بين اطلال الماضي .....
القولد: محمد عبد الباقي
دع عنها السمعة الطيبة، التي اكتسبتها مدينة (القولد) لدى تلاميذ الصف الرابع في العهد الذهبي للتعليم في السودان، عندما كانوا يشدون الرحال إليها ذهنياً من كل البقاع ليهبطوا ضيوفاً أعزاء لدى (صديق عبدالرحيم) في منزله الشهير، فموقعها المتميز على طريق شريان الشمال أعاد لها بعضا من ذلك المجد الآفل، ولهذا مجرد تأمل المسافر على طريق الشريان الرائع للافتتها الناهضة بشموخ، وهي ترحب بالعابرين (القولد ترحب بكم) تحرك كوامن الحنين نحو تلك الحقبة المنيرة من تاريخ الدولة السودانية التي كان تلاميذها الصغار في جميع المناطق يعقدون صداقات مترعة بحب الوطن مع رصفائهم في مناطق أخرى نائية وبعيدة. حيث كانت (القولد) واحدة من المنارات السامقة في أذهان أجيال عديدة، قبل أن يأفل نجمها كما تبين المشاهد الحية من أزقتها!!
# مدينة بين منزلتين
لم تكن مجرد مدينة رسخت في أذهان أجيال ما قبل (1989)م، عندما كانوا يتقاطرون عليها لزيارة صديقهم (صديق عبدالرحيم) في الكتاب الشهير بالصف الرابع بالمرحلة الابتدائية، بل كانت عالم فسيح ومترامي تشرئب إليه عقول وأذهان التلاميذ الصغار عندما يتحرك بهم القطار نحوها من مدن وأرياف السودان المختلفة. لم تنته ذكرى (القولد) في مخيلة أولئك الذين ساقتهم أقدارهم إلى مقاعد الصف الرابع بعد محو سيرتها من المقررات، التي أعقبت التغيرات غير المدروسة على المناهج التعليمية المخصصة للناشئة في مبتدئ علاقتها بالتعليم، بل ترسخت سيرتها أكثر فصار حلم الكثير من تلك الأجيال زيارتها ولو بطريقتهم الخاصة، كما يفعل اليوم الكثير من الذين يعبرون بجوارها، وهم في طريقهم إلى الولاية الشمالية أو عائدون منها، رغم تقلقل تاريخها في المخيلة الشعبية، لكن تبقى مدينة (القولد) في ظل راهنها الحاضر مسخ لا ينتمي إلى الماضي ولا يستشرف المستقبل، فحالها يثير الرثاء في نفوس الذين يقطعون المسافات الطويلة من أجل زيارتها، وعند بلوغها لا يجدون غير أشباح تقع بين القرية والمدينة على حدٍّ سواء، وإن كانت في حقيقتها أقرب إلى القرية من غيرها.
# مهزلة العلم الوطني
بسبب شهرتها التي طبقت الأفاق، صارت (القولد) أشهر المدن التي تقع على طريق شريان الشمال بحسب وصف أحد سكانها ويدعى (إبراهيم مبارك)، ولكنها رغم شهرتها التي لم تكن وليدة اللحظة أو التاريخ القريب، تبدو المدينة في هيئة رثة وملامح غير واضحة، ليس بها ما يثير الإعجاب، فحتى مباني مؤسساتها الرسمية وأسواقها لا تدل على عراقة أو أصالة المنطقة، ولا تشير حتى إلى تاريخها الضارب في القِدم، فمبنى رئاسة محليتها يتواضع داخل أحد المنازل بالقرب من السوق الكبير، لا شيء يشير إليه غير اللافتة والعلم الذي يعتقد أنه قضى أعوام على ساريته حتى تمزق دون أن يتم إنزاله الذي اشترط قانون العلم للعام (1993)م بأن يكون بتؤدة، وأن يتم إتلافه بعد فصل ألوانه إذا بهت لونه أو تمزق بسبب القدم وألزمت المادة (14/ب) من نفس القانون الجهات السيادية بعدم رفع العلم إذا كانت ألوانه باهتة، أو كان في حالة سيئة. لكن محلية (القولد) كانت حكاية لوحدها فهي التي ترفعه على سارية مبناها ولا تنزله، لا بتؤدة ولا بغيره، حتى تحول إلى خرق بالية مزقتها رياح الشمال العاتية. يحدث هذا دون أن يحرك الأمر المعتمد الذي أكد عدد من جيرانه أنه ومنذ خمسة أيام في الخرطوم، وغالباً من يوجد بالمدينة، فهو يستطيع إدارتها من مسكنه بالخرطوم، أما سوق المدينة الكبير يصفه (إبراهيم مبارك) بالدلالة، وهو يشير إلى المباني والترابيز التي تملأ أركانه بأن الدلالة يجب أن تكون أفضل حالاً منه، لأنها على الأقل يجب أن تتوفر فيها شروط محددة لتنشأ كدلالة، أما سوق (القولد) فهو بلا طعم ولا ملامح بالمرة.
# غيابك طال
منظر المدينة الملتحفة بأسمالها المهترئة دفعت سكانها للاحتجاج على تجاهلها المتعمد من معتمدها (أمير فتحي)، الذي لم يحرك ساكناً على تطويرها منذ قدومه على حد قولهم، وأشاروا لتضعضع الخدمات بها وقلتها وعدم وصولها إلى أطراف المدينة التي لا يتجاوز سكانها بضعة آلاف، بعد هجرة الكثير منهم للمدن التي تتوفر فيها الخدمات الضرورية.
بعد أن كانت تعج بالحركة التي لا تهدأ خلال ساعات الليل والنهار معاً، ألمح عدد من سكان المدينة إلى أن المواطنين ضاقوا ذرعاً بالخدمات، فاتجهوا للهجرة من المدينة نحو المدن والقرى المجاورة فاغفرت شوارعها وتهدمت منازل عديدة منها في بعض أحيائها وتوقع المواطنين خلوها من السكان بنهاية العام المقبل، لتتحول لأطلال يقف عليها الجميع في حسرة.
وسوم: 641