اعتذر من اعتذاراتك

(مَن لا يركض إلى فتنة العشق يمشي طريقا لا شيء فيه حي.

جلال الدين الرومي

1-           مقام العشق...

.. على خفقة من هبوب وشيك، ينذر بهدوء مباغت، حلّقت بقلبي المتعب في فضاءات العزلة العارية، ولمّا مرت العاصفة، ولجنا كهف الذكريات، ورحنا نتجاذب أطراف الحنين، فتذكرتُ الأمكنة التي قطعناها، الأزمنة التي عشناها: كان يومئ إلى مواطن الجمال، فأتبعه بلا تردد، يشفق على لهفتي فيميل إلى التسارع، ويخاف عليها فيميل إلى التباطؤ، لم تظهر عليه أمارات الشكوى، ولم تبد عليه علائم التعب من قبل، وفجأة -وعلى غير موعد- يكاد يقع، وأكاد أقع معه.‏ وبالمقابل نظر إليَّ بحنو، وتذكّر كيف أنه (تضخّم) ليتسع للأسماء والعناوين والملامح والمواعيد، تلك التي أودعتها في خفقاته، وأوصيته بكتمانها، لأنّها تتمتع بحصانة عاطفية خاصة، ولهذا رفض فكرة التخطيط الكهربائي، خوفاً مما قد يسقط سهواً على تلك الخطوط المتعرجة الغامضة الواضحة.‏ سألته: ما الذي يتعبك ويؤلمك، وأنا عاطل عن الحب؟

أجاب: ذلك ما يتعبني ويؤلمني.‏ عندها دخلنا معاً مقام العشق، فتناثرت الأسماء والعناوين والملامح والمواعيد، وذلك على خفقة من هبوب ينذر بهبوب وشيك.

2-           مقام الشعر..

تأخر الشعر ولم يهطل الندى على صحراء القلب، بحثت عنه في كل مكان دون جدوى، قيل لي: تجده في الشذا فتحولتُ إلى وردة تعرّفتْ على كلّ أنواع الشذا إلا واحداً هو الذي تريده، ثم قيل: تجده في النار، فتحولتُ إلى حطب يابس ولذت بموقد عتيق، لكن الشتاء لم يأتِ، وقيل: عليك بالعيون الناعسة الحالمة، فأخذني النوم بعيداً بعيداً، وقيل: الدنيا خريف.. وهو بالتأكيد سيهدهد الأغصان العارية فتعريت حتّى من ظلي، وقيل وقيل.

شعرت باليأس، فنسيت الموضوع، وتوقفت عن البحث، وتساءلت: كيف سأصعد بالروح إلى صوتها؟ ومن سيوقظ الفرح في قلبي بعد اليوم؟ وبماذا سأطرق باب مملكة الحزن المؤبد؟ وماذا سأفعل إذا طالت الإيماءات ولم يأت الكلام؟‏..

وذات صحو مؤجل، استيقظت متأخراً، فوجدته يخطُّ في دفتري قصيدة جديدة، غامت عيناي حباً، وأمطرتا فرحاً.‏ سألته: لماذا كلّ هذا الغياب؟..

أجاب: لأنّك كنت تبحث عني.‏ قلت: ولماذا أتيت الآن؟‏ فقال: لأنك توقفت عن البحث.‏ ودعني على أمل القصيدة، وأوصاني أن أترك النوافذ مفتوحة، فهو لا يحبُّ الدخول من الأبواب..

3-           مقام الموت..

كانت طيور الضوء تخبو لترسم سماوات صمتها بطيئاً بطيئاً، وكان الظلام يسرّح قطعان الشعر في براري الكلام، عندما دخل الموت واثق الخطوة وسألني: هل كنت في انتظاري؟ أجبت: أنا في انتظارك دائماً، دعوته إلى الجلوس فوافق، حدثني عن ذكرياته فلم أرتجف، سألني عن أسماء أصدقائي فأكدت له أنني نسيتها، سألته عن الشعراء الراحلين وعن رسالة الغفران فضحك ولم يجب، سألني عن رغباتي الأخيرة فقلت: إنني أريد كتابة وصيتي الأخيرة، فلم يمانع شريطة أن يتم ذلك بإشرافه، وهكذا رحت أكتب وراح يقرأ، كانت الوصية بطاقات اعتذار.

الأولى: اعتذار من الشعر لأنني لن أستطيع أن أكمل قصائدي المعلّقة في شق القلم منذ أمد بعيد،

والثانية: اعتذار من الحب لأنني لن أستطيع بعد اليوم السير في الدروب القصية التي تطل على شرفة الروح من نافذة القلب، والثالثة: اعتذار من الأصدقاء لأنني لم أستطع أن أحبهم أكثر، والأخيرة: اعتذار من العنب لانشغالي عنه بإزعاج النواطير، ولم أنسَ أن أكتب عنواني الجديد على الهامش.

طويت الوصية، ونهضت لأشكر الموت لفتته الكريمة، وأخبره بأنني على أهبة الرحيل، لكنني لم أجده، إنّما وجدت ورقة كتب عليها: (اعتذر من اعتذاراتك وسنلتقي لاحقاً).‏ المساءات الجليلة تلمّ قطعانها التي سرحتها، وطيور الضوء تتأهب للتحليق من جديد، والعجائز يغادرون ذكرياتهم، والوجوه تأوي تجاعيدها، بينما أدخل مقام الموت بكل ما أوتيت من حياة.‏

وسوم: العدد649