قراءة في المشهد السوري في ضوء مبادرات الحلّ الأخيرة

ما يزال مؤشر الثقة آخذًا في الانحدار لدى شريحة عريضة من السوريين؛ على الرغم من تزاحم مبادرات الحلّ لقضيتهم، فما إن انتهوا من الاطلاع على بنود المبادرة الإيرانية، حتى كانت أختها الروسية تزاحمها على وسائل الإعلام، وصولاً إلى مبادرة ديمستورا الأممية.، وقد رافق ذلك كلّه جملة من التحركات على الصُعُد المحلية، و الإقليمية، و الدولية.

 فعلى الصعيد المحلي: انكشفت الأمور على فشل واضح لجولتي المفاوضات بين إيران و حركة أحرار الشام برعاية تركية في أحد فنادق اسطنبول بحضور ثلاثة من الأحرار، و الوسيط التركي من جانب، و ثلاثة من الإيرانيين، و رابع من حزب الله كان بمثابة المستمع، في ظل غياب مثير للدهشة لنظام الأسد؛ الأمر الذي فسر مدى تهميش الإيرانيين له، و بحثهم عن مصالحهم بشكل مباشر في سورية، بغض النظر عمَّا لحق به من هزائم منكرة في الآونة الأخيرة؛ إذ لا يهمهم أن تذهب سورية النظام إلى حافة الهاوية بمقدار ما يبقى خط الإمداد موصولاً إلى صنيعتهم في لبنان، ابتداءً من دمشق و غوطتها الغربية، مرورًا بحمص، و وصولاً إلى الساحل، أو يبقي على الأقلية الشيعية موجودة في سورية، إذْ ما تزال ثقة الإيرانيين بتشيُّع العلويين مفقودة، فهم أناس لا يعنيهم أمر التدين كثيرًا، و علاقاتهم مع إيران لا تتعدّى العلاقة المصلحية على الرغم من كل ما قدمته لهم.

و كذلك كان لعودة عصابات المافيا إلى الساحل على يد صبيان بيت الأسد حضور مميز من خلال إقدام سليمان هلال الأسد على قتل العقيد حسان الشيخ في اللاذقية في وضح النهار؛ الأمر الذي أعاد إلى الأذهان حقبة رفعت الأسد، و رجالاته أيام الثمانينات، و يفسر مدى انفلات الأمر من يد بشار، و قد فاقم القضيةَ المسرحيةُ الهزلية التي خرج بموجبها بريئًا، و ألقي اللوم على العقيد الذي استفزه.

هذا فضلاً على ميل الأمر نسبيًا إلى صالح الثوار في جبهة الغاب، و شمال حماة، و حالة المراوحة بينهم و بين داعش في شمال و شرق حلب، ثمّ  ما كان من تعزيز مواقعهم و الحصول على مزيد من المكاسب في جبهة الفوعة، و كفريا المواليتين لإيران مذهبيًا، و الصمود الأسطوري لثوار أحرار الشام في الزبداني، و حالة اليقظة التي يتمتع بها كل من رجالات جيش الإسلام، و الجبهة الجنوبية لطعنات الخنجر الداعشي في أحياء العسالي، و القدم في دمشق، و منطقة اللجاة في درعا، ثمّ ما كان من تداعيات في جبل العرب عقب اغتيال الشيخين: وحيد البلعوس، و فادي نعيم، حيث قام أنصارهما بمهاجمة الأفرع الأمنية، و قتلوا عددًا من عناصر النظام، و إعلان محافظ السويداء ـ قبل إقالته ـ المحافظة خارجة عن السيطرة، و بالطبع تأتي قضية تزايد أمواج اللاجئين إلى أوروبا ضمن هذه الأحداث المهمة، و آخر هذه المحليات سيطرة جيش الإسلام على قسم النساء في سجن عدرا، و منطقة جامع تل كردي، و معمل الحديد، و بسط النصرة سيطرتها الكاملة على مطار أبي الضهور في شرق إدلب.   

و على الصعيد الإقليمي: دخلت تركيا على خط الأزمة بشكل مباشر؛ إذْ أعطت إذنًا بالسماح لطائرات الحلفاء بالإقلاع من قاعدة إنجرليك لقصف داعش، و من ثمَّ قيام الطائرات التركية بنفسها بقصف مواقع متقدمة لها في جبهة مارع بعد أن أحرزت بعض التقدم على حساب الجبهة الشامية، و جبهة ثوار الشام، فأسرت ( 15 ) منهم، و أخذت عددًا من النقاط منهم، و أصبح القتال على أشده في أحياء من مارع، و علو نبرة الحديث التركي عن إقامة المنطقة الآمنة شمال حلب، ثم خفوتها، ثم قيامها يوم ( 8/ 9 ) بقصف مخازن ذخيرة عائدة لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في الحسكة.

و اكتشاف الكويت الخلية الإرهابية المتورط فيها اثنان من دبلوماسيي السفارة الإيرانية، و كذلك المزيد من النجاحات لحملة عاصفة الحزم التي تقودها المملكة العربية السعودية في اليمن، نتج عنها تحرير معظم المحافظات الجنوبية، و تجميع الحشود في محافظة مأرب استعداد لمعركة صنعاء، ثمّ كانت زيارة الملك سلمان بن عبد العزيز إلى واشنطن للتباحث حول جملة من القضايا التي تخص المنطقة، و في مقدمتها الملفان اليمني، و السوري.

و على الصعيد الدولي: زيادة التواجد الروسي في سورية، و انخراط كل من فرنسا، و بريطانيا عسكريًا في محاربة داعش على الأراضي السورية تحديدًا، و تجاوز أوباما عقبة الكونغرس في التصديق على الملف النووي الإيراني، و إعلان بلغاريا منعها الطيران الحربي الروسي من التحليق في أجوائها باتجاه سورية، في الوقت الذي سمحت فيه كلٌّ من إيران و اليونان بذلك.

إن التزاحم الحاصل في طرح هذه المبادرات بالتزامن مع هذه الأحداث ليشير إلى جملة من الأمور السياسية، التي نرى أنها تمثل دوافع لأصحابها في تحركاتهم، نابعة من مزيد من الضغط على بقية الأطراف الممسكة بالملف السوري، فالتحرك الروسي لا يعدو أن يكون تحركًا باتجاه الحيز الذي تشغله إيران، فبوتين يشعر أن إيران بعد الاتفاق النووي باتت تتجه بأنظارها نحو الغرب أكثر من موسكو، فهي قد باعت الغرب هذا الملف مقابل إرخاء قبضة العقوبات الاقتصادية عليها، و هي جادةٌ في ألاَّ تقوم بأي أمر يفسد عليها ذلك، فحتى الملف السوري لم يعد متروكًا لها على الغارب؛ إذْ سيكون حاضرًا في أية نقاشات تجرى معها مستقبلاً، و ما تزايد نفوذها على الأرض السورية إلاَّ من باب تحصين ما حققته من المكاسب من قبل بواسطة ذراعها اللبناني، بعد أن شعرت أن الأسد غير قادر على حماية الدائرة التي يتحرك فيها، فيكيف ستعطيه المزيد من الدوائر، و لذلك حرصت على إدارة ملف المفاوضات مع أحرار الشام بنفسها، مستبعدة له بالكلية، في الوقت الذي أعطت فيه كرسيًا لحزب الله ليجلس بجانبها في تلك المفاوضات، فما كان من الأسد إلاَّ أن أفسد عليها سعيها هذا برفضه مطلب الأحرار بإطلاق أربعين ألف معتقل من سجونه.

 و قد جعلها عجزها عن نصرة حلفائها في اليمن، في ظلّ انكماش نفوذهم، في وضع لا يسمح لها بوضع أوراق الضغط كلّها على طاولة التفاوض حول الملفات الإقليمية مع أمريكا، أو المملكة العربية السعودية، قاطرة المواقف العربية حاليًا.

إن ما رشح من مباحثات الملك سلمان مع أوباما كان فيه للملفين اليمني و السوري حيزٌ لا بأس به، و قد جاء متزامنًا مع الاستعداد لمعركة صنعاء، و تحقيق المزيد من الانجازات الميدانية للفصائل التي كان للتحالف الثلاثي ( السعودي، القطري ، التركي ) دالة عليها منذ انطلاقة جيش الفتح باتجاه تحرير مدينة إدلب، و ما تلاه من النجاحات التي غيرت ملامح المشهد المحليِّ كثيرًا.

إن أوباما كما نرى ليس راغبًا في أن يعطي لإيران أكثر مما وُعِدَتْ به اقتصاديًا، فهو ليس بوارد أن يفرط بالمصالح الاستراتيجية لحلفاء أمريكا التقليديين في دول الخليج، ولاسيما بعد أن غيرت السعودية مقعدها .

و حتى فرنسا، و بريطانيا اللتان عادتا إلى سورية بهدير طائراتهما، بعد تبريرات خجولة عن تخليها عن القيام بأي دور لا ترضى عنه أمريكا، بحجة أن الجمعية الوطنية في فرنسا، أو مجلس العموم في بريطانيا لم يمنحا هولاند، و كاميرون الإذن بأية عمليات عسكرية هناك.

لقد عادتا بعد أن أدركتا أن مصالحهما بحاجة إلى تحصين، ولاسيما في ظل سعي الأطراف المؤثرة في الملف السوري، إلى تهميش أي دور غير ذي أثر ملموس هناك.

و هو الأمر الذي حمل تركيا على تليين موقفها مع أمريكا بخصوص قاعدة إنجرليك، لا بل إنها باشرت بنفسها قصف مواقع داعش، الأمر الذي سوغ لها قصف مواقع حزب العمال، و الاتحاد الديمقراطي بالذريعة  ذاتها.

و بالطبع فإن المواقف التركية ليست بذات الصلابة التي كانت من قبل؛ فحديث المنطقة الآمنة إمَّا أن يُؤجل مؤقتًا، أو أن تُرحَّل منطقته إلى الغرب بعيدًا عن مناطق الأكراد الحليف الأقلويّ، المعتمد لدى أمريكا بعد إعادة ترتيبها أوراق المنطقة، فأوراق الأقلية العلوية قد ذبلت بعد إعادة التموضع للدول صاحبة النفوذ .

إن كثيرًا ممَّا هو معوَّلٌ عليه في المواقف التركية مؤجَّل إلى ما بعد شهر تشرين الثاني، على أمل أن يعود حزب العدالة إلى رئاسة الحكومة بالنسبة التي يتمناها، و تتوقعها له مراكز استطلاع الرأي.

نحن لا نملي على تركيا ما هو جديرٌ بها أن تفعله في سورية؛ فلغة حماية المصالح تنتظر منها أن تقوم بمزيد من الخطوات الإجرائية، غير آبهة بدعوات التروي، فما عاد الوقت في صالحها؛ فأمريكا لا تسمح سوى لأصحاب الإرادات القوية أن تجلس معها على الطاولة، و هي قد أعطت لها، و للآخرين من خصوم الأسد نِسَبًا لا ترغب في تغييرها، إلاَّ بعد أن تشعر أنهم قد غيّروا أماكن جلوسهم، و بادروا بخطوات عملية مؤثرة، عقب تصريحات لينة أضاعت عليهم كثيرًا من الفرص. 

وسوم: العدد 633