في ذكرى وعد بلفور
ظن العرب أن الفرصة كانت مواتية، عندما حاربوا إلى جانب الحلفاء في الحرب العالمية الأولى لتحقيق أمانيهم في السيادة والوحدة والاستقلال، إلى أن خيبت بريطانيا ظنهم، فلم يُكتب لأحلامهم التحقق، وكان لآثار الحرب أصداؤها الوخيمة عند أحرار العرب الذين تعلقوا بأوهام جسام حين علقوا أملهم في الحرية والجلاء على وعود انجلترا البراقة، فكان هذا التسليم أكبر صدمة أصابت الحركة القومية العربية، وأضحى العرب أكثر الناس خيبة، إذ قاموا بخدمات جليلة بالمجان، ولم يكن جزاء إحسانهم سوى سوء الجزاء، وانعكست تلك الأحداث بكل متناقضاتها على الشعوب العربية التي كانت تتطلع إلى الحرية والاستقلال.
وهكذا، بينما كان العرب يحاربون إلى جانب الحلفاء، ويقومون بدور فعال في تصفية الحكم العثماني بالوطن العربي، حتى كشر ساسة دول أوربا عن أنيابهم، وخصوصاً بريطانيا وفرنسا، وأخذتا تتأهبان لتقطيع أوصال الدولة العثمانية وفقاً لأطماعهما الاستعمارية لحرمان العرب من الاستقلال الذي تطلعوا إليه عبر هذا التحالف، وقد عبرت اتفاقية سايكس - بيكو، ومن بعدها وعد بلفور، عن عملية الخداع الكبرى التي مارستها هاتان الدولتان الاستعماريتان؛ ضاربة عرض الحائط بالالتزامات والوعود التي قطعتها للشريف حسين بن علي حول استقلال الولايات العربية الخاضعة للحكم التركي، وبموازاة ذلك، كانت بريطانيا تتقدم في تجسيد فكرتها القديمة الرامية إلى إنشاء كيان يهودي في فلسطين تحت حمايتها، وجاء وعد بلفور بمثابة البراءة الدولية التي شكلت حجر الزاوية للمشروع الصهيوني في فلسطين، فزلزل كل أمل للعرب والفلسطينيين في الاستقلال.
وتجسد ذلك الوعد واقعاً مريراً، بعد أن أقر مجلسا الكونغرس الأمريكي مشروع صك الانتداب، وقامت عصبة الأمم بإصداره في 24 تموز/ يوليو 1922م متضمناً وعد بلفور، كشكل جديد من الاستعمار، وأقر انتداب بريطانيا على فلسطين، فقد أصاب البلاد العربية نتيجة اتفاق الدول الاستعمارية، لطمة قاسية، إذ قُسّمت بين الدول وفق مطامعها، واخترع ساسة الاستعمار كلمات مفيدة لتغطية الجريمة التي أقدموا عليها، ككلمات الانتداب والوصاية، وبهذا تكون العصبة ودولها الأعضاء مشاركين بما تضمنه وعد بلفور من تزوير تاريخي، وإنكار لامتلاك شعب فلسطين كل مقومات الشعب، وإهدار حقوقه، خاصة حقه في تقرير مصيره. وهكذا، تم ترسيم حدود فلسطين وإقرارها في الوثائق الدولية على أساس المصالح الاستعمارية والصهيونية من دون الالتفات إلى رغبات السكان المحليين، وكان تعيين الزعيم الصهيوني هربرت صموئيل مندوباً سامياً على فلسطين بمثابة رسالة صريحة من حكومة لندن إلى الأطراف المعنية جميعها، تؤكد التزامها بوعد بلفور، وإصرارها على تنفيذه.
وقد تضافرت جهود صموئيل وإدارته مع نشاط المؤسسات والهيئات الصهيونية في فلسطين وخارجها، لدفع الأمور نحو المزيد من التوتر وانفجار العنف. وفي نهاية المطاف قررت بريطانيا إنهاء انتدابها لفلسطين، لتغرقها بعد ذلك في الصراع مباشرة مع الحركة الصهيونية القادمة إلى فلسطين بأطماعها ومخططاتها، وللاستيلاء على هذه البلاد وتحويلها إلى دولة يهودية، ولأسباب ذاتية منها: عدم وضوح الرؤية السياسية سواء من ناحية تحديد العدو الرئيسي، أو نتيجة قراءة معينة لموازين القوى، فقد سلمت الحركة الوطنية الفلسطينية بالانتداب، لكنها اعترضت على سياسة حكومته، إذ خفضت من حدة مطالبها بالاستقلال، فقد ركزت جهودها على التصدي للمشروع الصهيوني، ونجحت في حالات معينة مستفيدة من التعارضات التكتيكية بين سياستي حكومة الانتداب والحركة الصهيونية.
ويلاحظ، أن الاستجابة العربية لم تجاوز كونها ردات فعل تجاه التحدي الاستعماري الصهيوني، ولم تكن أفعالاً صادرة عن رؤية إستراتيجية للصراع؛ وقد كان ذلك نتاجاً للواقع الاجتماعي والاقتصادي والثقافي للنخبة القائدة، والمشاركة في ذلك الحراك، والتي كانت تراهن على إمكانية التعاون مع انجلترا، والمشاركة في الحكم، ولتحقيق ذلك اعتمدت بريطانيا سياسة الملاينة والمفاوضات؛ لكن الملاحظ، بل والمؤكد، أن خارطة تقسيم الوطن العربي وتقطيع أوصاله كمناطق نفوذ للاستعمار، وزرع إسرائيل كجسم غريب في قلب الوطن العربي، كان هو الغالب، وهو ما أصبح واقعاً عملياً على الأرض يعاني الشعب الفلسطيني والعربي من تداعياته.
وأثبتت الأيام، أن العدو الحقيقي هو الاستعمار الذي عمد إلى استغلال الوقيعة بين العرب والأتراك، ووقع العرب في حبائل بريطانيا ووعودها البراقة وأمانيها الخادعة، واتضح جلياً أن دول أوربا الاستعمارية كانت تنظر إلى الفريقين، العثماني والعربي، وفق مخطط واحد، وأبرمت الاتفاقات فيما بينهما لالتهام ممتلكاتهما وخيراتهما.
لقد كانت الضربة التي وجهها الإنجليز للعرب وحركتهم القومية هي تجزئة مصائر البلدان العربية، والشروع في تأسيس الوطن القومي اليهودي في فلسطين على أرضية إقرار وعد بلفور، ومن أشد الضربات وأوجعها أثراً في كيان العرب وأهدافهم، وكانت أكثرها وطأة على شعب فلسطين، إذ كتب على هذا الشعب أن يبقى صاحب قضية لا صاحب وطن.
وسوم: 640