درس "داعشي" عارم يبعثر أوراق الغرب بخصوص ظاهرة الإرهاب
بعد أقل من سنة من تعرض صحيفة شارلي إبدو الساخرة لهجوم راح ضحيته 12 شخصا، تعرضت ليلة البارحة 13 نوفمبر 2015 مدينة باريس من جديد لهجمات إرهابية استهدفت مواقع حيوية متنوعة في قلب العاصمة الفرنسية، كالملعب الدولي وشارع الجمهورية وشارع فولتير ومسرح باتاكلان وغيرها، وقد أدى ذلك إلى مصرع 128 شخصا، وهي نتيجة جد ثقيلة مرشحة لأن ترتفع لكثرة الجرحى في حالة الخطر. وقد ترتب عن ذلك ذعر عظيم في الأوساط الشعبية والرسمية الفرنسية، تبعثرت معها أوراق السياسيين والأمنيين والإعلاميين. وما يؤكد ذلك هو "حالة الطواريء في مجمل أنحاء البلاد" التي أعلن عنها الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، وإلغاؤه لزيارة تركيا التي كان مقررا أن يحضر فيها عطلة نهاية هذا الأسبوع اجتماع مجموعة العشرين، وإغلاق مباني الجامعات في "إيل دو فرانس"، وإلغاء الأنشطة الرياضية في العاصمة باريس، وغير ذلك من الإجراءات.
إن أول شيء تبادر إلى ذهني وأنا أتابع هذا الحدث الجلل اللا متوقع هو أن ثمة خللا عميقا في تعاطي الجهات الفرنسية مع ملف الإرهاب والتطرف، وأن الأجهزة الأمنية والمخابراتية الفرنسية ليست على أحسن ما يرام، وأن ما حدث عرّى عن أن أداءها جد رديء وجد هش بالنظر إلى الإمكانات المادية واللوجيستيكية والتكنولوجية التي تتوفر عليها. وأكثر من ذلك، فإن هذا يحصل في عاصمة الأنوار التي تعج بالسياح ورجال الأعمال والطلبة، وتزدهر بها الأنشطة والتظاهرات والاحتفالات. كيف تمكن المنفذون من التخطيط لهذه الهجمات الغريبة في فضاء مغطى بشتى أصناف الكاميرات ومحاط بدوريات رجال الأمن المدججة؟ كيف غابت عن عيون الكاميرات والاستخبارات والجواسيس تحركات المنفذين وترتيباتهم التي استغرقت بلا شك شهورا وأياما؟ كيف اعترى الخلل المنظومة الأمنية والاستعلاماتية لواحدة من أكبر عواصم ومدن العالم التي يضاهي عدد سكانها 12 مليون نسمة، منها حوالي مليونين من أصول إسلامية وأجنبية؟ كيف غاب عن السلطات الأمنية والرسمية الفرنسية أنها مهددة على الدوام بانتقامات الإرهابيين ردا على مشاركتها الميدانية، منذ 19 سبتمبر 2014 في ضرب تنظيم الدولة جوا انطلاقا من مدينة الموصل العراقية؟ كيف لم تفكر فرنسا في تحصين داخلها ضد خطر الإرهاب وهي المتبجحة بأنموذجها الأمني في مواجهة المتطرفين المسلمين عبر حملاتها الشرسة، مستعملة آليات الطرد والاعتقال والملاحقة؟
هذه الأسئلة الإشكالية لا تتعلق بالحالة الفرنسية فحسب، بل يمكن أن تنطبق أيضا على مختلف دول العالم التي تعاني من ظواهر التطرف والتشدد، لا سيما تلك التي تزعم أن موجات الإرهاب وأعمال العنف يمكن تفاديها بتوفير المعدات الحربية وتنصيب كاميرات المراقبة وزرع الجواسيس. كل هذه الإجراءات والآليات لا تشكل إلا جانبا واحدا في مقاربة التطرف والإرهاب، بل وتعتبر متقادمة وبالية ومحسوبة على المقاربة التقليدية التي لا تؤمن إلا بالعصا الغليظة ومنطق الهراوة. ثم إن العنف لا يولد إلا مزيدا من العنف، وأن التعاطي مع قضايا التطرف من زاوية المواجهة الأمنية فقط، لا يُفضي إلى حلول مستديمة وناجعة، بقدر ما يسفر عن تكريس إيديولوجيا التطرف، وتمكين المتطرفين من تحصين معتقداتهم وأفكارهم وذواتهم بوسائل العنف والانتقام والقتل، وهكذا يُنفسّون عن مكبوتاتهم الدفينة ويُعبرون عما ترسب لسنوات وعقود طويلة في أعماقهم من مشاعر وأفكار بسبب القمع والخوف والجبن.
إن ثنائية التحصين والكبت أساسية في استيعاب جانب من الفكر التطرفي، لا سيما الداعشي، حيث يدعي المتطرفون أنهم يمارسون "الجهاد" قصد تحصين الإسلام والدفاع عن بيضته، غير أننا عندما نضع ذلك الجهاد الزائف تحت المختبر ونرصد دوافعه وملابساته وأهدافه، ندرك أن هؤلاء المتطرفين بعيدون جدا عن حقيقة الإسلام الذي يدعون خدمته وحمايته، وأن هموم الأمة الفعلية لا تحضر أبدا في رؤيتهم، وأن أغلب الأهداف التي يرمي إليها الدواعش تتركز فيما هو ذاتي من المصالح، كالسلطة والمال والنكاح والظهور ونحو ذلك. وهذا ما يعكس بجلاء سيكولوجية ذلك الداعشي الذي حُرم طوال حياته من التربية الدافئة والتعليم المتوازن والحضور الاجتماعي والتفاعل مع المحيط، وقد ترتب ذلك الحرمان عن جملة من الأسباب كالقمع والخوف والتهميش وغيرها، وبمجرد ما تأتت له الفرصة راح ذلك الداعشي يُفرج عن مكبوتاته في شكل أفعال انتقامية شاذة ومنحرفة، يروي بواسطتها ظمأه الروحي والاجتماعي الدفين.
إذا كانت أغلب الهجمات التي تعرضت لها فرنسا في الماضي ذات طابع فردي وعادة ما كانت موجهة إلى هدف محدد يتعلق بطائفة دينية معينة (المدرسة اليهودية) أو بمؤسسة إعلامية معادية لما هو إسلامي (صحيفة شارلي إبدو)، فإن الهجمات الأخيرة كانت أكثر تخطيطا، إذ استهدفت بالموازاة العديد من المصالح والمرافق الحيوية الموزعة على قلب العاصمة الفرنسية، ما يذكرنا بهجمات 11 سبتمبر 2001. وهذا إن دل على شيء، فإنه يدل على أن ظاهرة التطرف في فرنسا ولجت مرحلة جديدة أشد تنظيما وضراوة رغم التطور الهائل الذي تشهده تكنولوجيا التجسس والتنصت والاستخبارات، فهل يعني هذا أن أداء المتطرفين الجدد أكثر تقدما من أداء الأجهزة الأمنية والاستعلاماتية الفرنسية والغربية؟ وهل يعني هذا كذلك أن صناع ظاهرة الإرهاب الجدد عرفوا كيف يُسخّرون منجزات الحضارة الغربية المعاصرة لتحقيق أهدافهم على الميدان وعبر الإعلام؟ ثم لماذا فشلت فرنسا ومثيلاتها من الدول المتقدمة في محاصرة ظاهرة التطرف والإرهاب رغم الإمكانيات المادية والتكنولوجية والعسكرية الهائلة التي تتوفر عليها؟
إن استيعاب إشكاليات التطرف والإرهاب والعنف الديني تقتضي أولا التعمق والإحاطة علما بالأسباب الخفية والمعلنة التي تقف وراء ذلك، لأن ظاهرة التطرف السائدة لدى فئة من المسلمين لم تأت من فراغ، وإنما نشأت جراء أسباب واقعية موضوعية. إن الأخطاء التي ارتكبها الغرب وحلفاؤه العرب والمسلمون في العراق وبلاد الشام واليمن وليبيا هي المسؤولة عن الوضعية المتردية التي آلت إليها بلاد العرب، وعن ظهور الميليشيات والحركات "الجهادية" المتطرفة، وعن وقوع الهجمات الإرهابية في مختلف بقاع المعمورة، وعن أفواج اللاجئين النازحين بمئات الآلاف إلى القارة الأوروبية، وعن الشباب الأوروبي اليافع المهاجر إلى بلاد الشام والرافدين للقتال. فلو أن الغرب تعاطى مع احتجاجات الربيع العربي بحكمة وإنصاف وعقلانية، لما اشتعلت دول بأسرها مباشرة عقب سقوط أنظمة الاستبداد التقليدي، فانقلب العسكر على الثورة في مصر، ومزقت خرائط ليبيا وسوريا والعراق واليمن في زمن قياسي، لتنضاف إلى الخريطة العربية دويلات كارتونية جديدة، لا دور لها إلا التقتيل والتخريب والتهجير. كل هذا يحدث، والغرب يتفرج متربصا بما سوف تؤول إليه معركة القرن، ليعيد تقسيم الأدوار والمهمات والغنائم، كما كان قد وزعها أسلافه عشية استقلال العالم العربي والإسلامي.
لكن التاريخ سوف لن يكرر نفسه في هذه الحالة، لأن ظاهرة التطرف لم تعد سلوكا مؤقتا، سرعان ما يتلاشى بتبدد التنظيمات وزعاماتها، وإنما أصبحت فلسفة إيديولوجية أو إيديولوجية فلسفية بأفكارها ومنهجياتها وتخطيطاتها، تمكن صانعوها من نشرها عبر الكرة الأرضية مستثمرين عالم الإنترنت والإعلام الجديد والعولمة، وهكذا أسسوا ما يشبه مدرسة كوكبية تستقطب الطلاب من جهات المعمورة. فرغم موت بعض شيوخ الفكر التطرفي واختفاء البعض الآخر (بن لادن، الظواهري، الزرقاوي، البغدادي...)، فإن عُودَ أفكارهم يشتد مع مرور الأيام وتقادمها، فتنتشر كالشرر على النار. وهذه الوضعية سوف تستمر وتتمتن، بلا ريب، في المستقبل القادم لعدم وجود مقاربة شمولية متوازنة لظاهرة التطرف، سواء في الغرب أم في العالم الإسلامي.
أعود لأؤكد ثانية بأن المقاربة المنتهجة اليوم في العالم لتفكيك ظاهرة التطرف والإرهاب تشهد قصورا كبيرا، ما دامت تركز على الاستراتيجية الأمنية والمخابراتية التي ترسخ فكرا متطرفا موازيا أو مضادا، لأنها تحاول تفكيك عرى التطرف عبر ممارسات وملاحقات أمنية أشد تطرفا، لا سيما وأنها تنبني على آليات الطرد والملاحقة والعنصرية والترهيب، في الوقت الذي يحتاج فيه المتطرف إلى من يأخذ بيده، ويصحح مساره، ويدمجه في مؤسسات المجتمع. إن التعاطي الأمني ينبغي أن يكون مجرد عنصر وقائي واستباقي يمكن اعتماده كآلية لحماية المجتمع وتوجيهه ضد أعمال الإرهاب، كما يُحمى بالضبط من غير ذلك من الجرائم. أما المقاربة الحقيقية فهي تستوعب حياة الإنسان منذ ولادته، إذ يعمل المجتمع منذ البداية على تكوين مواطنين فاعلين وإيجابيين يُربون على ثقافة التسامح والحوار والاحترام، ويتم ذلك ضمن مختلف مؤسسات المجتمع من أسرة ومدرسة ومسجد وجمعية ومستشفى وسجن وإعلام وغير ذلك.
غير أننا عندما نعرض هذه المقاربة الشمولية ونوازنها بما هو مهيمن من أفكار في مؤسساتنا التربوية والدينية والإعلامية والثقافية، نجد أن ما آل إليه واقعنا الإسلامي يعتبر نتيجة منطقية لطبيعة الأفكار والمحتويات والقيم التي تعلم في الكثير من مدارسنا، وتقدم في العديد مساجدنا، وتعرض في أغلب وسائل إعلامنا. وهذه المؤسسات (المدرسة، المسجد، الإعلام) تشكل عصب الأمة، فهي تعكس حالها، وتحدد مآلها. فإذا اعتراها خلل ما، فإن ذلك سوف ينعكس بشكل سلبي على جيل بأكمله من الأمة، ينحرف عن جادة الصواب، ويشذ بأفكاره عن المحجة البيضاء. ولعل هذا جانب مما أصاب حركات التطرف الجديدة التي تربى روادها ومريدوها بين أحضان مساجد ومدارس متزمته وتحت تأثير إعلام هدام.
أقتصر في هذا الصدد على حالة الواقع الإسلامي في أوروبا في علاقته بمسألة التطرف الديني، خصوصا وأن الهجمات الإرهابية الجديدة تم تنفيذها في السياق الفرنسي الذي يحتضن ملايين المسلمين، ويشهد من فينة لأخرى توترات وتشنجات ما بين الشريحة المسلمة والعلمانية الفرنسية. عندما نتأمل مناهج التربية الإسلامية المعتمدة في التعليم الإسلامي نجد أن الكثير منها لا يزال مبطنا بالأفكار التقليدية المتشددة التي تميز بين دار الإسلام ودار الكفر. وهذا ما ينطبق كذلك، بشكل أو بآخر، بالعديد من المساجد التي تخرّج منها متطرفون غادر حوالي ألف مقاتل منهم إلى سوريا من أجل "الجهاد". أما مؤسسات المجتمع المدني، فإن معظمها منشغل بمهرجانات الرقص والغناء، بدل الانكباب على تأهيل الأجيال المسلمة الصاعدة عبر التكوين والتربية والتوجيه، في حين تُشوه صورة الإسلام بشكل فادح في العديد من وسائل الإعلام المناوئة، ولم يفلح ملايين المسلمين في تأسيس إعلام استراتيجي قوي للرد العقلاني على حملات التشويه والتنميط.
جملة القول، إن هجمات باريس الأخيرة التي أطلق عليها إرهابيون دواعش "غزوة باريس المباركة" التي جرت فصولها في ظروف عالمية مشحونة تهيمن عليها لغة السلاح والدم والفوبيا، عرّت في الحقيقة الخلل العميق الذي تشهده منظومة الاستخبارات الفرنسية والدولية، لا سيما وأنها فشلت في الاستشعار الاستباقي بهذا الحدث رغم التعاون الأمني الأوروبي والدولي على مستوى رفيع. وهذا معناه أن تكرر مثل هذه العمليات الإرهابية وارد وبشدة في فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية، ليس بسبب الخلل الذي تشهده الأجهزة الأمنية والاستخباراتية فحسب، وإنما بسبب اندساس مئات الدواعش بين أوساط اللاجئين السوريين وتسللهم إلى مختلف المدن والعواصم الأوروبية، وهذا ما كشفت عنه بعض وسائل الإعلام قبل أسابيع، كقناة نوفا البلغارية، وإذاعة أوروبا 1 الفرنسية، فهل تنبه صناع القرار الأوروبي لهذه المعطيات الخطيرة التي تؤكد أن الخطر الداعشي بات يتهدد اليوم أوروبا في عقر دارها؟ وما موقع الشريحة المسلمة مما حصل في مدينة الأنوار وهو مرشح للوقوع في أي عاصمة أو مدينة أوروبية أخرى؟ هل وعت الشريحة المسلمة بأن ثمن ذلك سوف يكون باهضا ليس على مستوى حملات الإعلام والسياسيين فحسب، وإنما من خلال الخناق القانوني الذي سوف يشتد أكثر باسم محاربة الإرهاب وحماية المجتمع؟
وسوم: 642