الرؤية الإيرانية تنتقل من الفعل إلى رد الفعل، من محاربة الاستعمار إلى معاداة كل ما هو غربي. في حين أن العقلانية والعلمية والعلمانية والديمقراطية والإنسانية والتقدمية كلها اتجاهات إسلامية إذا ما أعيد بناؤها وتوسيعها خارج النطاق المحلي الأوروبي، وإرجاعها إلى مصادرها الإسلامية الأصلية التي أخذ منها الغرب في العصر الوسيط.[9]

المراجع

  [1] ـ السيد الخميني. ولاية الفقيه.  ص125.

 [2] ــ عبدالستار الراوي   العقل والحرية. مصدر سابق ص33 وما يليها.

 [3] ـولاية الفقيه. ص127.

 [4] ـ انظر وقارن علي شريعتي. الشهادة. بيروت 1977. ص82-86.

 [5] ـ  ولاية الفقيه. ص128.

 [6] ـالمصدر نفسه. ص132.

 [7] ـالمصدر نفسه. ص133.

 [8] ــ  المصدر نفسه. ص52- 53.

 [9] ـ راجع محمد عمارة. الفكر القائد. ص6-9.

د. عبد الستار الراوي                                

مركز أمية للبحوث و الدراسات الاستراتيجية

وسوم: العدد 633