والبغي يصرع أهله والظلم مرتعه وخيم
والبغي يصرع أهله
والظلم مرتعه وخيم
رائد شريدة
قاسيةٌ هيَ الظروف، وصعبةٌ هيَ الأيام، وتراجيديا السنين تطرقُ كلَّ الأبواب المغلّفة بالضباب، وبهيمُ الليل يخيّمُ في كلّ الأرجاء؛ لينشرَ آفةَ البلاءِ والوباء، أيامُنا رحلةٌ قصيرةُ المدى طويلةُ التجربة، تغوصُ في وحلِ التناقضات، وتسبحُ في المياهِ الراكدةِ الموبوءة، تعجنُ من المستحيل خبزاً يقتاته الفقراءُ والمُعْوَزون، وتجاهد أن تكون... لكنها لا تكون، وحشُ الحياةِ يفترسُ البراءة، ويغتالُ بسمةَ النفسِ المتهالكة، ويباغتُ بسمومِهِ النافذةِ ضحكةَ الحياةِ المترنحة، تتساقطُ وريقاتُ السعادةِ في دروبِ المقتِ والكراهية، وتعزفُ لحنَ الرجوعِ الأخيرِ بقايا من رمادٍ آدميٍّ تناثرَ على صفحة الأرض، والبغيُ يزدردُ فاهُ في طريق الحقّ، يلتهمُ بقيةً من حياءٍ وحياة، وألوانُ الطغيانِ تخيّمُ في فضاءاتِ الوطنِ المترنّحِ كلِّه، قتلٌ هنا... وعذابٌ هناك... وأنينُ الجرحى يصدح... وأنّاتُ المعذبين تنوءُ بالأحمال الشديدة، وتشريدٌ يقضُّ مضاجعَ الأرضِ البتول... وبيوت متهدمةٌ راكعة، كلُّ بيتٍ فيها يحكي قصةَ رَجْعِ الحكاياتِ القديمة، فمن لؤنها تنسلُّ الحقيقةُ المريرة، ومن صداها تُولدُ كلَّ يومٍ قصةٌ جديدة، ومأساةٌ وليدة... سرعان ما تكبر حتى تغدوَ عملاقاً تصعب السيطرة عليه.
نعم، هكذا عوّدتْنا الحياة، وهكذا عانقتْنا بمخالبِها المفترسةِ وأنيابِها الدموية، حضنتْنا في سريرِ الموتِ الدافئ، وغطّتْنا بالقتلِ والدماءِ والأنواء، فكنّا بكل لونٍ وطيفٍ مجموعةً متناثرةً من فُتاتِ الماضي والحاضر، والمستقبلُ وحدَه هو الضائعُ في متاهةِ النسيان، ولكن... هيهات أن يغالبنا الموت، وأن يجلدنا العذاب، وأن يغزونا جيشُ الشر، فهمتنا تفجّر الجبال، ونستطيعُ بالعزمِ والإرادةِ أنْ نقهرَ المُحال، ونغدو أسوداً تنسف الشر نسفاً، وتعصف به عصفاً، عندها ينقلبُ السحرُ على الساحر، وتبزغُ الحقيقةُ جلية المعالم (أنّ الحديد بالحديدِ يُفلَح)، وأنّ الظلم بالظلم يزول، مصداقاً لقول الشاعر حينما قال:
والبغي يصرع أهله والظلم مرتعه وخيم
فإلى الوحدةِ والتكاتف نرنو، وإلى العزيمة والإرادة التي تقهر المستحيل نتطلعُ بعيونِ الشبابِ المتوقدة، واثقين أنّ مسيرةَ ألفِ ميلٍ تبدأُ بخطوةٍ واحدة، وأنّ ظلامَ الليلِ سيزول، وينبلج الصبح متلألئاً، نتخذ شعار الشمعة التي تحرق نفسها لتضيء لغيرها ظلام الليل، فقد صدق قول الشاعر:
يا دامي العينين والكفينِ إنّ الليــل زائل
لا غرفة التوقيف باقيةٌ ولا زردَ السلاسل
نيرونُ مات ولم تعد روما بعينيها تقاتـل
وحبوب سنبلة تموت ستملأ الوادي سنابلْ
نعم، فحبوب سنبلة تموت ستملأ الوادي سنابل، فإلى العمل وإلى الإنتاج والإبداع، وإلى بناء وطن للجميع، نطهره من رجس الظلم وأهله، ظلم احتلال لا يرحم، ومستعمر أبى إلا أن يطعن جسد الوحدة والصمود، ولكن أنّى له ذلك.
فما نالتْ أمةٌ نصيبَها من رغدِ العيشِ إلا بهمةِ السواعدِ الأبيةِ التي تقبضُ على الجمر، وتمشي في فيالقِ النصرِ نحوَ حُلُمِ الدولةِ الوطنِ الذي تَوَطَّنَ في قلوبِنا قبلَ أن يسكنَ ترابَ الأرضِ وصخورَها، واستقرّ في خلايانا قبل أن يمتزجَ بذرّات الأرض الحرة، فكنّا نحن الأرض، والأرضَ نحن... يتوثّبُ الترابُ معانقاً صخورَ الأرضِ وتضاريسَها؛ لتكتمل وحدةُ الحقيقةِ والمنطق، وتتكاثف الجهودُ الجبارة؛ لترسمَ من المستحيلِ الواقعِ لوحةً جميلةً منسابةً كخريرِ الماءِ بين ثنايا الوطنِ كلّه. عندها فقط يمكنُ أن تنطق الشفاهُ المتيبّسةُ بأحقيةِ الوطنِ السليب، بعيداً عن شرذمةِ التقوقعِ والتخاذلِ والتبعية، وتنشدُ الأفواهُ المكلومةُ أنشودةَ الأملِ المزهوِّ المعطّرِ برائحةِ التراب، وعندها تترنمُ الأرضُ بفضائها وسمائها وإنسانها وتضاريسها، لتعلنَ للأجمعينَ من البشرِ ميلادَ الحريةِ الوليدة، واغتيالَ الظلمِ والقهر، وقتها تتفتح الآمالُ المرجوّة، وتضحك الحدائق الغنّاء، وترقصُ الأزاهيرُ المزركشة على وقعِ أغنيةٍ عذبةٍ يرددها المغنّونَ والمطربون، فيترددُ صداها موجةً عارمةً من الفرحِ الغامرِ الذي يغمر مِساحاتِ المعورة... حينها نكون قد وقّعنا بالدمِ والشرفِ أروعَ البطولاتِ وأعظمَ الصولاتِ التي تخبرُ الأجيالَ اللاحقةَ بأنّ الوطنَ ليس بيتاً نختبئُ فيه من حرارةٍ ملتهبة، وشتاءٍ زمهرير، وليسَ كلماتٍ ترددُها أفواهُنا ونستخدمُها في معاجمِنا اللغوية، وإنما هو عشقٌ متجذّرٌ في مفاصلِنا وهُويتِنا... ليظل الوطن باقياً رغمَ أنفِ الحاقدينَ إلى الأبد، وإن ذهب الروح والجسد.